طلال سلمان

هوامش

الأمة التي »تأكل« أبطالها قبل أن تجوع: المهدي بن بركة!

دخلنا بهو فندق الكابيتول، في ساحة رياض الصلح، متهيّبين، زميلي في مجلة »الأحد« التي كنت أتولى إدارة تحريرها، رفيق خوري، وأنا: كان الموعد مع »زعيم عربي كبير« آتٍ من المغرب الأقصى، يسبقه وهجه كمناضل ذي سمعة عالمية: المهدي بن بركة.
لاحظ ارتباكنا فتباسط معنا مفتتحاً الحديث بسؤالنا عن لبنان وأحواله، مبدياً إعجابه بحيوية شعبه وبالدور المتميز الذي تلعبه بيروت، كمنتدى ثقافي وشارع وطني وصحافة تتمتع بهامش واسع من الحرية، في خدمة العروبة والقضايا القومية.
كنا لا نعرف من أين، بالضبط، نبدأ معه الحوار: أمن المغرب حيث الحزب الذي يتصدر موقعاً قيادياً فيه، وحيث تقوم علاقة شديدة التعقيد بينه وبين العرش.. فالاتحاد المغربي للقوى الشعبية (الذي سيغدو في ما بعد حزب الاتحاد الاشتراكي) يتحدر من صلب »حزب الاستقلال« بقيادة علال الفاسي، الذي يكاد ينافس العرش في شرعيته الشعبية… أم من أنه، المهدي بن بركة، صديق شخصي ورفيق سلاح لقائد الأمة، آنذاك، جمال عبد الناصر، كما أنه على صلة نضالية بقادة الثورات جميعاً، في أفريقيا بداية التي كانت تموج بالنزعة إلى التحرر، وفي آسيا، وصولاً إلى كوبا تحت قيادة فيديل كاسترو ومعه الثائر الأممي الأبرز تشي غيفارا.
كذلك فالمهدي بن بركة كان أحد أبرز أركان حركة عالمية تنادي بتحرير الجنوب (أي العالم الثالث إجمالاً)، وهي »الوجه الشعبي« لحركة عدم الانحياز التي كانت تستقطب معظم الدول حديثة الاستقلال التي تبحث عن طريقها إلى حماية استقلالها الوليد بالتحرر الاقتصادي واستعادة مصادر ثروتها الوطنية.
اخترنا مداخل إلى الحديث الحميم، كأن يحدثنا عن علاقاته بأولئك العظماء الذين كانوا قد فرضوا أنفسهم كأقطاب في السياسة الدولية، مستندين إلى زخم التأييد الشعبي الذي يحظون به في بلادهم، وإلى التضامن بل الرعاية التي خصهم بها الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي عموماً والصين، وإلى تفهّم بعض الدول الأوروبية، فشكلوا محوراً عالمياً يحسب له حسابه بين القوى المؤثرة في السياسات الكونية.
أذكر أن ابتسامته كانت جذابة، وأن لغته العربية باللكنة المغربية كانت ممتازة، وأن ثقافته السياسية كانت واسعة بغير حدود، بنتاجها الإجمالي من التجارب والمعرفة الشخصية بقادة الأحزاب والرأي في معظم البلاد العربية والأفريقية، مع تميّز بصداقات وثيقة تربطه بمعظم قيادات الأحزاب الشيوعية والاشتراكية في أوروبا الغربية، وعلاقة حوار مفتوح مع أهل الرأي والثقافة والإعلام في فرنسا خاصة، تعزز من اطلاعه ومعرفته بحقائق الأمور، ما يجعل حماسته تستند إلى يقين، وتحليلَه يستند إلى قراءة دقيقة للمواقف وردود الأفعال المتوقعة، وبالتالي فإن حساباته دقيقة لا تقوم على العاطفة أو الانفعال أو الأحكام المرتجلة.
كانت عيناه تشعان ذكاء، فإذا تحدث تدفقت الوقائع والمعلومات فتزيد من انبهارنا بشخصه، خصوصاً أنه ظريف، سريع البديهة… وربما لهذا تعامل معنا بقدر عقولنا ومعلوماتنا.
سألنا كثيراً وأجاب بإفاضة. كان عظيم الثقة بقدرة الشعوب على بناء مستقبلها الأفضل: في الشعوب طاقة هائلة، وهي تعطي بغير حساب. المهم قدرة القيادات على التوظيف الصحيح لهذه الطاقة ولهذا العطاء الذي نقدر به على أن نغيّر العالم.
قلنا: إذاً، سيكون لشعوبنا الفقيرة مكان بين عمالقة العالم..
ضحك وهو يرد بسرعة: هل تعيّرني بقصر قامتي. إن الشعب هو العملاق، والأفكار هي منطلق التغيير، والإيمان يحقق المعجزات حتى بالنسبة إلى قصار القامة.
ضحكنا لطرافة تعليقه فأكمل يقول عبر القهقهة: في أي حال لديّ ثروة من الأصدقاء طوال القامة… لعل جمال عبد الناصر وفيديل كاسترو وتشي غيفارا وسيكوتوري يعوّضون عيبي.
* * *
ترك المهدي بن بركة بيروت قبل أن ننشر الحوار معه في مجلة »الأحد«… فأرسلنا نسخة منه إلى العنوان الذي حرص على أن يعطينا إياه لضمان التواصل، وحتى لا يكون اللقاء الأول اللقاء الأخير.
لكن اللقاء الأول كان، بالفعل، اللقاء الأخير، فبعد أسابيع قليلة من مغادرته بيروت، جاءت الأخبار عن »اختطاف« المهدي بن بركة في باريس من مقهى كان يواعد فيه أصدقاءه على التلاقي.
ثار المغرب كله. ثارت الأمة العربية بجميع أقطارها. وكان واضحاً أن ثمة في الأمر مكيدة ملكية. وغضب رئيس فرنسا، آنذاك، الجنرال ديغول، فتمّ اتهام العرش المغربي بالوقوف وراء الجريمة، خصوصاً بعد ثبوت التواطؤ بين الاستخبارات الفرنسية والمخابرات المغربية بشخص من بات في مثل شهرة يوضاس: الجنرال محمد أوفقير.
وليس إلا في حزيران من العام 2001 دقت الساعة لتوليد الحقيقة التي كانت قائمة ولكنها تحتاج إلى اعتراف صريح: إذ اعترف ضابط سابق في المخابرات المغربية يدعى أحمد البخاري، بأن المهدي بن بركة اختطف من أمام مقهى »ليب« في الحي اللاتيني، بباريس، واقتيد إلى فيلا في إحدى الضواحي حيث تعرض لتعذيب فظيع على يدي الجنرال السفاح. و»بعد أن مات تحت التعذيب نُقلت جثته إلى المغرب، وأذيبت في حوض من الأسيد«.
* * *
في الجاهلية كان العرب يجعلون لهم آلهة من تمر، فإذا جاعوا أكلوها..
في أيامنا هذه »يقتل العرب أنبياءهم« ثم يهيلون عليهم تراب النسيان حتى تخلو الذاكرة إلا من أسماء الحكّام الجلادين.
وأمس، قلة هم من استذكروا هذا »النبي« العربي الذي أسهم مع رفاق له في توطيد الرابطة بين المغرب والمشرق، بعدما كان قد خاض تجارب ثورية عظيمة منذ نعومة أظفاره.
* * *
المهدي بن بركة واحد من أعلام النضال العربي في الزمن الجميل، يوم كان المغرب قريباً إلى المشرق قرب الوريد إلى الوريد، ويوم كانت الآمال على مدى الذراع لو أننا مددناها… لكنها كانت مغلولة إلى الرقبة.
اليوم، تبدو دمشق في بُعدها عن بيروت كأنها في قارة أخرى، فكيف بالمغرب الذي كان أقصى والذي هو اليوم خلف الحلم.
حاشية: في استطلاع رأي أجري بين الشباب المغربي تبيّن أن ثلاثين في المئة منهم يتذكرون اسم أحد مؤسسي المقاومة الشعبية ضد الاستعمار، أحد أبطال معركة الاستقلال، أحد أبطال الجبهة الخلفية لثورة الجزائر، المهدي بن بركة.
مَن نسي ماضيه فلا مستقبل له. مَن »أكل« أبطاله ليسد جوعه ضلّ طريقه إلى غده ولم يتعرّف إلى نفسه أبداً!

عن الزجل وبعض شعرائه و… دبوره!

أيام زمان، كان الشعر شعرين: القريض والزجل، وكان لكل نوع من الشعر جمهوره العريض، وإن تداخل الجمهوران في حالات مشهودة، خصوصاً أن بعض كبار الشعراء »قالوا« الزجل معنى وقرادي وقصائد شروقي فضلاً عن الغزليات الرقيقة والأناشيد والأهازيج والمراثي التي كانت لها »جوقاتها« المحترفة القادرة على تحويل العزاء إلى ما يشبه »المهرجان« الانتخابي.
ولقد عرفت العديد من الشعراء الشعبيين، وهي صفة تميّزهم عن أهل القريض، وطربت للكثير مما قالوه في الفخر أو في هجاء الخصوم، وفي الصبابة أو في التغني بلبنان »قطعة السما« و»هَالْكَم أرزة العاجقين الكون« والذي »يطرطش« الدنيا علماً وعبقرية.
اليوم، نفتقد فرسان هذا اللون المبهج والمثير للحماسة من الشعر الشعبي، الذين كان لكل منهم مناصروه ومؤيدوه ومحازبوه المستعدون لتحويل »الهوبرات« و»المراجل« من »ردات« كالصوان إلى عراك قد تكون الحجارة التي من صوان بعض أسلحته.
أمس، احتفلت عبرين، القرية النائية في قلب »جرود« »بلاد البترون« و»البلاد« تعبير عتيق كان يستخدم في توصيف المناطق النائية عن العين والقلب والاهتمام الرسمي بديوان شاعرها الشعبي الذي اشتهر بلقبه »دبور الزجل« حتى كاد اللقب يغلب على الاسم: يوسف بطرس بوموسى.
ولقد عرفت »دبور الزجل« في سهرة ممتعة في بيته في عبرين، تلاقت فيها مجموعة من رفاق العمر و»القول« ضمت كلاً من الراحلين: السيد علي حسن الحسيني وحسين سلمان (منشئ مجلة »بنت لبنان« للزجل، التي لم تعمر طويلاً) ويوسف حسون وحفيظ فرحات، وبعض الأصدقاء والمعجبين.
وصلنا البيت في أولى ساعات المساء، ولم نغادره إلا مع الساعة الأولى من النهار الجديد. كانت جلسة ممتعة استعاد فيها الشعراء شباب قصائدهم ومباسطاتهم وحملات الذم والتشهير حتى سكر الليل وسكرت الماعز في الزريبة القائمة عند الزاوية اليسرى لتلك »العلية« التي شهدت مذبحة مطهرة بالعرق البيتي.
تبدى أن لقب »دبور الزجل« ليس استعارة ولا هو من باب التشهير، بل توصيف واقعي لذلك »المعاز« الموهوب مرتين: القريحة والظرف.
ضحكنا حتى التعب ودارت الأقداح حتى دار البيت بالمتجمعين من حول المواهب الآخذة بالأفول، بمرور الزمن وليس بنضوب القريحة.
ديوان »دبور الزجل« سيقرأه عشاق هذا الفن الشعبي الجميل ما عدا صاحبه والصحبة التي ظلت تحفظ الود حتى دهمها الرحيل فذهبت من دون إعلان عن وفاتها. كان الشعر الشعبي قد دخل في غيبوبة الإشراقة الأخيرة بعد رحيل جمهوره.

الدخول في الأسطورة

انبثقت الأغنية كما تشق الصخر فجأة زهرة برية.
تدفق الصوت الجميل رقراقاً، حنوناً، شجياً، فحمله وطار به إلى ذروة اللذتين وهدهده الخدر فهمست روحه: الله!
ترنح النور وهو يتكسّر على الجسد الذي شف فتداخل مع النغم المشجي وضاعت الحدود بين الفم واليد والفؤاد والخاصرة التي ذابت فأذابت معها الأصابع التي صارت أفواهاً تستقي فتسقى بغير منة.
توالدت المرأة في الظلال ملهوفة، منتشية، مغسولة بماء الحياة، مغتصبة، متوسلة، متجبرة، متعاظمة في انكسارها، يشرب فلا يرتوي وتشربه حتى يجف اللهاث.
تقطعت الكلمات، ارتبك اللحن الذي يسكن الوجدان بين الشهيق والزفير. صارت الأغنية سيمفونية للشهوات تتكسّر عند عنق جمهورها المغرد.
ذوت الشمعة وهي تحنو على المشهد البهيج فتدخله دائرة الحلم ثم تستخرجه لتعبث به قليلاً، ثم تدخله كرّة أخرى، فلا يفسد الحلم ولا يتوقف شهيق الشمعة.
لم يكن بهما حاجة إلى الضوء. العين سراج، واليد تعرف مسارها، وكل تعريج دليل ولكل دليل مهبط، وفي كل مهبط من يصحح المسار.
هبّ يطارد العطر حتى لا ينشر أريجها فيغمر الحي كله ويتغلغل في السيارات العابرة ويقتحم نوافذ البيوت التي يتلطى خلفها المتشوقون لأن يطربوا بهسيس الحريق.
خاف أن ينتقل اسمها مع تنهداتها منغما.
وأسعدها خوفه من أن يحمل العطر ملامح جسده…
همس: الحب سرّنا الذي يقتله الضوء.
قالت: الحب كنزنا، وعلينا أن نغلق عليه العيون.
صمت… كيف يحبس الهواء؟ هل حبه عقوبة للآخرين، أم أن الآخرين جلادون يطاردون الحب حتى القتل.
قام ففتح النوافذ: ليكن الحب مشاعاً ولندخل في الأسطورة التي بالكاد خرجنا منها.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
الغيرة جلاد الحب أما الشك فيقتله ألف مرة في اليوم.
كيف لي أن أشك في من أعيش له، وأحلم به في حضوره، وأرافقه في غيابه، وكيف يبقى فيَّ الجلاد والحب يطهرني حتى أشتهي أن أستشهد حباً؟!

Exit mobile version