طلال سلمان

هوامش

اقرأوا أوطانكم قبل أن تمّحي: مذكرات واصف جواهرية
ممتع هو التاريخ إذا ما مازجته الجغرافيا الإنسانية لمدينة في مثل عراقة القدس وأهميتها في الدين والدنيا للناس كافة، فكيف إذا اتخذ السرد شكل السيرة الذاتية ل»صعلوك« عاش حياته كما يرغب في ان تكون، ولم ينظر إلى نفسه لحظة، وكأنه من صنّاع التاريخ او حتى من كتبته او من رواته.
لقد أتحفنا واصف جواهرية، من حيث لم يقصد، بالسيرة الذاتية لمدينة القدس، بعائلاتها جميعاً، الغنية منها بالمال او العريقة بالوجاهة، او المشهورة بتوارثها المهن ذات التقاليد، وكذلك بالشخصيات التي لها ما يبرر ذكرها كأن تكون معروفة بإتقانها ضرباً من الفنون، كالغناء او الموسيقى تأليفاً وعزفاً على آلة او بعض آلات الطرب، او الرقص، او التسكع في الملاهي والمقاهي وتنظيم الحفلات الخاصة لتفريج الكرب.
إنه يعرّفنا على القدس بأحيائها وبواباتها جميعا، وكلها تحمل عبق التاريخ، وعلى الحياة اليومية لناسها في فترة فاصلة من تاريخها الطويل تمتد ما بين سقوط الامبراطورية العثمانية واستتباب الأمر للاستعمار البريطاني بعد انتصار »الحلفاء« على »المحور« في الحرب العالمية الاولى.
… وهي هي الفترة التي قامت فيها الثورة الاشتراكية العظمى لتنهي الامبراطورية في روسيا فتقيم على انقاضها الاتحاد السوفياتي، ولتفضح الكثير الكثير من المؤامرات والدسائس وعمليات التواطؤ بين المستعمرين على الشعوب، ومن ضمنها الكشف عن وعد بلفور الذي منحه الاحتلال البريطاني لليهود بأن تكون فلسطين وطناً قومياً لهم على حساب أهلها الذين عاشوا لها وفيها على امتداد الدهور… وهذا ما يذكره عرضا واصف جواهرية، ليركز من ثم على نتائجه كما شهده بنفسه على أرضه وأهله.
»القدس الانتدابية في المذكرات الجواهرية« في جزئين هو سجل ليوميات هذا الفنان التائه، بلياليها الماجنة وكل ما حفلت به من ضروب الصعلكة والتشرد. يسردها بعفوية وصدق جارح، احياناً، إن على المستوى الشخصي او على المستوى السياسي، مطمئناً الى ان »النقاد« او »المؤرخين« لن ينظروا الى هذه اليوميات الا على انها كتابات شخصية لعازف بزق او رق او عود او طنبورة، عنده ذائقة فنية جيدة استطاع ان ينميها ويثقفها برغم انه صار من بعد موظفاً ثم ارتقى في سلم الوظيفة مفيداً من صداقاته ومنادميه الذين كانوا قد باتوا في مراكز القرار في الادارة المحلية للمدينة المقدسة، وكان في كل الحالات وطنيا من بيت المقدس في فلسطين العربية.
إنه يروي، مثلا، انتهاء دهر السلطنة العثمانية نتيجة الهزيمة في الحرب العالمية الاولى وقدوم المستعمر الجديد، بريطانيا، بهذه السطور:
»طلع فجر الأحد 17 كانون الاول علينا وإذا القدس اصبحت في يد الانكليز… لكننا لم نكن ندرك آنذاك ان هذا الاحتلال اللعين سيكون نقمة على وطننا العزيز.
»… كنت ترى الناس يقطعون خطوط التلفونات التركية من الشوارع ويأخذونها الى بيوتهم. وهناك من شن غارة ليصطاد بغلا او حمارا.
»… ولفت نظرنا تعلق اليهود بالجيش البريطاني. كنت ترى الجيش وهو في طريقه إلى المدينة محاطاً بآنسات من اليهود، من جهتي الطريق، يرافقنه ويؤانسنه ويتكلمن مع جنوده باللغة الانكليزية«.
بعد سنوات قليلة ستتضح صورة هذه العلاقة أكثر فأكثر فيسجل واصف جواهرية:
»اثر ثورة 1929، أنشأت حكومة الانتداب قوة مسلحة من شباب اليهود وسمتها »بوليس المستعمرات«، تابعة لادارة الأمن العام، ورخصوا لليهود بتأليف فرق عسكرية تابعة للوكالة اليهودية بحجة لزومها للدفاع عن الشعب اليهودي في حالة الطوارئ، وكان ضباطهم وخبراؤهم يدربون أفراد تلك الفرق اليهودية. والأنكى من ذلك كله ان الحكومة زودت المستعمرات اليهودية بكميات من الاسلحة وضعتها في صناديق مغلقة ومختومة.. وقالت ان هذه الصناديق لا تفتح إلا بأمر الحكومة وتحت اشرافها، مع العلم ان هذه الفرق اليهودية هي النواة لمنظمة »الهاغاناه« التي اصبحت في ما بعد الجيش اليهودي النظامي«.
»كان الجيش البريطاني يحمي هذه القوات الجديدة من غضب اهالي القرى العربية، عندما كانوا يتدربون بجوار قراهم وتحت بصرهم.
»وقد وصلت إلى ميناء يافا شحنة مؤلفة من 435 برميلاً، ذكرت أوراق شحنها انها اسمنت وزفت يابس.. ثم سقط احد البراميل وتحطم فتبين انه يحتوي على اسلحة فتاكة«.
…ولأن واصف جواهرية غير مسيس فهو يسرد الاحداث مستخلصاً بعاطفته كما بوعيه البسيط دلالاتها، لكنه بعد ذلك يعود إلى صعلكته. اسمعه كيف يروي ما يتصل بقرار التقسيم. يقول:
»فتحت الترانزيستور بجانبي، وإذ فوجئت (كما كل العرب، على الارجح) بخبر قرار تقسيم فلسطين. كان ذلك في الساعة السابعة من مساء 29 تشرين الثاني 1947. ويا لها من صدمة، أصابني وولدي جورج وجوم ولم ننطق بكلمة واحدة.
»تركت البيت ونزلت إلى شارع مأمن الله وشاهدت العرب متجمعين والجميع يحكي في موضوع التقسيم، وهم في قلق على مصير هذا الوطن، وهل نرى فلسطين وخصوصا القسم الخصب منها »مملكة اسرائيل«؟ وهل في استطاعة العرب والمسلمين الوقوف مكتوفي الايدي ازاء هذا الحكم الجائر ويخضعون لذل المستعمر والصهاينة معاً؟
»… وأما من جهة اليهود فقد قامت الأفراح والليالي الملاح. تركوا منازلهم ليلة 3029 يرقصون ويهللون فرحا طيلة الليل ويسكرون مع الجيش البريطاني في شوارع المدن الرئيسية في فلسطين…«.
***
لكن لمذكرات واصف جواهرية وجهها الآخر المتصل بطبيعة شخصيته كفنان، وعلى هذا فإن لبديعة مصابني التي كانت نجمة كبرى في الثلاثينيات والاربعينيات من القرن الماضي، موقعها خصوصا وقد كانت »تتمتع بقوام فاتن وجمال باهر وبسمة وجه ولطف وكانت تعتني كثيراً بغناء وألحان المرحوم السيد درويش«.. ومع بديعة مصابني لا بد من ذكر الفنان الكبير نجيب الريحاني الذي كان مشهوراً بشخصية »كشكش بك«.
وواضح أن القدس في تلك الأيام كانت عاصمة غنية بحياتها، وكان يقصدها كبار الفنانين فيحيون الحفلات فيها، وبينهم محمد عبد الوهاب، وكان في بداياته، والسيدة أم كلثوم، التي كانت احتلت موقعها في عالم الغناء وعازف الكمان الشهير سامي الشوا، فضلا عن فريد الاطرش والراقصة تحية كاريوكا.
ولقد أسس واصف جواهرية (الذي انتهى لاجئاً ومات في بيروت 1971) متحفاً للآثار الفنية الشرقية في بيته بالقدس، حشد فيه قطعا فنية جمعها قطعة قطعة وهي تعد سجلاً محسوساً لحياة الشعب الفلسطيني الفنية.
أخيراً فالمذكرات سجل بالعين الإنسانية لاعظم مدينة في التاريخ، بأحيائها الاصلية، قبل ان يهوّد معظمها الاسرائيليون، وأصل هذه التسميات، وبواباتها جميعا ودلالات هذه البوابات، ثم ببشرها بدرجاتهم ومستوياتهم الاجتماعية المختلفة أشرافاً ومناضلين وموظفين ووجهاء وسوقة وصعاليك.. أي الناس.
صارت أوطاننا كتباً او سطوراً في كتب، فأقرأوا أوطانكم قبل ان تمحى بأيدي الاعداء قليلاً وبأيدينا كثيراً.

صوت دافئ لسجين الموعد المستحيل

رن الهاتف الى جانبه فخاف من رنينه. توهم ان ثمة من يسترق السمع الى افكاره وهو في ذلك »المنفى« البدوي السابح فوق بحيرة من النفط والتخلف.
مد يده، بعد تردد، والرنين يستحثه، فرفع السماعة وقال بما يشبه الهمس: من تطلبون؟
جاءته ضحكتها بشرى؟ نعم ضحتكها.. سيعرفها ولو بعد الف عام من الغياب. هي فريدة في شجاعتها في الاقتحام، وهي متميزة بقدرتها على استشفاف أفكار غيرها، وهي بسيطة في اعترافها بالحقائق الإنسانية.
أين أنت؟! ألا تسمعني؟! ام انك كالعادة قد هربت إلى خيالك بدل ان تعيش معي بلحمي ودمي؟!
قال متلعثماً: بل أنا معك، لكنها المفاجأة افرحتني حتى الذهول.
قالت: اعرف ما تفكر فيه الآن، انت المسحوق تحت شعور أبدي بالاضطهاد. انك ترى نفسك سجين موعد مستحيل في غرفة تطل على الفراغ، والصمت قيد من حديد يلف مدينة للرجال فقط، الا حين يرتفع صوت غير مطرب بالأذان.
رد ليستدرّ المزيد من صوتها المنشي: لم اصل في سوداويتي إلى هذا الحد. فلا بد ان في المدينة آلافاً مؤلفة من العشاق والاطفال والصبايا الحالمات بالحب والازواج المرهقين بأكلاف الحياة اليومية.
قالت وكأنها تكمل كلامه: وبحر المدينة طافح بقصص الحب التي ألقيت إليه في قارورات تبحث عن العناوين المجهولة للأحبة التائهة بهم مراكبهم. لم تسألني بعد كيف عرفت انك هنا، على بعد أمتار مني؟!
على بعد أمتار.. أفضل استخدام الذراع!
ها قد عدت إلى نفسك. توقعنا إذاً، بعد لحظات. لقد جئنا في وفد عظيم إلى الاحتفال الذي تعلن فيه أكاذيب الاعوام التالية.
لم يرد. غرق في صمته مجدداً. وفد؟! احتفال؟! لا بد ان معها كل اولئك الثقلاء من منافقي المهرجانات. أغلق السماعة، وعاد إلى سجن الموعد المستحيل.

الليل يستحم بالهسيس

الخريف عباءة مزركشة تلف بألوان قوس قزح البيت الملفوف بالعرائش والحديقة التي تبدو مضرجة بدماء ورودها وقد خالطها انكسار العنفوان في أوراق الشجر بعدما تهاوت إلى الارض لتمنح نفسها للربيع المقبل.
قال المضيف انه يتمنى لو كان رساماً ليستطيع ان يجعل شعره مرهفاً كأوراق شجر الخريف التي أنهكها عشق العيون.
وكانت إلى الخلف، تتقاسم ارجوحة الحب مع زوجة المضيف، تمسك نفسها عن القفز في اتجاهه، متلهفة لان تراه يطير إليها.
وحين تلاقيا في حومة العناق اختفى المضيفان وهما يحاذران ان يعكر صفو اللقاء بهسيس انسحاق أوراق الخريف.
كان الهواء مضمخاً بالعشق، والأرض سجادة للصلاة.
قاما يستكشفان خمائل حديقة العشق، ويجربان زوايا العناق تحت الشمس، مرة، في ظل شجيرات الورد، مرة أخرى، ويحاول كل منهما اختطاف الكلمات من شفتي خدينه.
سأل فغنت. وألح في السؤال فانهمر عليه الصوت الرخيم شلالاً. أرجحه الصوت وهدهده حتى سال جسده نغما.
رق جسدها حتى صار طيفا، وترقرق العرق فوق صفحة الوجه حتى توهج بالقداسة.
ذاب اللحن لهاثا. ذاب الجسدان عرقا، ذاب السرير عطراً. رفت الملاءة وطارت حمامة تبحث عن وليف.
رفض النهار ان يطفئ شمسه. رفض الظمأ ان يرتوي نشوة. لماذا يحتكر الليل الاستحمام بلهاث اللذة. لماذا يفرض علينا الخيار بين حياة لا تعطينا ما يكفينا لنكون بشرا، وبين احلام تمنحنا إنسانية غير قابلة لان نحياها!
لنكتفِ بالغناء، ولنشرب من خمر الخريف ما يحيي فينا الربيع.
وغنت حتى سمعها القمر فاختطفها وتركه يرجع خائفاً من هسيس الأوراق اليابسة التي احس انه مسؤول عن اعادتها الى صباها.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أضحك ممن يحدثني بلوعة عن الحب المستحيل.
لا استحالة مع الحب. من يمنع الشمس ان تشرق كل صباح؟
الحب ان تعطي وتعطي وتعطي، اما من يريد مقابلاً فلن يرضى أبداً.
من أعطى أحب. ومن أحب أخذ. ومن طلب بقي خارج نعيم الحب.

Exit mobile version