طلال سلمان

هوامش

اللبنانيون و»آلهتهم« الكثيرة ..
في لبنان من »الآلهة« بعدد مواطنيه (وهذا العدد، للمناسبة، سر مقدس لا يُعلن ولا يُعرف إلا تقديراً، خوفاً من الفتنة..).
لكل لبناني »إله« خاص متفرّغ له، لا يستمع لأحد غيره ولا ينشغل بغير مطالبه ولا يهتم إلا بتلبية رغباته القابلة للتعديل في كل لحظة بالإضافة أو بالحذف.
وفي مفهوم اللبناني فإن »الله« موجود لخدمته فقط، وعليه أن يستجيب لكل رغباته، وأن يحققها فوراً وبلا تأخير وبلا مناقشة وبلا تدقيق لفرز ما هو لخيره وما هو للإضرار بغيره فحسب،
اللبناني يطلب في »إلهه« الولاء المطلق: يصادق مَن يرضى هو عليه ويعادي مَن يعاديه هو، من غير أن يكون له حق السؤال عن سبب العداء، وإن بقي عليه واجب إيذاء هذا »العدو« والتنكيل به، وإلا أعاد أخونا النظر في علاقته بالسماء!
ليس أكثر من اللبناني تجديفاً على العزة الإلهية، فاللبناني يختار أن يشتم لأخيه اللبناني »ربه«، مقرراً أن لكل من الناس »رباً« خاصاً ومميزاً على صورته ومثاله،
كذلك فهو حين يتوجه بطلباته الكثيرة إلى »ربه« فإنما يعامله وكأنه منفصل عن »أرباب« الآخرين، بل وعلى تضاد معهم، يقاتل المؤمنين بغيره فوق كما يقاتل »أخونا« المنافسين له تحت..
واللبنانيون يوزعون »آلهتهم« حسب طوائفهم، فهناك »إله« ماروني و»إله« أرثوذكسي و»إله« سني و»إله« شيعي و»إله« درزي و»إله« كاثوليكي، الخ. وهم يبعثون بهذه الآلهة إلى الحروب بالنيابة عنهم، ثم يجمعونها في تظاهرات النفاق الوطني لتبادل العناق وقبلات الكراهية.
ليس من »إله« موحِّد بين اللبنانيين، فإذا ما اتحدوا »فوق« بطُلت التجارات المجزية »تحت« والتي تستمدّ بضاعتها وأرباحها من تعدّد »الآلهة« ومن عراكهم المفتوح أبداً.
مهمة »الإله«، لبنانياً، أن يفرّق بين الناس، وأن يعين بعضهم على بعض، وأن يهدي بعضهم ويمنحهم ويعزهم ويكرمهم ويعلي مقامهم ويزيد في رزقهم وأن يضل الآخرين ويمنع عنهم بركاته وأن يذلهم وأن يعاقبهم في ذريتهم جيلاً بعد جيل بل وأن يقطع نسلهم بالمرة!
وإذا ما استثنينا الحالات الإيمانية الحقة، أو الفولكلور الديني، فإن الاستخدام اليومي لقدرات »الإله«، لبنانياً، إنما تتركز على الشر والإيذاء وحماية الفساد والمفسدين في الأرض.
… وهو استخدام فردي، أحياناً، وجماعي أحياناً أخرى،
فكما عند الأفراد كذلك عند الطوائف، إذ تستنفر كل طائفة »إلهها« لمحق الطائفة الأخرى، وتنافقه لتستعديه على الأخرى، فإن قصّر أو تهاون عيّرته بأن »إله« الآخرين أعظم قدرة منه وأسرع في الاستجابة كما أنه حازم في التنفيذ.
وعلى امتداد الأيام القليلة الماضية نزل اللبنانيون »بآلهتهم« جميعاً إلى الشارع، ووُضعوا في مواجهة بعضها بعضاً، تارة من خلال مقولة الزواج المدني واستطراداً العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة وما هو شرعي بعقد ومعقود بغير شرعية، وشرعي بغير عقد، أو شرعي بعد الإنجاب وغير شرعي قبله الخ.. وطوراً من خلال المكايدة الرياضية ومَن يعينه »إلهه« أكثر لإدخال الطابة في السلة أو تدخّله المباشر لمنع دخولها فيها،
زحف الملتحون تديناً لكي يساندوا »إلههم« المهدَّد، فملأوا السماء هتافات وتكبيراً، وأعلنوا وضع أيديهم على الوطن باسم الله، ورفعوا أعلامهم والسناجق، وتحدّوا الآخرين أن يأتوا إليهم »بآلهتهم« فإن لم يبرزوها فهم ملحدون،
أما في المقلب الآخر، فقد طلب »المحبطون« من »إلههم« ألاّ يخذلهم هذه المرة، وألاّ يستنكف أو يعلن استقالته، وأن يؤّخَّر هجرته إذا كان قد اتخذ قراراً بالهجرة، فقط لكي يؤمّن لهم »النصر« المشتهى، ثم بعد ذلك يستغنون عن خدماته!
أُنزلت »آلهة« عديدة إلى الشوارع، مع حرص على ألاّ يتجاوز أي »إله« شارعه: جاءت طرابلس إلى شارع، وبشري وزغرتا إلى شارع آخر، وبعلبك وصور والنبطية إلى شارع ثالث، ومعصريتي وبعذران ونيحا الشوف إلى شارع رابع،
وحُفظت شوارع أخرى »لآلهة« أخرى ، فسدَّت مداخلها حرصاً على »الاستقلال الذاتي«، ومنعاً لحروب »إلهية« وقودها من الأخوة المؤمنين المقتتلين..
* * *
من الطبيعي أن يلجأ الإنسان إلى الله، في شكاويه كما في مطامحه، في رزقه اليومي كما في ما يتصل بآخرته…
والعرب عموماً يعتمدون على الله وينسون أنفسهم، ولطالما تركوه يذهب أو أنهم أرسلوه بالنيابة لكي يحارب عنهم، بينما تابعوا هم لعب الورق والطاولة وسحب الأنفاس من نراجيلهم أو نقاشهم الممتع حول الفارق بين زواج المتعة وزواج المسيار والزواج العرفي، أو سمرهم حول قوارير الطيب من النساء.
الله عند العرب للحرب والسلام، للحب والزواج، للرزق والمناصب، لمعالجة العقم والجفاف، لاستمطار الغيم ولتشغيل محرِّك السيارة الحرون..
لكن اللبنانيين يسيّسون »الإله« أكثر من أي شعب آخر، ويطيفونه ويُمَذْهِبونَهُ، ويستحزِبُونَهُ: يدخلونه نواديهم الرياضية وروابطهم الثقافية وجمعياتهم الخيرية، ينزلونه إلى الملاعب ويصدرونه الندوات، ويتعاركون حوله فيصيبه منهم الضرر العظيم، لأن كلاً منهم يريده مناصراً له فإن تلكأ تركه إلى رب آخر!
واللبنانيون يدوِّخون »آلهتهم« بطلباتهم المتناقضة،
أمس، مع الفجر، شقّت الأم الستارة عن النافذة فرأت الجبال وقد كلّلتها الثلوج، فسبّحت بحمده تعالى ونادت أبناءها قائلة: هيا فانظروا إلى جمال العطاء الإلهي، إن الجبال كالعروس، إن الله رزّاق كريم، فالثلج كله خير..
قالت الإبنة الكبرى بلهجة شكوى: ما هذا يا الله؟! لقد طلبت منك بضعة أيام صحو فأغدقت علينا الثلج!! كيف تريدنا أن نحبّك في الرد؟!
وقال الإبن الشاب: لقد استجاب الله لدعائي، إنه يحبني وحدي، فلقد أنزل الثلج لكي أتزلّج غداً مع عصبتي في الأرز..
أما الإبنة الصغرى فقد لوت عنقها وهي تقول: لا يحبني الله، لقد أقفل الطريق بالثلوج في وجه حبيبي الذي كان وعدني بأن يجيء اليوم، إن الله لا يسمع إلاّ ما يحب..
وفي الخارج كان ثمة رجل يسعى إلى رزقه وهو يتأفف: طلبنا منك شيئاً من المطر فرشقتنا بعاصفة ثلجية، ولو!!أأنت الرحيم؟!
أما في السوق فكان ثمة متسوّل يتلطى في حمى الفرن، وهو يقول:
.. وأنا يا رب، ألم تحسب لي حساباً؟!
* * *
الله للناس كافة،
لكن العرب يهربون إليه فيرمون على كاهله كل خطاياهم ووجوه تقصيرهم وعجزهم وانسحاقهم أمام العدو والأجنبي وحكّامهم والعصر.
أما اللبنانيون فيستحزبونه، ينزلونه من عليائه ليدخلوه في مناكفاتهم، ثم يلومونه على كل ما يرتكبونه من آثام، وفي النهاية يقولون: كله منه!!
لو أبقينا الله في قلوبنا وأخرجناه من الشارع لكان إيماننا عظيماً ولصارت دنيانا أقل قتامة.
في بحر عيني الذئب ..
أتعلّق بأهداب الذكرى. أحاول مطّ اللحظات لتغطي الأيام والأسابيع والشهور، فتبهت الملامح وتتداخل التفاصيل وأفضّل العودة إلى إشراقة البزوغ الأول لشمس منتصف الليل وأسافر فيها ومعها حتى تأخذني إلى النوم.
أسحب ثوب الشحوب على شعاع الليل.
في الليلة الأولى انبثقت من قلب العتم.
في الليلة الثانية خرجنا منك إلى الصباح، وظل النهار خلفنا.
وبين الليلين مددت مراجيحي للحلم.
تفلت مني التفاصيل فأتعثر وأنا أسعى إلى لملمتها، وأكتشف أنني إنما أسبح في بحر عيني الذئب الوادعتين بل الواعدتين بل الراعدتين… لا أملك أن أستقر فيه، وأخاف أن أغادره إلى صقيع الصحارى الميتة.
ما كان أسهل سلام التعارف.
أما على باب الوداع فقد ازدحمت الكلمات التي تقول ذاتها ولا تُقال.
حين فتح الثلج قلب الليل
فتح الثلج باب الليل وأخذ يهمي في قلب الصمت.
وحين وصل النهار متأخراً كانت الأسرار جميعا منشورة على الأغصان العارية للشجر المرفوع الهامات والملتفح بكوفيات مرقطة.
صار الليل نثارا أبيض.
أما الشمس فكانت في إجازة، تحضر لأن تمضيها في التزلج على المنحدرات الملساء والناعمة والباردة كزجاج النافدة المفتوحة على الريح.
ملأ الحب طرقات القرية ودروبها بخطواته المرتبكة، وكاد يكتب أسماء العشاق الذين أذابوا الثلج بسطور من دواوين عشقهم المخبأ داخل أغاني الهجر واللوعة والحنين إلى لقاء.
التقيت صديقي الشاعر الذي يسكره الثلج،
كان يتبع رائحتك حتى لا يضيع عن بابك، ولمحتك خلف نافذتك المغبشة التي تكاد تجهر باسمه ترشدين خطواته بنور عينيك،
حين صار في الداخل، أخذ الثلج يذيب نفسه مبتعدا عن بيت الحب، ثم هتف للشمس ان تعالي لتمنحي الآخرين الدفء الذي يفتقدون.
من أقوال »نسمة« ..قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أتعرف، لقد صار لي بعد الحب زمانان: زمانها وزمان العبث والفراغ والأيام البلا معنى. وبعد الحب صار لي ذاكرتان، تلك التي تسكنها فتملأها وتصيِّر الآخرين بعضاً منها، وتلك التي قد تخطئ في اسمي… ولكنها تحفظ من الناس الود وتُسقِط إساءاتهم وعيوبهم.
عين المحب عمياء، يقولون.. ولكنني أضيف: عن عيوب الآخرين! الحب مشاع، قد تكون مصدره ولكنه يطوف فيغمر الجميع،

Exit mobile version