طلال سلمان

هوامش

في حرم فيروز .. قبل »الشهادة« للجامعة الأميركية!

منح رئيس الجامعة الأميركية في بيروت شهادة دكتوراه شرف لهذه المؤسسة التعليمية العريقة، حين اختار مع مجلس الأمناء ان تكون »فيروز«، الأكبر من الالقاب، بين تلك النخبة ممن كرمتهم الجامعة هذه السنة.
للحظة بدا وكأن رئيس الجامعة الأميركية الذي ألقى خطابه بالعربية كما بالانكليزية يريد أو يحاول ان يستعيد لهذه المؤسسة ما كان لها في الأربعينيات والخمسينيات من دور رائد في توسيع دائرة الوعي وفي اطلاق حيوية سياسية ساهمت في التأسيس لبعض الحركات والأحزاب القومية التي سرعان ما اصطدمت بالسياسة الأميركية تجاه المنطقة العربية والتي شكل احتضانها لإسرائيل، بكل عدوانيتها التوسعية، مركز الثقل فيها.
ذلك زمن آخر… على ان المأساوي في واقعنا الراهن هو الانفصام التام بين الجامعات، بأساتذتها وطلابها ومنتدياتها، وبين العمل العام، وطنياً وقومياً واجتماعياً، وتدني مستوى التحركات الطالبية بعد غرقها في المستنقع الطائفي أو اصابتها بدائه.
… لكن موضوعنا »فيروز« وليس السياسة الأميركية بكل أثامها وأوضحها في العراق (وفلسطين) ، فلنعد إلى ما يبهج الروح والوجدان والقلم، في آن.
اللقاءات مع فيروز كالنبيذ كلما تعتقت باتت أشهى مذاقاً، حتى نتجنب حديث السكر… ومع أن الحوار معها، بكل ما يتضمنه من تعليقات وتوريات وتوصيفات منحوتة نحتاً يكاد ينزلها من نفسك فضلاً عن النشوة بصبوتها منزلة رسام كاريكاتوري عظيم، أو ناقد ساخر متميز، حتى لتستذكر، في لحظات، الجاحظ ومن داناه في مستواه.
لدخول »الحرم« طقوس تبدأ عند الباب، وتشمل موقع الجلوس وتخطي الارتباك في اختيار المدخل الانسب للحديث مع التي تعودنا ان نسمع غناءها فتأخذنا النشوة إلى الصلاة، ونادراً ما سمعناها تتحدث بلغتنا، وتضحك مثلنا، أو تقوم على خدمتنا كضيوف نحن الذين نتمنى ان تسمح لنا بخدمتها حتى في بيتها.
لم نتعود »الحوار« مع فيروز. كنا نسمعها فيعبر صوتها آذاننا إلى وجداننا، وننتشي، ويسعدنا ان يمتد هذا اللقاء الذي يجلسنا في قلب الطرب مع شيء من التهيب.
وحتى قبل أن يغيب عاصي فلقد كان علينا ان ننتظر زياد الرحباني كي يُخرج فيروز من قلب الإطار الملكي الوقور، وليطلق روح الفرح الإنساني فيها، فيضيف إلى صورتها »النضالية« كما قدمتها المسرحيات الرحبانية، خاصة، ويجدد فيها وفينا شبابنا، ويعلمنا ان الحب بهجة أيضاً ومرح قد يصل حد الضحك، وليقلب معنى »النضال« فيربطه بعرق الإنسان من أجل خبزه، ويخفف من آثار العصبية التي تفرض التعامل بحذر أو ربما بخوف مع »الجيران« و»أهل القاطع« و»الغريب« الذي يحمل اسماً دالاً على »غربته« مثل »هولو« و»مرهج« وذلك الموصوف دائماً بأنه »مربى الحجار السود«… بينما »القناصل« هم الناصحون، وهم المُعينون على استخلاص الاستقلال… الخ.
وهكذا ربحنا »فيروز« ثانية، واغتنى وجداننا، إذ اضفنا إلى كلاسيكيات عاصي ومنصور الرحباني وفيلمون وهب وسعيد عقل وطلال حيدر ثم مقتبسات سيد درويش وهدايا عبد الوهاب التي أخذتنا إلى الحب والوجد، شغب زياد الذي فتح الباب لبهجة الروح، وجعلنا نذهب إلى العشق بفرح الحياة.
لكن »فيروز« بذاتها، أكثر اكتمالاً وأعظم نضجاً من كل فيروزات الأغاني والمسرحيات… بل لعلها الآن تختصر في شخصيتها كل التجارب الغنية للعمر الحافل بالعطاء.
جلسنا في حضرة فيروز متهيبين، صامتين، كأننا في حالة تأهب لمباشرة الصلاة، وقد تركزت حواسنا جميعاً في آذاننا، نذب عنها كل الأصوات الأخرى في انتظار ان نسمعها وحدها، وان نسافر متوغلين في قلب الحلم.
لها، وحدها، الحق بلهجة الأمر…
لكن، لا بد من كسر التهيب، لا بد من انحطام صمت التأمل، كي يسهل ان نتبادل السؤال عن الصحة، مثلاً…
كانت تجلس وحيدة على العرشين: قلوبنا واريكتها العريضة، غارقة في البياضين، ثوبها والفراغ المضاء من خلفها.
صعبة مواجهة العينين اللتين تشعان ذكاء من قلب وجه القديسة الذي يلف الهدوء ملامحه بغلالة من الشحوب.
جملة، ثم جملة أخرى فإذا المباراة في القدرة على التقاط التورية والرد عليها قد انفتحت على مصراعيها، وإذا التعليقات والتوصيفات التي تختلط فيها الذكريات بالآراء النقدية، واستعراض وقائع من الماضي مع الاحداثيات الراهنة تحول اللقاء إلى سهرة أنس نادرة في زمن التردي في الذوق، مغنى وتلحيناً وتأليفاً ولباساً وحضوراً ينقصه الحضور…. ولم يسلم واحد من المشاركين في إنتاج تراث المرحلة الرحبانية في فن الغناء والمسرح اللبناني.. وإن احتل فيلمون وهبة منزلة خاصة.
تتوالى أسئلتها بريئة حتى إذا وقعت في الشرك انتبهت إلى ان الأجوبة الفعلية عندها لا عندك، وهكذا تفرض عليك ان تقبع في حالة طالب دخل الامتحان بغير استعداد جدي، فأخذ يمشي على حبل مشدود، يحاذر السقوط ويُتعبه الوصول إلى نهاية الخط إذا ما كان يفتقر إلى روح الفكاهة والتخفف من الألقاب المفخمة والاحكام المسبقة والصورة التاريخية ذات المهابة والوقار للمبدعين، غناء وتلحيناً، من السابقين سواء أكانوا قد رحلوا عن دنيانا أم حجبتهم عنا سيادة معايير عصر آخر يصعب علينا قبوله كما يصعب معه قبولنا.
استذكرت واستذكرنا كثيرين ممن نحتفظ بهم في وجداننا، لكننا أحببناهم أكثر بعدما اخرجتهم من إطارات الصور التي حبسناهم داخلها وأعادت إليهم إنسانيتهم حين استعادت بعض الطرائف واللطائف والوقائع والمقالب التي واجهتهم أو مشوا إليها بأقدامهم، أو كانت هي المحرض أو الدافع أو الشاهد على »تورطهم« فيها.
عند انصرافنا كان نقاشنا يتركز على المقارنة بين فيروز المبدعة في غنائها والتي يحملك صوتها إلى التصوف في حبك، وبين فيروز المتميزة بظرفها وبأسلوبها في التوصيف الذي لا يدانيه أي مبدع من رسامي الكاريكاتور بمن في ذلك من كان الممثل الشرعي الوحيد لفيروز خصوصاً، والرحابنة عموماً، جيلاً بعد جيل، في الديار المصرية خصوصاً وسائر المشرق بعامة، الرسام الذي زرع فينا التفاؤل والأمل بغد أفضل (ولو بعد حين) الراحل بهجت عثمان.
لم تضف الدكتوراه الفخرية الكثير إلى رصيد فيروز ومقامها الفريد في وجداننا، لكنها عززت، بالتأكيد، من رصيد هذه الجامعة الأجنبية، فجعلتنا أكثر ترحيبا بوجودها وبدورها، من أي يوم مضى، مع اعتراضنا على سياسة الإدارة الأميركية التي نراها الأسوأ في التاريخ، وهي قد فرضت علينا ان نقاتلها بالدم في العراق، وقد تفرض ان نقاتلها في غيره.
… وفيروز بروحها التي تسري في صوتها إلينا هي واحدة من قلاع الصمود في الأرض، لأنها تغني الإنسان فينا، والإنسان بأرضه: تكون له فيكون، ويهجرها أو يتخلى عنها باليأس فيشطب من قائمة أبناء الحياة.
والذكريات لا تحفظ أوطاناً، والبكاء لسماع فيروز في المهاجر لا يعيد إلى الأوطان من طردتهم أنظمتها والشقاء المفروض عليهم… بقوة القانون!

.. ودكتوراه هجرة لأحمد زويل العائد مصرياً!

… وبين من اختارتهم الجامعة الأميركية في بيروت لتكريمهم بالدكتوراه الفخرية العالم المثقل بالدكتوراهات الفخرية، أحمد زويل، »حامل الجنسيتين«، كما اعتمدت ألسنة النظام المصري في حملة التشهير به لمجرد انه تجرأ ففكر بأن يخوض معركة »انتخاب« رئيس الجمهورية في مصر، منافساً لرئيسها الذي يطلب لنفسه ولاية خامسة، مفترضاً ان أربعاً وعشرين سنة لم تيسر له ان يعطي بلاده ما يرغب في ان يعطيها، وهو على حافة الثمانين من عمره.
ولقد استهل أحمد زويل، حامل جائزة نوبل، كلمته مذكراً رئاسة الجامعة بأنه، بعد ان استقر مهاجراً في الولايات المتحدة الأميركية، قد تقدم بطلب للتدريس فيها فجاءه الرد منها بالاعتذار الرقيق عن عدم قبول طلبه، لنقص في »مؤهلاته«.
أحمد زويل الذي حظي، حتى الساعة، بتكريم فريد في بابه بالنسبة لعالم عربي، يحمل حتى الساعة خمساً وثلاثين دكتوراه فخرية، منحت له من أهم جامعات العالم، ومع ذلك فهو لا يجد مجالا لأن يعطي بلاده ما لا يمكن لغيره ان يعطيها.
انه عالم! مجرد عالم في جزئيات الثانية وسرعة الضوء، فما أدراه بالسياسة ومعارجها التي تأخذ إلى التبعية والارتهان للخارج، والاقتصاد وتلافيفه وناهبي خيرات بلاده ممن سرقوا المال العام وهم يتقدمون الآن لسرقة القيادة العامة، رافعين الشعارات الأميركية متبنين الأهداف الإسرائيلية كي يستطيعوا ان »يخدموا« مصر أفضل!
أحمد زويل الذي يعيش »ملكاً« في دنيا هجرته، والذي يمكّنه علمه من ان يجني ثروات خرافية، ركب عناده وأصر على ان يتقدم الصفوف كي يخدم بلاده بكفاءته العلمية التي تحمل اختام أهم المؤسسات العالمية التي تشهد له بالتميز والفرادة.
أحمد زويل يتعاطى السياسة بعقلية العالم، فيحترم الرقم، ويؤمن بالخطط العلمية الرصينة والمبنية على تقديرات جدية للامكانات والقدرات، وهو على ثقة بأن بلاده تملكها لكن »النهابين« و»الفاسدين« و»المفسدين« قد سرقوا نصفها وضيعوا بعضها هدراً، عبر اعتمادهم »المياومة« في الاقتصاد و»المساومة« في السياسة مع الاقوياء، بدءاً بإسرائيل وانتهاء بالولايات المتحدة الأميركية، أو بالعكس.
الآن فقط تأكدنا من ان الجامعة الأميركية في بيروت كانت على حق حين رفضت طلب أحمد زويل للتدريس فيها: انه مخبول بدليل انه يفكر أو ما زال يفكر ان الكفاءة هي الطريق لخدمة الناس، وان القيادة تكليف لا تشريف، وانها من حق الاجدر وليست من حق »الأقوى« بالعسكر أو بالمال أو بالنفوذ الأجنبي، أو بها جميعاً!
أحمد زويل: نحبك مهاجراً لا مواطناً، وعالماً في خدمة الغير لا عاملاً من أجل رفعة وطنه، فكيف بأن تكون »رئيساً« ولست »ملهماً« أو »مرسلاً« من قبل الله، سبحانه وتعال،ى أو من قبل الأميركيين، على أقل تقدير، كي نؤمن بعبقريتك وبقدرتك على قهر المستحيل، بالرقم، أي بالعلم، والايمان بإنسان هذه الأرض، وبحقوقه في ان يحفظ أرضه لتحفظه، وفي ان يتمتع بحقه في العمل والقول والرأي كي يكون مواطناً في وطن وليس عبداً… للمحتلين!

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب ليس تهويمات في فضاء الشعر والتغزل بطيف المحبوب. للحب »جسده« أيضاً، وليس مجرد تفاصيل معزولة بعضها عن البعض الآخر، كأن يكون للعيون مقام، وللعنق موقعها، وللصدر مساحته. أنت لا تحب »التفاصيل«. حبيبك مثلك: كل لا يتجزأ، وأنت تحبه »كله«.
من قمة الشعر حتى اخمص القدمين ذلك هو من أحب… ويحبني!

Exit mobile version