طلال سلمان

هوامش

اعتذار عن نقص في رثاء جورج حاوي

بعد ان أفقنا من صدمة الفاجعة باغتيال جورج حاوي، كان علينا ان نواجه واقعا مأساويا تعيشه »حركة التحرر الوطني العربية«.
كنا واثقين من ان الطائفيين والمذهبيين والكيانيين، مثلهم مثل من كانوا يصنفون في خانات الرجعيين والطغمة الرأسمالية وعملاء الاستعمار والامبريالية، سوف يتاجرون بمقتل هذا القائد الشعبي… بل سوف يحولون مصرعه الى سلاح هجومي ضد كل ما ناضل من اجله في ماضي ايامه، وقبل ان تأخذه لعبة السلطة الى الانبهار الذي اضاع طريقه منه.
واجهنا السؤال الصعب الاول: من هو الاجدر بتكريم جورج حاوي؟! حاولنا ان نتخطى بعض المفارقات المفجعة ومنها ان رجال »الأف.بي.آي«، احد اجهزة الاستخبارات الاميركية، قد لبسوا القمصان الطبية البيضاء وغطوا ايديهم بقفازات معقمة، ونزلوا الى ساحة الجريمة لجمع الأدلة التي قد تساعد على تحديد المجرم! »اف.بي.آي« هنا في بيروت، يحقق، والضحية قائد شيوعي عربي، عاش عمره محاصَرا بتهمة العداء للامبريالية وسياسة الهيمنة الاميركية والاحتلال الاسرائيلي.
تداولنا اسماء الاصدقاء الكبار لجورج حاوي ورفاق عمره.
انه احد كبار الشيوعيين العرب، وليس أولى من هؤلاء بوداعه، عبر تكريمه، في لحظة استشهاده، بالتأكيد على انهم سيتابعون المسير على الطريق نحو استخلاص حقوق الشعوب من الطغاة الظالمين وقوى القهر الاستعماري… إلخ.
ولكن من هم، في هذه اللحظة، الشيوعيون العرب، وأين هم مما جرى ويجري في بلادهم، التي ما ان خرجت من حقبة خضوعها الطويل للاستعمار المباشر، حتى اعيدت اليه بأخطاء حكامها وخطايا احزابها، وها هي رهينة الارادة الاسرائيلية الاميركية من اقصى المغرب الى ادنى اليمن؟!
استعرضنا الاحزاب في بلادها: حزبا حزبا، وكانت النتائج تستحق وقفة جديدة، وبينها:
ان الحزب الشيوعي اللبناني هو اكثر الاحزاب الشيوعية عروبة، واعظمها التصاقا بأرضه وبهوية شعبه وطموحاته الفعلية… وبرغم الهزات التي خلخلت بنيانه التنظيمي كنتيجة منطقية لما اصاب المعسكر الاشتراكي كله فأدى الى انهياره واندثاره، فإنه صمد في وجه العواصف العاتية التي جرفت اللبنانيين نحو التيه، فأخرجت قواهم الحية من دائرة التأثير، وشوهت معنى العروبة والوطنية والتقدمية، وألقت بهم في مستنقع الطائفية التي سرعان ما تفتتت مذهبيات مؤهلة لأن تخنق في غيابها كل فكرة مضيئة وكل وعد بغد أفضل.
قمنا بجولة استذكار للقيادات الشيوعية التاريخية، فاكتشفنا ان معظمها قد استمر على رأس حزبه حتى حرره (وحرر الحزب) الموت من قيادته.
ثم ان صفقات المساومة مع الانظمة العسكرية (بالذات) والملكية (احيانا) ونتيجة لمساومات سياسية كبرى كانت تقررها القيادة المركزية للدولة السوفياتية في موسكو، قد الحقت اضرارا لا يمكن تعويضها بأحزاب »حركة التحرر العربية«، وبالذات الاحزاب الشيوعية العربية، التي فرض عليها الالتحاق بتلك الانظمة وبشروطها… وهكذا تحولت »الطلائع« تدريجيا الى »فرق اسناد« بالفتوى والتبرير »العلمي« لعدد من الطغاة والدكتاتوريين المعادين بالولادة والعقيدة والمسلك لشعوبهم كما للاشتراكية والتقدم والنور، فكيف بالحقوق في العدالة والمساواة والديموقراطية والرفاه؟!
استذكرنا اسماء قياديين شرفاء ومناضلين علمونا الصلابة في الايمان بالانسان، ولكنهم وجدوا انفسهم في اوضاع بائسة، فرضت عليهم غير ما كانوا قد اعدوا انفسهم له من مطامح، فانتهوا الى مواجهة شعاراتهم واهدافهم وحصيلة نضالات العمر؟
في سوريا، مثلا، تشقق الحزب تحت قيادته التي استمرت حتى الوفاة، وتحول الى مجموعات ملتحقة بالسلطة لا تستطيع حتى لو رغبت ان تميز نفسها عنها، متحملة الغرم دون الغنم، في »تحالف« غير متكافئ، صار الحزب شاهدا على تاريخ من التجارب البائسة التي انهته كمصدر للامل بغد أفضل..
اما في مصر فإن تشوهات الولادة قد طاردت الحركة الشيوعية حتى يومنا هذا… ومع ان المجال لا يتسع هنا لتشريح الجذور الطبقية لمؤسسي حزب البروليتاريا في مصر، فلا يمكن القفز من فوق حقيقة ان عددا كبيرا جدا منهم كانوا من الاجانب او من المهجنين…
وبالتأكيد، فإن كثيرا من الشيوعيين المصريين هم من خيرة المثقفين العرب، وهم قد قاوموا التعسف والقهر، وسجنوا بالآلاف لفترات طويلة، ولكنهم حين خرجوا من سجونهم كانت الصفقة قد حددت لهم موقعهم على هامش النظام الذي اعتقلهم، جنبا الى جنب مع »الاخوان المسلمين«، في خطته لمكافحة »التطرف«، سواء أجاء عن يساره ام عن يمينه.
وأما في العراق فإن معاناة الشيوعيين كانت افظع بما لا يقاس، فقد طاردهم بالقتل نظام الطاغية الذي ظل يُعتبر صديقا للاتحاد السوفياتي حتى آخر لحظة. وبعدما صفى الكثيرين من قياداتهم ومن كادراتهم المتقدمة، استوعبهم، وسرت تلك النكتة الشهيرة عن »الحزب الشيوعي العراقي لصاحبه حزب البعث العربي الاشتراكي«.
على ان الملاحظة التي أثارت كثيرا من المرارة في نفوسنا، هي ان القيادات الشيوعية بمجملها، قد اعتمدت النهج السوفياتي ذاته، الذي قتل الحزب بالجمود، اساسا، فكريا وسياسيا وعبر القيادات الأبدية التي لم تكن تسقط او تتبدل إلا… بالموت.
كيف يمكن لحزب الطبقة العاملة ان يحتفظ بقيادة تمسك بقراره لمدة ثلاثين وربما اربعين سنة بلا انقطاع؟!
كيف يكون الحزب خارج الحياة، وكيف تحفظ قيادته في ثلاجة حتى تجميد الدم في عروق الحزب… كأنما القيادة تحكم عليه بالموت… فمؤسسة شعبية كالحزب لا بد ان تموت ان هي لم تجدد دماءها بالاجيال الجديدة والافكار الجديدة والفهم الواعي لمتطلبات المراحل الجديدة التي تتطلب وعيا مختلفا واستعدادا مختلفا واداء مختلفا.
هي خواطر سريعة على هامش جنازة قائد متميز، لعله اهم قائد شيوعي عربي، خصوصا ان جورج حاوي قد استوعب هذه الحقائق، وانتبه الى ان دوره قد انتهى (ربما لأن تجاربه العديدة قد اكدت له انه قد بات يتناقض في مسلكه مع مبادئه).. وبالتالي فقد تنحى عن قيادة الحزب لاجيال جديدة.
لقد سقط جورج حاوي شهيدا. وهو بالتأكيد شهيد حركة التحرير الوطني العربية جميعا.
والسؤال: ماذا عن حركة التحرير الوطني العربية؟ ماذا عن احزابها وقياداتها، قبل ان يستهلكها الجمود، او الضياع في بحر المهمات الصعبة، او رصاص الاغتيال اذا هي لم تحم نفسها ووعد التغيير بالجماهير الطامحة الى التغيير.
… قبل ان تجرف امواج الطائفية والمذهبية آخر الآمال بالتغيير، فيصير الاغتيال جماعيا!!

مع كل شهيد يذهب بعضك… والمعنى!

صار حبرنا دمنا. صارت الكلمات أحكاما بالاعدام على كاتبها.
بتنا محاصَرين بمناخ الموت. بات القاتل يسكن اقلامنا، ان هي قالت ما يتوجب قوله خرج الينا منها فأردانا.
من التالي؟ القائمة طويلة. ليس للقتلة حصر، ولكن المرشحين للقتل معروفون تقريبا. يمكن التوصل الى حصرهم بالالغاء: فالطائفيون خارج القائمة وكذلك المذهبيون. مغيرو جلودهم والسنتهم كل صباح يشملهم العفو، اما الذين يرون حياتهم في مواقفهم فإنهم يتقدمون مع كل كلمة يقولونها نحو مصيرهم المحتوم. لا عفو ولا اسباب تخفيفية ولا نسيان او سقوط التهمة بمرور الزمن.
في كل لقاء، وبغير ان نتقصد، يجد واحدنا نفسه يتفرس في وجوه اصدقائه وكأنه يخاف ان يكون هذا اللقاء هو الاخير بينهم.
من قاتل اسرائيل، بالرصاص او بالرأي او برفض التسليم بالهزيمة، مقتول.
ومن قاتل الخطأ في السلطة بمحاولة ترشيد قرارها، او بالتصدي لارتكاباتها، مصنف في خانة الاعداء، ومتروك لمصيره…
وبين اخطاء السلطة وخطة العدو يسقط شهداء بلا شهادة، وتختفي وجوه بلا مشيعين.
تكتفي بأن تذهب الى تشييع احلام ماضيك وامنيات غدك يتقدمك وجومك وهو اقسى من الخوف… وحين تواجه من يفترض ان تتقدم اليهم بالتعزية تهرب منك الكلمات. تكتفي بأن تهز رأسك، وتشد على الايدي التي تصافحها وتترك للعيون ان تتبادل التعهد بالصمود… مع انك لا تملك ما يمكن ان تتعهد به غير الكلمات التي يُفقدها عجزها عن مقاومة الرصاص معناها.
يسقط المعنى مع الضحايا. يسقط المعنى مع العجز عن وقف مسيرة القتل. ويسقط مع المعنى اي حديث عن الغد. تستشعر انك قد صرت من الماضي… وتتثاقل خطواتك وانت مشدود الى احساسك بأن تأخرت عن موعد موتك… فمع كل شهيد ذهب بعضك، وانتصب بعضك الآخر في موقع الادعاء العام يتهمك بانك لا بد قد خنت او فرطت او انحرفت… فاستمرارك في حياتك ادانة ضمنية لحياتك.. او هكذا يراد لك ان تمضي بقية عمرك بأنك فاقد القيمة، معدوم التأثير: ها هم صحبك قد مضوا، فلماذا تخلفت؟
لم تذهب بهم الشيخوخة ولا امراض البؤس ولا متع الرفاه، ولم تفد في حمايتهم صداقة الكبراء والنافذين وزعماء الطوائف.
ما دمت لا تتقن لعبة الموت المخابراتية، فأين المفر من شبكاتها العنكبوتية. لا ينفع حذر مع قدر. ولكن الصمت مقبرة الجبناء.. ألف مرة جبان ولا مرة الله يرحمه. لكن في أيامنا ليس الله وحده مصدر الرحمة. ثم من يعرف من هو القدر وأين يكمن؟ هل في مقعد السيارة، ام في الطريق؟ امام البيت أم عند باب المطعم؟ داخل الفندق ام على كورنيش المنارة؟!
ثم، من قال ان الصمت يلغي ماضي الكلام؟
لقد دار الزمان ببلادك وأهلك، فإذا كل ما كنت تطمح اليه وتتباهى بقرب انجازه او تفاخر بانتسابك اليه، قد اندرج في مضبطة الاتهام التي ستحاكم بموجبها: وطنية، تقدمية، عروبة، عدالة، نزاهة، عداء للاحتلال، مقاومة للفساد، شراسة في قتال الطائفية، تطهر من المذهبية، اصرار على التمسك بحلم الغد الافضل… كل ذلك سيُستخدم كأدلة لإدانتك.
… ولن ينفع ان تكسر قلمك في تبرئتك مما سبق ان كتبت فارتكبت من جرائم التحريض على المقاومة. تكفي هذه الكلمة الاخيرة، »المقاومة«، دليلا للادانة.
ليشيع موتى الغد موتى اليوم.
لتشيع الاقلام كلماتها… بل فلتشيع الكلمات أقلامها بصمت يليق بالتحول من بشر الى مخلوقات لا تنفع إلا كعينات لاجراء التجارب عليها، تماما كالفئران…
وأولى النتائج ان دم الاقلام هو افضل غذاء للهيمنة الاجنبية الجديدة وإسرائيل فيها ومنها

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
في مناخ الموت الذي يظللنا تسقط كل الحمايات الا الحب.. انني اغطي حبيبي بحناني. اتفحص ملامحه بشفتي، وأصفحه بشغاف قلبي، وارسل عيني امامه تستكشفان الطريق. انني اعتصم بايماني الذي يؤكد ان لا شيء يهزم الموت إلا الحب.

Exit mobile version