طلال سلمان

هوامش

اللغة والهوية و»الفوضى الخلاقة«!
امتلأت قاعة الاحتفالات الكبرى في قصر الاونيسكو حتى آخر مقعد فيها بجمهور مختلف عما عرفت وألفت من جماهير خطابة المناسبات: كانت أشبه بحديقة غمرها الربيع بفيض من الورود، فتيات على شفا الصبا وفتية يستعجلون المراهقة او يتباطأون عند تخمها ليصنفوا شبانا… ومن حولهم بعض من الأهل تبرق عيونهم بفرح انبثاق الاحلام او تناميها وتعاظم الاحساس بالقدرة على خرق الاستحالة.
المناسبة: توزيع جوائز قدمتها »مكتبة مالك« للفائزين والفائزات في مسابقة نظمتها بالتعاون مع مجموعة من المدارس الخاصة في انحاء مختلفة من لبنان، تعتمد كتبا من اصدارها، في مجالات متعددة بينها القصة والحكاية والقصيدة، وبينها الاخيلة المرسومة والكاشفة لمواهب الناشئة.
كان الجو مبهجاً، لكن الغصة ظلت ترفرف في فضاء الاحتفال: فاللغة المعتمدة لكشف مواهب هؤلاء الفتيات والفتية هي الانكليزية.. ولولا مغامرة انطوان حرب الاقتحامية، وكلمة »الرعاية« التي توجبها اللياقة، لسادت الرطانة هذا الاحتفال الذي لم يشارك فيه اجنبي واحد.
تناوب بعض المدرسين والمدرسات، وبعض الرسميين، على تسليم الجوائز التقديرية، وهي رمزية، اثمن ما فيها التصفيق، وبهجة الأهل، والهرب ولو لدقائق من جو الاحتقان الطائفي الخانق الذي طاردنا حتى باب قاعة الاحتفالات.
المواهب اللبنانية تعبّر عن ذاتها بالانكليزية، والديموقراطية اللبنانية تترجم ذاتها بالطائفية، وبعد ذلك تسأل عن المواطن والوطن.
***
في مثل اعمار هؤلاء الفتية كنا حين بدأت العلاقة مع اللغة: المدرسة الرسمية في رشميا قضاء عاليه، والمدير المدرّس المربي، الناظر اسمه »الياس صابر«.
وكمثل كل المعلمين الرسل، كان الياس صابر يتابع كل تلميذ منا حتى بيته، ويفرح حين يقرأ »مسابقاتنا« فيكتشف في كتابة اي منا فكرة جديدة، او يلفته اسلوب متميز، او تهزه ارهاصات موهبة شعرية مبكرة لدى واحد منا.
ذات يوم فوجئنا بما يشبه التظاهرة امام دكان »منصور الكفراوي« في ساحة البلدة. وكان كل عابر سبيل ينضم الى الحشد متسائلاً عن سبب التجمع، حتى اذا اكتمل النصاب، وقف الياس صابر بباب الدكان فسكت الجميع وتطلعوا إليه مترقبين. قال: كل ثلاثاء، في مثل هذه الساعة، ستجدون على باب الدكان هذه علامة نجاح لواحد من ابنائكم، تلاميذي. سنعلق كل اسبوع افضل ما يكتبه التلامذة في مواضيع الانشاء، وسنلتقي هنا لنصفق للأول من بينهم.
وصارت رشميا تتلاقى ظهر الثلاثاء من كل اسبوع لتحيي المتميز بمعرفته لغته الأم، وعبره المدرّس الذي كاد يكون رسولاً الياس صابر!
***
ذلك كان قبل نصف قرن تقريباً.
اليوم، وفي بدايات الألفية الثالثة، باتت اللغة العربية مصدر شبهة، وسبباً في وصمك بالتخلف والغربة عن العصر والغرق في متاهة ماضيك خارج العصر.
أن تبقى عربياً، في هويتك، في لغتك، في ثقافتك، في عاداتك، فكأنك تحكم على نفسك، ومن ثم على ابنائك، بالإعدام!
فكي تضمن مستقبل ابنائك لا بد لهم من جنسية اخرى، غير جنسية بلدك العربي.. وبداية لا بد لهم من »جواز عبور« بإتقان لغة التقدم، الانكليزية. ما لك وللصين واليابان او حتى ماليزيا. تلك شعوب اخرى. انت محكوم بالتخلف بسبب من مكوناتك الاصلية: لغتك، دينك، تراثك الثقافي، هويتك. وإذا كنت لا تستطيع التخفف من دينك فتخفف من لغتك، وهي بعض مكونات الهوية (والدين) فتفتح لك ابواب الجنة… الاميركية.
الخيارات كثيرة: اشتر جنسية اخرى، ابعث بزوجتك الحامل الى الولايات المتحدة لتضمن جنسية مذهّبة لابنائك، تحايل على الكنديين، فإن تعذر فعلى الاوستراليين. انتحل صفة اللاجئ السياسي في السويد، ادخل بالتهريب الى المانيا بعد ان تمزّق لعنة جواز سفرك. وإذا تعقدت المسائل امامك فاشتر جواز سفر من احدى الدويلات المبتدعة في اميركا اللاتينية، »بليز«، مثلاً، او احدى الدول الافريقية التي ما تزال عضوا في الكومنولث، لعلك بعد ذلك تنعم ولو بعد جهد جهيد بجنسية بريطانية من الدرجة الثانية او الثالثة. المهم ان تخرج من جحيم عروبتك، المهم ان تفتح باب الجنة لأولادك.
لغتك العربية شرنقة تحبسك داخلها بعيداً عن العصر، فإذا انت »إرهابي« او »معدوم القيمة«، وفي الحالين منبوذ!
رحمة الله عليك يا الياس صابر. وليرحمك الله يا جعفر الأمين: لقد أنشأتمونا لغير دنيانا!

الديموقراطية تصارع »الآلهة«!

أضاف لبنان الى عجائب الدنيا السبع ما يزيد عنها عدداً وما يختلف عنها نوعاً، عبر الانتخابات النيابية فيه التي لا تشابه إلا في الشكل ما تسعى الى تقليده من التجارب الديموقراطية في العالم.
بين تلك العجائب ان اللبنانيين قد اشركوا »الله«، جل جلاله، وكذلك القديسين والاولياء الصالحين وشهداء الماضي والحاضر، في معاركهم لاختيار نوابهم الجدد…
وفي حالات كثيرة كان على الناخب المستضعف ان يحسم خياره بين العزة الالهية و»آلهة« الحياة الدنيا واخطرها الدولار الذي بدوره يحمل اسم الجلالة على واجهته، وان كان مصدروه يستخدمونه (خارج بلادهم) لاغراض شيطانية، في الغالب الأعم.
وبين الله، مصدر الخير، وبين »إله الشر« ممثلاً بالدولار كان من الطبيعي ان تتمزق الديموقراطية وتتناثر إربا إرباً.
كذلك فلقد كانت المواجهات الديموقراطية تتم في احيان كثيرة بين صور عديدة او نسخ عديدة من اسم الله.. فكل يدعي انه يحظى بدعم العناية الالهية، وانه سينتصر ببركة من عنده سبحانه وتعالى..
ووقعت مواجهات حادة بين »آلهة« المرشحين فانتصر بعضها على بعض، وهزم بعضها البعض الآخر، وكانت الضحية في الحالات جميعا »واحدة«، هي الديموقراطية التي تناهبتها السيوف فمزقتها إرباً.
في حالات اخرى اخذت الحماسة الناخبين الى من لا يعرفون من المرشحين ولو في الصورة.. فالايمان مطلق، وبالتالي فهو »مجرد« لا صورة له ولا تشبيه، وما دمتَ قد آمنت بوكيل الارادة الالهية على الارض، حتى لو كان جنرالاً او زعيما اقطاعيا او وارثاً لعصبية قبلية، فعليك ان تثق بقراره وخياره فلا تحاججه فتحرجه وقد تخرجه عن طوره، ولا تذكره بحقك في ان تختار، فطالما انك فوضته بأن يقرر لك فليس من حقك ان تخالف وإلا وجهت إليه تهمة »الشرك«.
وبطبيعة الحال فلن تخسر الجنة بسبب تمسكك ببدعة الديموقراطية.
بين تلك العجائب ايضا، ان الراية اللبنانية ذات الارزة الخضراء على ارضية بيضاء كالثلج بين خطين احمرين بلون الدم، والتي اعاد اليها الاعتبار الدم المراق فعلا والذي غطى وجه بيروت وضمير لبنان ومن وما حوله، قد تشلعت بين ايدي الذين تفيأوا ظلالها…
لقد رفعها الجميع كي يغطوا خلافاتهم والافتراق في الانتماءات السياسية وفي العقيدة. لم تعد حكرا على فئة ما دامت اشتقت منها اعلام تنظيماتها للايحاء بأن الآخرين خوارج.. صارت مشاعا، استظل بها الجميع، وصارت قناعا جديدا للانقسام يظهره وكأنه توحد طارئ بين منقسمين ابديين.
وبين تلك العجائب إقدام البعض على التخفف من عروبتهم كي يتم الاعتراف بلبنانيتهم، كأن اللبنانية هي نقيض العروبة، بل كأن اللبنانية طريق البراءة من الدم المراق بينما العروبة دليل ادانة. حلت اللبنانية محل الوطنية فصارت العروبة تهمة. كانت اللبنانية تشي بمضمون طائفي ينفر منه اتباع الطوائف الاخرى، فاذا بالنسخة الجديدة منها تنصُّل من العروبة واديانها وانتساب الى التدخل الدولي تحت رايات: حرية، استقلال، وحدة وطنية.
ساد منطق عجيب قوامه: ان منتهى الانقسام هو أقصر الطرق الى الوحدة..
.. وان منتهى الولاء للطائفة المذهب الزعيم هو اقصر الطرق الى الديموقراطية.
.. وان لبنانيتك لا تكتمل الا اذا نسيت فلسطين والعراق وأظهرت العداء لسوريا واحتقرت العرب عموما.
.. وان لبنانيتك كي تكون صافية لا بد من ان تكون لغتها الانكليزية او الفرنسية (لكبار السن).
.. وان الديموقراطية لا تكون الا بالطائفية، فإذا ما ضربت الثانية قضيت على الاولى وهدمت الكيان.
… وان الديموقراطية هي ان تلغي نفسك كمواطن، وان تنضوي في قطيعك، خاضعا ديموقراطيا لتراتبية القطيع، والعصا لمن عصى…
وهكذا انتهى الديموقراطيون فئة ضالة ومنبوذة، في حين لعلعت الطائفيات تحت رايات الديموقراطية الخفاقة في لبنان الطوائف المقتتلة ديموقراطياً انسجاما مع مبدأ »الفوضى الخلاقة« الولادة للوحدة… بالدم!

المرأة تخلع الملك!
اطالت وقوفها امام المرآة، على عكس عادتها: تأملت ذاتها باعجاب، ثم تمايلت لتطمئن الى هندامها. الفستان حقل ربيعي تتماوج الوان زهوره فتجعلها وردة ريانة البهاء. الساقان عمودان من العاج تنزلق عليهما العيون هبوطاً يسيراً فصعوداً عسيراً حتى ذروة التلاقي عند الحوض، وبعده يستدق الخصر متيحا للنهدين فرصة النفور كقارورتي مسك وعنبر، فوقهما يستطيل العنق ليبرز الوجه حيث متاهة العيون، لا تعرف اين تستقر أعلى الشفتين القرمزيتين، ام على الخدين الاسيلين، ام على الرموش الطويلة تظلل تينك الحدقتين المفتوحتين على الرغبة في اقتناص لحظة المتعة التي اطلت من غياهب النسيان؟
حدثت نفسها بكثير من التباهي: لنرَ كم يستطيع ان يصمد ذلك الدعيّ المتعاظم بثروته، المغرور بوسامته، والذي انزلته المقادير على قمة الفراغ العاطفي الشامل، فإذا الكل يتسابق اليه، واذا النساء يترامين امامه وكأنه آخر رجل في الدنيا.
خرجت الى الردهة فاستقبلتها شهقات الاعجاب ونظرات الريبة: هي »الملكة« تذهب، بداعي اللياقة، الى عرس الخصوم، وليس الى مباراة لملكات الجمال! ثم انها ليست حرة في تصرفاتها، فهي ليست ارملة تماماً، وان كان من حقها ان تهتم بنفسها وقد طال الافتراق اكثر مما تطيق امرأة.
قالت بنبرة آمرة: سأقهره! اتبعوني! سأجعله واحدا من عبيدي!
وصلت فتشاغل عنها، ثم حياها ملوحا بيده، وتابع حديثه مع غيرها.
التفت النساء من حولها مرحبات، بينما تطاول الرجال برقابهم كي يمتعوا عيونهم بجمالها الملكي الباهر.
خاطبته من على البعد: اسعدني وجودك. اتمنى ان نلتقي في زمن آخر! انفتلت مفضية نحو باب الخروج، فاذا هو يسبقها ويعترض طريقها، ولكنها واصلت سيرها وفي اذنها همسته التي لم يسمعها غيرها: سأكون زمنك! سأجعل المرأة فيك تقتل الملكة!
والمباراة مفتوحة بعدُ بين رجل يريد ان يكون ملكا، وملكة تتطاول لأن ترجع امرأة!

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
من اعترف بحبه بات أسيرا له، ومن كابر فامتنع عن الاعتراف سدّ عليه حبه كل الطرقات وحاصره فضاقت عليه حياته.
الحب لا يعيش في قفص، حتى قفص صدرك. الحب فضاء مفتوح باتساع القلب. اترك قلبك يعلن حبك، فالحب عدوى، ايضا!

Exit mobile version