طلال سلمان

هوامش

الهوية التائهة

في الموعد الذي كان لتأكيد الحضور والدور، وحولته الأقدار إلى مناسبة للاستذكار وتجديد العهد بإكمال المهمة التي باشرها الراحل تريم عمران، تجدد اللقاء في تلك القاعة الأنيقة في الدور الرابع من مبنى الزميلة »الخليج« في الشارقة، وهذه المرة تحت عنوان: »الهوية العربية وتحديات العولمة«.
من حول الطاولة الممتدة بذراعيها أمام منصة الرئاسة توزع ثلاثون من الدارسين والبحاثة والمعقبين والنمامين الذين يطلقون تعليقاتهم على شكل نكات أو تشنيعات تكسر »وقار« المناقشات ولكنها تعطيها »النكهة«، وتكسر الرتابة التي تأخذ إلى النعاس.
الكل يعرف الكل هنا، والكل جمعته صداقة بالراحل تريم عمران، وكتب في »الخليج« أو عنها. والدكتور عبد الله عمران الذي يعرف الجميع ويهتم بالجميع، يتابع المناقشات تاركاً لملامح وجهه أن تعبّر عن اعتراضه الضمني أو ابتهاجه بفكرة جديدة »تفلت« من هذا المشارك أو ذاك.
أية هوية عربية، يا دكتور، وهؤلاء الذين كانوا بأكثريتهم الساحقة »رفاق سلاح« يتواجهون الآن بمساءلة بعضهم البعض؟! وماذا تعني الهوية العربية التي هشمها الطغيان وزيّفها الشبق إلى السلطة وأنكرها أهلها من الطامحين إلى الالتحاق بموكب الهيمنة الأميركية المطلقة التي لا تقبل إلا من يعلن براءته من حسَبه ونسَبه وسمرة بشرته؟
أصدق المشاركين هو من يطرح، بعد، الأسئلة… أما الذي أراح نفسه إلى التسليم بواقع الحال والتحق بمواكب »المنتصرين«، فقد ارتد على قومه بالأجوبة المثقلة بالسخرية: ما هذه الهوية التي تظهرون الحرص عليها في حين أنها لا تعني إلا الغربة عن العصر؟
يصرخ »فرعوني« مستهجناً: آن أن نودع الأحلام الرومانسية، آن أن نخرج من وهم أننا أمة واحدة. لم يعد التواصل قائماً بيننا. ويرفع »كويتي بالتجنيس« صوته صائحاً: آخر ما كان تبقى هو اللغة العربية، وها هم أبناؤنا يهربون من صعوبتها إلى الإنكليزية المبسطة أميركياً والتي فرضت نفسها على البشر بمختلف أجناسهم وقومياتهم باعتبارها لغة العصر: لغة العلم والمال، لغة الكومبيوتر وثورة الاتصالات بمختلف إنجازاتها الباهرة.
ويهتف »إسلامي« بنبرة استغاثة: لماذا تفتعلون الصدام بين الإسلام والعروبة؟ إنهما يتكاملان ولا يتناقضان.
يعلق خبيث: أين هو التكامل؟ لا الإسلام بنى دولة ولا العروبة حققت ما عجز عنه الدين. لقد أُخضِع العرب والمسلمون للدكتاتورية باسم الدين أو باسم القومية، وانتهى الأمر، وإذ لا عرب لا في الدين ولا في الدنيا!
يحضر العراق بنكبته المفتوحة على الفتنة، ويئن واحد من المشاركين: عشية الاحتلال الأميركي كان الوضع مريباً، فالكردي »يتحالف«، والشيعي »ينتظر«، والسني »يقاتل«. بعد الاحتلال بات الكردي »يحكم« والشيعي »يشارك« والسني المنبوذ »يقاتل«. إن 85 في المئة من شيعة العراق عرب، والأكراد والآخرين 15 في المئة. ويكتب في الدستور الموقت: العرب (لا العراق) هم جزء من الأمة العربية. أما الحكم فرأسه الفعلي أميركي، ورئيس الدولة (الطالباني) كردي، ورئيس الوزراء (الجعفري) هندي، ورئيس الجمعية الوطنية (حاجم الحسيني) تركماني، ونائب رئيس الجمهورية إيراني (عادل عبد المهدي)، ونائب رئيس الجمعية الوطنية إيراني (الشهرستاني). أما النائب الثاني فكردي (عارف طيفور) ونائب رئيس الوزراء كردي (نسرين برواري)… والرئاسات الروحية لملايين الشيعة العرب معقودة اللواء لأربعة مراجع أحدهم باكستاني واثنان منهم إيرانيان والرابع باكستاني.
تتعالى الأصوات وتتداخل المناقشات، وتلف الحيرة الجميع. الكل قلق على الحاضر والمستقبل، على الهوية والدين، على اللغة والشخصية، على الوطن والأمة.
ويقرأ مشارك خبراً في صحيفة لبنانية عن عريضة تقدم بها بعض الوافدين المجنسين حديثاً من الكلدان والأشوريين والسريان، تعترض على النص في الدستور على أن لبنان بلد عربي…
التحديات لا تأتي من الخارج. والداخل أعجز من أن يواجه مشكلات التحول والمواجهات مع الاحتلال.
هل يعرف العرب أنفسهم حقاً؟ هل يكفي الدين طريقاً إلى المستقبل؟!
أمامنا زمن طويل من الضياع في غياهب العولمة. من لم يعرف نفسه فكيف له أن يعرف الآخر؟ من لم ينتصر على جهله فكيف له أن يهزم الخارج المستقوي علينا بعدم احترامنا أنفسنا؟!

الكويتية ناخباً ونائباً: إنجاز متأخر لعبد الله السالم!

غمرتني موجة من الفرح مع الانتصار الذي حققته الديموقراطية في الكويت عبر الاعتراف بحق المرأة في أن تكون »مواطنة« مكتملة الحقوق السياسية، تنتخب وتُنتخب وتستطيع أن تكون »وزيرة« كما تعهّد رئيس الحكومة الشيخ صباح الأحمد وهو يعبّر عن زهوه بهذا الإنجاز الذي تأخر عن موعده.
واستعادت الذاكرة شريطا من الصور عن أيام عشتها في الكويت مع تحولها من »إمارة« إلى »دولة« بقيادة الراحل الكبير الشيخ عبد الله السالم الصباح الذي كان سابقاً لعصره في استنارته وسرعة تقبّله ليس فقط لأفكارالحداثة، بل كذلك لضرورات الانتقال من البداوة إلى »الدولة« ومن الحكم المطلق الذي يمارسه »الشيخ العود« بالتوافق إلى المؤسسات الدستورية.
ما زلت أذكر على وجه التحديد، فقرات من حوار أجريته في بدايات العام 1963 مع الخبير الدستوري عبد الله عثمان خليل، وقد طلبه الشيخ عبد الله السالم من مصر جمال عبد الناصر، فأوفدته إليه كي يساعد في وضع الدستور الكويتي.
قال لي الدكتور خليل، يومها: أصارحك أنني فوجئت بالعقل المستنير لهذا البدوي الذي لم يعرف من العالم إلا قليلاً، والذي لم تتوفر له فرصة التحصيل العلمي العالي. إنه ديموقراطي بالغريزة، ثم إنه مؤمن بالمؤسسات. إنه أرقى فكراً من كثير من زعماء الأحزاب السياسية المنادية بالديموقراطية. إنه يستطيع أن يكون حاكماً مطلقاً، فلن يسائله أحد، ولا سيما أن ليس في محيطه الصحراوي من تعرّف إلى كلمة »الدستور« إلا عند الحديث عن القرآن الكريم. إن هذا البدوي شبه الأمي يقود بغير أن يقصد، ربما ثورة ديموقراطية ستظهر آثارها في جواره الذي لم يعرف إلا قاعدة »وأطيعوا أولي الأمر منكم«.
واستدرك الخبير الدستوري الذي كان يرى فيه البعض خليفة للعالم الدستوري الكبير عبد الرزاق السنهوري: تصور، إنه يفكر بأن يفتح الباب أمام المرأة لدخول ميدان العمل العام.
كنت أتولى المسؤولية عن إصدار مجلة »دنيا العروبة« لصاحبها الذي صار من بعد عميد الصحافة الكويتية، الراحل عبد العزيز المساعيد. وقد تجرأنا وقبل جرأتنا فخرج العدد الأول من المجلة بغلاف ملون لطالبة كويتية جميلة. وكان ذلك حدثاً فريداً يومها، وقد أحدثت هذه »القفزة« هزة في المجتمع الكويتي الذي كان يعاني شيئاً من الخلل في العلاقات الأسرية.
لم يكن في الكويت جامعة. كانت ثانوية الشويخ قد سجلت سابقة التعليم المختلط. وقد زارها الشيخ عبد الله السالم وصافح طلابها وطالباتها معلناً مباركته هذا »الاختراق«.
كان رجال الكويت وقد أصابتهم فورة النفط بلوثة التعجل في التعويض عن ماضي الحرمان، يسافرون بالطابور إلى القاهرة، حيث النوادي والملاهي ومجالس الطرب والسمر، قبل أن يتعرفوا إلى بيروت ومن بعدها إلى لندن وسائر العواصم التي تكشف فيها النساء عن مكامن الجمال والسحر مجاناً، ويكشفن ما تبقى بالثمن…
وكانت الكويتيات المتروكات لقدرهن يعانين هجر الأزواج في حين كانت الفتيات اللواتي بدأن يتعرفن إلى أنماط من الحياة غير التي نشأ عليها الأهل، واللواتي أصابهن مسلك الآباء مع الأمهات بصدمة قاسية، يباشرن التمرد والخروج على التقاليد الصارمة التي تفرض العباءة على »البالغات«، وتمنع الاختلاط، وتنظر إلى من تحادث شاباً ولو قريباً وكأنها قد زنت أو هي على وشك أن تزني.
بعد ذلك بسنوات وفي بيروت أساساً كما في القاهرة وباريس ولندن وواشنطن، يسّرت الأقدار أن نلتقي بدارسات كويتيات، ثم بسيدات أعمال كويتيات، ثم بأستاذات جامعيات، وبكاتبات وزميلات في المهنة، وأخيراً بمسؤولات في الإعلام أو في إدارات أخرى… وكان كل لقاء جديد يزيد من تقديري للمرأة الكويتية وكفاءتها العالية وشجاعتها الأدبية التي تجعلها »اقتحامية«.
لذا، ومع سعادتي بإقرار »مجلس الأمة« الكويتي إعادة الحق إلى نصابه والتشريع لحق »الكويتية« في أن تكون مواطنة كاملة الأهلية تشارك في الحياة السياسية، ترشيحاً وانتخاباً، فإنني لا أرى في هذا حدثاً جاء من خارج السياق، أو منحة أميركية، بل هو ثمرة كفاح طويل لاستعادة التوازن المفقود، حين كان رجال الكويت يمارسون حقوقاً تفيض على واجباتهم، بينما السيدات والفتيات اللواتي خرجن من أسر الحريم منذ زمن بعيد »محرومات« من المساواة… وهن صاحبات القرار في المسائل التفصيلية كالبيت وتربية الأولاد والتعليم وتوجيه الرساميل إلى الاستثمار الأنجح… إلخ.
في هذه اللحظة نستذكر الشيخ عبد الله السالم الذي سبق عصره وكان أكثر استنارة من حملة شهادات عليا يدرسون »الديموقراطية« باعتبارها »كريهة« تتراوح بين »البدعة« و»الضلالة«، وبين أن تكون دسيسة أميركية لصالح إسرائيل.
عسى أن ينشغل الرجال العرب، من ذوي الشوارب المعقوفة، بحق أن يكون لهم رأي في مصير بلادهم، وموقعهم من سلطته المطلقة المعقودة لفرد صمد، واحد أحد »لا يتخلى« عنهم إلا بالموت!
… وعسى أن يعملوا لاستعادة حقوقهم المصادرة في أوطانهم ليمكنهم بالتالي أن يناضلوا من أجل تحرير أوطانهم… وهي محتلة جميعاً، من الداخل ومن الخارج معاً.
… وإن قعدت بهم الهمة فليتركوها للنساء فقد يكن أجدر بمثل هذه المهمة!

موعد جديد للهديل

انفتح الباب لخفق الأجنحة وتدفق رف من الحمام الأبيض فملأ القاعة عطراً كاد يشغله عن الاستمتاع بالهديل.
قالت بلثغة من تدرب نفسها على النطق الصحيح: أحببت أن تساعدني على التعرف، من قرب، على عظيم كان، ذات يوم، صديقك.
كانت خصلات من شعرها تنساب من حول وجهها كجداول من حرير، ولم يكن تهيّب اللقاء الأول ليمنع عينيه من أن تشعا بالإعجاب، وإن كان جوابه قد صدر عنه بكلمات تنضح بالحيرة: أنا، صديق عظيم؟ آه، هو فعلاً كان عظيماً.. لكن قد يكون غيري أعرف به مني.
دهمته رشة عطر حين أمالت وجهها بحركة سريعة فكاد شعرها يغمره فينسيه بدء الكلام وموضوعه. قالت تطمئنه: لا يتحدث عن عظيم إلا أنداده.
لم تكن مساحة اللقاء تسمح لغروره بأن يفرد جناحيه، فاختار أن يغرق نظره في عينيها، تاركاً لها أن تسترسل في شرح المهمة التي وفرت له فرصة أن يغمره الهديل بنشوة الطرب.
توالت الجمل المفككة، صانعة شبكة مبتكرة من الكلمات المتقاطعة، إلى أن أتاح له حظه العثور على جملة كاملة. قال: لقد كان بالفعل عظيماً، ولكن زوجته كانت أعظم منه.
انفتحت، فجأة، أبواب الكنز المرصود، وأحالها الفضول قطةً مبللة، وشعت عيناها ببريق مستفز، ثم قربت وجهها منه فلفحته أنفاسها بحرارة تنذر بالحريق.
قالت: طاب الحديث الآن.
استدرك معابثاً وقد استعاد سيطرته على »الوضع«: بل لا بد من موعد آخر.
ابتسمت وهي تودعه منسحبة، تاركة له الفرصة لاستجماع وعيه حتى يسمع رنين الموعد الجديد.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ليس الحب شعراً. إنه مصدر الشعر.
الحب حياة، فيها الطفولة، وفيها الشباب… لكنه لا يشيخ مع السن.
أعرف عجوزين يتوكأ كل منهما على عصا، لكن حبهما أكثر شباباً من مراهق لم يبلغ من عمره العشرين.

Exit mobile version