طلال سلمان

هوامش

موعد معلّق مع محمود السعدني على ذكرى تريم عمران

مرة أخرى يجمعنا تريم عمران فنجتمع من حول ذكراه ومن حول رسالته التي يقوم على استكمالها وتوسيع دائرة انتشارها وتأثيرها الدكتور عبد الله عمران.
لقد حول »أبو خالد« الذكرى إلى مؤسسة ثقافية إنسانية، إلى جانب المؤسسة الاعلامية الكبرى »دار الخليج«، تحمل اسم المقاتل الذي غاب مبكراً مع انه كان دائماً عظيم الحضور، ولو صامتاً، شديد التأثير ولو بلا ضجيج.
واعتمدت »مؤسسة تريم عمران الثقافية والإنسانية« تقليداً سنوياً يقضي بتكريم نخبة من رواد العمل الاجتماعي في دولة الامارات، والشارقة خصوصاً، وكوكبة من الاعلاميين الشبان المتميزين، فضلاً عن بعض من تختاره لأنها تصنفه رائداً من رواد العمل الصحافي العربي، داخل الامارات وخارجها.
هذه السنة جاء الدور على أربعة محاربين قدامى من رفاق العمر إضافة إلى كاتب هذه السطور: محمود السعدني وصلاح الدين حافظ من مصر، محمد مساعد الصالح من الكويت، وعبد الله مبارك سيار من البحرين.
ولقد أتاحت لنا المناسبة ان نلتقي، ولو لوقت لا يشفي الغليل، عضو مجلس الاتحادي حاكم الشارقة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي الذي تسبقه شهرته كعروبي عريق وكإسلامي مستنير ومحاور ممتاز وكذواقة في اختياراته التي مكنته من اضفاء طابع من العراقة، على الشارقة الجديدة، عبر اعتماده طرازاً في العمارة يستعيد بعض أرقى ما وصلت إليه أيام المجد العربي الإسلامي الغابر، قبيل الأندلس وفيها وبعدها.
الحفل بسيط بغير أبهة. والراحل الكبير الشيخ زايد بن سلطان يلقي بظله على كل انجاز في هذه البلاد، التي كانت صحراء فجعلها واحدة من جنات الله على أرضه، والدكتور عبد الله عمران الذي حباه الله عقلاً سياسياً وحكمة وحسن إدارة وثبّته على ايمانه بعروبته وبرسالة »الخليج« يتابع كل شي، باهتمام ولا قلق، ويحتفي بضيوفه بإعزاز يغلفه تواضع أصيل.
كنت أمنّي النفس بلقاء الزميل والصديق الكبير محمود السعدني، وقد باعدت بيننا الأيام، ويبدو انها كسرت قلمه إذ لم أعد أقرأ له إلا لماماً، لكنه لم يأتِ… وأبلغنا ان نجله الذي كان قد وعد بالحضور نيابة عنه قد اعتذر في اللحظات الأخيرة »لأن الوالد تعبان جداً«.
قال صلاح الدين حافظ بأسى: تصور انه لم يعد يرد على هواتف أصدقائه وزملائه ورفاق عمره الذين حفظوا له الود. لقد اقفل الباب على نفسه في منزله ولم يعد يخرج منه. وفهمت ان حالته الصحية تتدهور فتؤثر في حالته النفسية، وهكذا فانه يميت نفسه في قلب الصمت، هذا الذي ملأ الدنيا ضجيجاً على امتداد أربعين عاماً أو يزيد.
محمود السعدني واحد من الكتاب النادرين في تملكهم ذلك الأسلوب السهل الممتنع القائم على الرؤية الكاريكاتورية لكل من وما هو جدي.
لقد امتهن السخرية من الرجال والاحوال، السياسة الرائجة بالقوة والفن المروج له بالقوة.
كتب كثيراً فأخطأ كثيراً. ذهب في المجاملة أحياناً إلى حيث لا يجوز، وذهب في المديح أحياناً إلى حيث لا يليق بكاتب كبير مثله… خصوصاً وان كفاءته قد جعلته ينتقل من كاتب في مجلة روز اليوسف إلى رئيس تحرير لمجلة »صباح الخير« التي صدرت للشباب فوصلت بالفعل إليهم من دون ان تهبط بمستوى لغتها السياسية أو معالجتها للقضايا الاجتماعية المطروحة بحجة ان »الأجيال الجديدة ناقصة الثقافة، محدودة الوعي«.
ولقد شكل محمود السعدني، بشخصه وعلاقاته وكتاباته، نموذجاً فريداً في بابه، هو خليط من النديم الذي قد تزل به القدم إلى رتبة الحكواتي أو مضحك الأمير، ومن الناقد الفني الذي قد يأخذه المزاج إلى شيء من الحدة يداني الاهانة أحياناً، أو إلى امتداح يداني المبالغة المحقرة للمنطق والعقل ومستوى القائل والناقل والسامع والقارئ.
على ان محمود السعدني كان قريباً من صورة »ابن البلد« أو الكاتب الشعبي، بلغته وبمواقفه السياسية التي كلفته »خصومة« مع »كبير العيلة« المنوفي مثله رئيس الزيارة الشهيرة أنور السادات، وقد أخرجته هذه الخصومة شبه منفي من مصر، ثم اعادته مصالحة شبه عشائرية، كان بين أطرافها بعض الأمراء والمشايخ من أهل النفط، فضلاً عن نقابة الصحافيين وبعض السياسيين النافذين الذين كان يطربهم أسلوب السعدني، أو الآخرين ممن نصحوا بأن »نستعيد السعدني ليكون معنا ضد أولئك الذين يستضيفونه ليفيدوا من قلمه ولسانه ضدنا.. وكل من السلاحين أخطر من الآخر«.
يشبه السعدني الشعراء الصعاليك، لكن هذا لا يعني أنه لم يكن له موقفه السياسي، فهو ممن انتظموا في »التنظيم الطليعي« في الحقبة الناصرية، وممن التزموا »شعراوي جمعة« الذي كان وزيرا للداخلية في العهد الناصري، ثم صنفه السادات متآمرا مع زمرة 15 أيار مايو الذين خلعهم بانقلاب وأرسلهم الى السجون.
وفي الحقبة الأولى من نفيه ترك محمود السعدني لندن وجاء بيروت، ودخل عليّ في مكتبي صارخا: وأنتم تدمرون الجنة وتمشون الى الحرب بأقدامكم ليه؟! ورددت بأول جملة خطرت على بالي: اسأل أنور السادات!
لم يكن يحتاج الى أكثر من هذه الجملة ليطلق حمماً من شتائمه المقذعة ضد السادات وسياسته التي كان يرى، كما نرى، أنها عملية اغتيال لمصر ودورها العربي ووزنها الدولي.
أقام محمود السعدني في بيروت لبعض الوقت وكتب في »السفير« بعضا من مقالاته الطريفة… وكان أعجب ما رأيت أن زميلنا المعلم الراحل إبراهيم عامر كان يصر على أن »يبيض« بخط يده مقالات محمود، ليس فقط لأن خطه رديء، بل أساسا حتى لا تضبط وثيقة بخطه تدل على أن هذا الهارب الى المنفى باختياره موجود في بيروت أو في مكان معلوم.
شفى الله محمود السعدني الذي كان وصوله الى أية عاصمة عربية يشبه »إجازة« من قرف السياسة وانسداد آفاق الأمل.
لقد كان يقاتل بسخريته ما يراه خطأ..
وربما لهذا كثيرا ما كتب عن نفسه. شفاه الله.
رحيل بعض أصالة من الزمن الجميل: محمد رشدي

كأننا نعيش مرحلة تصفية لكل ما كان يضيء ويشيع الفرح وينور طريقنا بالأمل في »الزمن الجميل« الذي تم اغتياله بالتواطؤ المشهود بين بعض صنّاعه من القادة الذين على كبرهم ظلوا دون احلامهم وبين المهيمن الاجنبي (ولو اسرائيليا) والذي ظل دائماً اقوى مما توهمنا في التأثير على مجتمعاتنا ومفاهيمنا والشعارات.
كأننا أمة محكومة بأن تمشي القهقرى، فتراها تواصل تراجعها الى الخلف، يتقدم بها الزمان ولا نتقدم فيه، ويستقوي عليها اعداؤها فيأخذها انعدام الثقة بالنفس الى الهوان والاستسلام وتحقير الذات.
يحصل هذا في السياسة وآلة الحكم وآلهة السلطة،
ويحصل في التعليم والثقافة والفن عموماً، من المدرسة الى الجامعة ومن الكتاب الى المسرح والسينما والغناء والموسيقى، كما يحصل في العادات المستوردة ثيابا ولغة ومسلكاً ورقصاً. واندماجاً في نشوة مباغتة تستولدها قرقعة الديسكو الذي يخدم في التغطية على رداءة الصوت واللحن والكلمات وينقل الذوق من الرأس الى القدمين.
منذ متى لم تسمع اغنية تتخطى الأنا بفرديتها الى الواحد في جماعة؟
آخر خسائرنا الفادحة رحيل الفنان الكبير الذي استمد احساسه بالفرح من الناس ثم غنى لهم فرحهم، محمد رشدي.
وتجربة محمد رشدي اصيلة بالمطلق: في الكلمات واللحن ثم في الاداء المتميز لهذا الصوت الرخيم والعفي.
»مطرب الشعب« ومغني فرح الناس، ابن الأرض المعتز ببشرته السمراء اعتزازه بلهجته »الفلاحية«، الباحث عن الكلمة النابضة بصدق العاطفة ونقائها، والمنتشي باللحن الشجي، فإذا به يكمل »المهمة المقدسة« فيغني لكي يبتهج الناس ولكي يزدادوا شغفا بالحياة. لقد اختار ان يتتلمذ على ايدي الاساتذة الكبار الذين كانوا يغنون حبهم للناس، للشعب.
لقد تكاملت عناصر النجاح لتقديم عمل فني متميز، وكان محمد رشدي الرسول والداعية. غنى، كما سيد درويش من قبل، للفلاحين والعمال والصنايعيه، غنى للأرض وأبطالها وحماتها الشعبيين، غنى للشبان والصبايا وعشيات المواعيد، غنى للبطل الشعبي ادهم الشرقاوي، وغنى للصبية الحلوة »تحت الشجر يا وهيبة«، وغنى للصيادين والعمال والفلاحين وابناء البلد الذين يلبسون للحب الثياب الجديدة ويتعطرون لكي يذهبوا الى مواعيده.
كالشهب انطلق محمد رشدي مطرباً في صوته عافية ورخامة وطرافة، وكله ثقة بأنه انما يؤدي مهمة وطنية جليلة.
كان قد بدأ الغناء في الظل لفترة طويلة قبل ان يلتقي مع الملحن المجدد والمبدع بليغ حمدي وشاعر الارض وابناء الارض من »الغلابه« الذين يتقنون فن العشق ويذوبون رقة في حبهم عبد الرحمن الابنودي.
بعض الفنانين تظلمهم مقاديرهم التي تيسر لهم فرصة الانطلاق من نقطة متقدمة، وتوفر لهم فرصة نجاح يفوق توقعهم واستعدادهم لاحتلال القمة والبقاء فوقها لامد طويل، وهكذا يتحول النجاح الى تحد لا تفوز فيه إلا قلة من الاذكياء والمحظوظين ممن تتوفر لهم قوى دعم يلعب فيها الحظ دوراً حاسماً.
محمد رشدي واحد من هؤلاء انطلق كالصاروخ وها هي اغنياته التي تشابه لوحات فنية ممتازة الكلمات واللحن والاداء، تفرض نفسها مجدداً ولو بإخراج جديد وبأداء يشابه الاصل في »عدوية« وان لم يدانه في رنة الفرح في صوت البحار العاشق الذي اصابته سهام الحب، فأقسم الا »يضع رجله في الماء الا ومعه هذه الجميلة التي سلبت لبه من النظرة الاولى »عدوية«.
محمد رشدي انطفأ قبل رحيله… فمع غياب بليغ حمدي انفكت عرى الثلاثي الناجح، خصوصاً وقد انصرف الشاعر عبد الرحمن الابنودي الى الشعر السياسي، والى محاولة التأريخ للمراحل المختلفة التي عاشتها الأمة في صعود حركتها الثورية ثم في انتكاساتها المتلاحقة. كذلك فإن التجارب السينمائية لم توفر له فرصة اضافية للنجاح كمطرب، كما جرى مع العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ الذي كان مثل استاذه محمد عبد الوهاب متميزاً في ذكائه تميزه في ادائه المثير لاشجان جيله الذي غنى له عذابه في حبه، كما غنى له فرحه بانتصاراته السياسية التي سرعان ما انتهت الى الانتكاس مع هزيمة 1967.
محمد رشدي كان نقطة تقاطع بين الكلمات ذات الاجنحة ولحن الفرح والصوت الذي يأخذ الى النشوة، وهكذا سمعه الشباب فطربوا ورقصوا وطاروا الى جنة الحب خفافاً.
بعض أهل الفن تظلمهم اقدارهم، وبعض آخر يظلمون انفسهم، وبعض ثالث يظلمهم تميزهم عن زملائهم بالموهبة فتشن عليهم الحروب غير العادلة حتى يطويهم الصمت،
محمد رشدي نموذج للفنان الشعبي… المظلوم.
لكن اغانيه التي جاءت من روح الشعب وعادت إليه ستبقى بعد، في انتظار ان يخرج العرب من »جاهليتهم« الجديدة، في السياسة كما في الثقافة، وفي الاقتصاد كما في الفن، ليصنعوا زمناً جديداً جميلاً يستعيد فيه الطرب، كلمات ولحناً وصوتاً واداءً، اعتباره المستمد منهم أولاً وأخيراً.

تهويمات

قالت له: ستعجب من حديثي في السياسة، ولكنني أعتقد أن بين أسباب هزيمة العرب أنهم يعانون من نقص شديد في الحب، حبهم لأرضهم، حبهم للغتهم، حبهم لأهلهم، حبهم لأبنائهم. إنهم يتضاءلون عبر احتقارهم لأنفسهم فيؤلهون عدوهم لتبرير هزيمتهم بعجزهم. إنهم يكرهون أنفسهم فكيف ينتصرون؟
الحب ليس امرأة. الحب أرض وناس، أطفال وأمهات وآباء وكادحون يشربون من عرق الزنود، ويطعمون مستقبلهم تعب أيامهم ليكون لأبنائهم حياة أفضل في أرضهم، ولا يكونون صناعاً بالأجر لحياة أفضل للآخرين، على حسابهم وبلادهم.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
في الحب كثير من السحر، إنه يقوي الضعيف، ويشجع الخائف، ويعيد الأمل الى اليائس، ويمد المكسور بثقة في النفس تجعله يخترق المستحيل.
حبيبي يجعلني أقوى إنسان على وجه الأرض، وليس ذلك وهماً. أحب مثلي فتحس مثلي.

Exit mobile version