طلال سلمان

هوامش

الديموقراطية بالأرض.. فإن انفصلت عنها انتفت

متى دخلت الطائفية السياسة أفسدتها، ويكون الضحيةَ الأولى لهذا الصراع غير المتكافئ بين الغرائز والعقائد: المواطنُ ومن ثم الوطن.
على امتداد الشهرين الماضيين شهد لبنان »فورة« ديموقراطية أطلقها الغضب.
كان كل اللبنانيين غاضبين وإن تعددت أسباب غضبهم الذي كان يمكن أن يأخذهم إلى »الثورة« لو أنهم »مواطنون«…
ولأن الغضب يصدر عن عاطفة فإنه يظل خارج السياسة. وهكذا بقيت الشعارات »مطلقة« وخارج السياسة: حرية، سيادة، استقلال، نريد الحقيقة… وبالتالي فقد كان سهلاً أن يرفعها المختلفون في فهم الدلالات الفعلية لكل من هذه الكلمات التي شارك في حمل رايتها من كانوا يصنفون »معارضة« ومن صنفوا »موالاة«.
كان طريفاً أن يهتف للسيادة والحرية والاستقلال من يطالب بتطبيق فوري للقرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن، والذي لا يمكن التخفيف من منطوقه الواضح القاضي بالتدخل الفظ في الشؤون الداخلية لهذا البلد الذي كان دائماً بلا داخل.
وكان الأطرف أن نسمع هذه الكلمات وهي تتردد على ألسنة سفراء الدول العظمى، وبالتحديد سفير الإدارة الأميركية التي ترى نفسها مكلفة بإدارة شؤون الدنيا، شرقاً وغرباً، عرباً وعجماً، والتي تعطي نفسها صلاحيات إلهية فتقرر للشعوب مصائرها وفق المصالح الإمبراطورية، وإن تحت لافتات أخلاقية تبرر »الاحتلال« بالادعاء، مثلاً، بأنه أقصر الطرق إلى »الديموقراطية«، وأن السيادة لا تتوطد أركانها إلا بحماية دبابات الاحتلال الإسرائيلي، كما في فلسطين.
بالمقابل فإن الأنظمة الدكتاتورية ترى »الديموقراطية« في التأييد غير المشروط للحاكم المطلق في مختلف قراراته التي يندر فيها »الصح«، فتصبح »الديموقراطية« الشكلية مجرد أداة تزيينية للدكتاتورية.
ومن أسف أن العرب لم يعرفوا غير هذين النوعين من »الديموقراطية«، ولعلهم لهذا نفروا منها، بل لعل الكلمة بذاتها باتت تستفزهم كلما سمعوها من فم جورج بوش ومعاونيه، أو من أفواه منافقي الطاغية في أقطارهم.
أما في لبنان فالمشكلة أكثر تعقيداً، فمع أن اللبنانيين يظهرون تعلقاً شديداً بالديموقراطية، وتعصباً شديداً للسيادة، وتمسكاً شديداً بالاستقلال والحرية والعلم ذي الأرزة الخضراء على مساحة بيضاء بين الخطين الأحمرين، إلا أن لهم مفاهيم »جهوية« خاصة و»طائفية« جداً لها.
ذلك أن اللبنانيين يفصلون بين عواطفهم وأرضهم، وبين ولاءاتهم القبلية والطائفية وما يفترض أنها مبادئهم السياسية.
إنهم في المهرجانات والتظاهرات التي جرت وتجري في شوارع بيروت، يهتفون للديموقراطية والسيادة والاستقلال، لكنهم حين يعودون إلى قراهم وعائلاتهم وجهاتهم الأصلية يستعيدون على الفور ولاءاتهم التقليدية للطائفة والعشيرة وعصبية التنظيم السياسي الذي يختصرهم ويقدمهم في أكثر صورهم تخلفاً وبؤساً وغربة عن العصر.
هناك انفصام خطير داخل نفوس اللبنانيين، وهم أسرى ما تربوا عليه ونشأوا في ظلاله من عصبيات.
الأخطر أنهم يفصلون تماماً بين الأرض والشعار.
لعلهم يطمحون حقاً إلى الديموقراطية، لكنهم يريدونها مفصلة على مقاس منطقتهم وضمن طائفتهم بالذات، ومع انفصال كامل عن سائر أخوتهم وشركائهم في »الوطن«، الذي لا يعود في هذه اللحظة واحداً.
ولعلهم يطمحون فعلاً إلى السيادة والاستقلال، لكن قياداتهم السياسية المرتهنة في الغالب الأعم لمراكز قوى خارجية، عربية أو أجنبية، لا فرق، تستخدم هذه الشعارات لتبرير ارتباطاتها، فإذا ما حققت غرضها نسيت الشعارات وجماهيرها… فالسلطة تذهب بالذاكرة، كما تعرفون!
لا معنى للديموقراطية من دون »الأرض«، أي الوطن… فليست الديموقراطية ترفاً، وليست تقليعة أو موضة يمكن استيرادها، جاهزة من »بلاد المنشأ«.
فالمواطن بأرضه، و»حقوقه« تبدأ بحرية وطنه، وإلا توجب أن تأخذ الديموقراطية طابع »المقاومة« لتحرير الأرض. فلا حرية لمواطن أرضه محتلة، وهذه ديموقراطية الاحتلال في العراق قد ذهبت أو تكاد بوحدة العراق، شعباً وأرضاً… ثم إنها تكاد تأخذ العراقيين إلى الفتنة وتُظهرهم كأنهم منقسمون حولها، ليبدوا كأنهم مختلفون حول الموقف من الاحتلال ذاته.
الديموقراطية بالأرض، والمواطن بأرضه، فإن هو خرج منها تاه بين العصبيات المقتتلة، طائفية أو عرقية أو جهوية… إلخ.
وليس صحيحاً أن الديموقراطية يمكن أن تقوم في ظل الاحتلال… والانتخابات على وجه التحديد لا تعني آلياً الديموقراطية. لقد »انتخب« العراقيون نوابهم في لوائح مقفلة، وعلى قاعدة النسبية، لكن الشكل الديموقراطي لم ينجح مطلقاً في تمويه واقع الاحتلال أو في تصوير الانتخابات كأنها فعل إرادة من أجل حرية الوطن والمواطن. ويمكن أن نبتدع أسباباً تخفيفية لبعض حسني النية، فنقول إنهم ذهبوا فأدلوا بأصواتهم مفترضين أنهم يجهرون باعتراضهم على الاحتلال، أو يعجلون بفعلهم هذا في موعد إجلائه عن أرضهم.
الديموقراطية بالأرض، ومتى نسينا الأرض لن نصل إلى الديموقراطية.
وفي لبنان تحديداً، لا بد من تطهير »الأرض« من الطائفية والمذهبية والإقطاع السياسي المرتكز عليهما، ولا بد من التحرر من النفوذ الأجنبي، ليمكن القول إننا باشرنا رحلة المليون ميل في اتجاه الديموقراطية.

إبراهيم الكوني: الطوارقي الذي أعزّ العروبة

قليلة هي أخبار النجاح التي تستولد الفرح، في أيام السقوط التي نخب في دائرتها المقفلة منذ دهر يبدو أنه سيمتد طويلاً… ولقد ألفنا الخيبة ومراراتها حتى اندثرت ثقتنا بالنفس وصرنا ننام في أحضان اليأس ونفيق متعجلين أن نتلقى إهانة جديدة لجدارتنا بالحياة في عصر التقدم المبهر هذا!
أمس، تسلل إلينا خبر مبهج، إذ أعلن أن مؤسسة ثقافية دولية ذات رصيد من الاحترام، قد منحت جائزتها الأدبية السامية للكاتب والروائي الليبي الممتاز إبراهيم الكوني.
ولقد أسعدتني المصادفات أن عرفت هذا الكاتب المبدع عن قرب، وقرأت له بعضاً من رواياته الممتعة والفريدة في بابها، إذ إن موضوعها الدائم هو: الصحراء، وتحديداً عبر أبطالها الأسطوريين، الطوارق.
فإبراهيم الكوني طوارقي، وليس ثمة ما يفاخر به هذا الإنسان الرقيق الذي يذوب تواضعاً ودماثة، إلا انتسابه إلى هذا »الشعب«، المتميز في فرادته، عادات وسلوكاً وتقاليد تكاد تتجاوز في صرامتها القداسة، الطوارق.
وكثيراً ما كنا نترك ما في أيدينا وننسى مواعيدنا المعلقة، لنلتف حول هذا الشاب الذي درس في موسكو، ثم اختار أن يقيم في فنلندا، وإن ظل على صلة حميمة بموطنه يأتيه في أوقات فراغه من الكتابة، كأنما ليستعيد حرارة الانتماء ودلالة الكلمات ومعناها من أرضه الأصلية.
نادراً ما رأينا إبراهيم الكوني في ملابس الطوارق التقليدية: الجلباب الواسع، والعمامة التي تغطي مع الرأس الفم بالتحديد، ولا تترك إلا العينين ظاهرتين… ومع عيني إبراهيم كان يطالعنا من قلب العمامة شارباه الكثان المتروكان على السجية، بما كان يمنحه علامة فارقة إضافية.
كنا نسأل ونسأل ونسأل، ولا يتعب إبراهيم الكوني من الإجابة، بل لعله كان يسعد باهتمامنا بقومه الذين تختلف الروايات حول أصولهم، وهل هم من العرب العاربة أم المستعربة، أم أنهم شعب أفريقي هو ابن أرضه، وهل إسلامهم هو الإسلام أم شيء من الإسلام مع كثير من الطقوس والتقاليد التي توارثوها في قلب بيئتهم الأصلية، ثم أضافوا إليها الإسلام بأساسياته فصار لهم »دين« هو »نسخة منقحة ومزيدة« من الإسلام تشهد له كما لهم بالفرادة.
إبراهيم الكوني هو شاعر الصحراء وراويتها وعاشقها، قيثارتها بكل الشجن، وحاديها بكل الفخر: إنه ابنها البار، ابن رملها وصخرها وقلاعها الأسطورية التي يسكنها الجن لحراستها. إنه ابن قمرها الذي ليس كأقمار المدن، ابن شمسها التي قد تحرق غيره ولكنها لا تمسه بسوء، ابن نجومها الهاديات التي بها يسترشد فلا يضل طريقه إلى هدفه.
كنا نلتقي بلا موعد في »الفندق الكبير« بطرابلس ونفترق بلا وداع… وبين كل لقاءين كنا نفاجأ برواية جديدة لإبراهيم الكوني، ودائماً عن الصحراء وحرسها الأبدي: الطوارق.
مع أول رواية له افترضنا أنه قد أنهى »السيرة الذاتية« للصحراء والطوارق. لكن الرواية الثانية كانت أكثر إمتاعاً، والثالثة كانت أكثر عمقاً. وأخذنا العجب: كيف استطاع هذا المقيم في أرض البرد والغربة أن يحمل معه كل هذه الكنوز من أرضه التي طالما وُصفت بالجرداء، فهي لا تنبت غير الصبار والشوك وأنماط من الشجر البري الذي لا يثمر؟! كيف أمكنه أن يستولد من الرمل والفضاء والمفتوح على الفراغ كل هذا الأدب الذي ينضح شعراً رقراقاً وحباً مصفّى؟
ها هي الأساطير كتباً!
ها هم الطوارق يخرجون من عالم الأشباح ليتبدّوا أمامنا فرساناً وشعراء وعشاقاً، يموتون من أجل صحرائهم التي نراها »ميتة« بينما يعتزون بها أشد الاعتزاز ويبذلون دماءهم رخيصة لحماية أسرارها التي منها تنبع القداسة. ها هم الرجال الملثمون بالوشاح الأزرق، والنساء اللواتي يكشفن عن وجوههن بلا وجل، والكل يعيش في أفياء وارفة لحب نكاد نراه مستحيلاً!
إبراهيم الكوني الذي يكتب بالعربية، وجد من يترجم أدبه إلى لغات العالم الحية أكثر مما وجد من القراء العرب…
كيف سنتقدم إذا كنا نتأخر عن معرفة الذات، بأرضنا وأصولنا وتقاليدنا وأعراقنا التي كانت مختلفة فأتلفت، تاركين للغير أن يعرف ماضينا ليقرر لنا مستقبلنا؟!

تهويمات

{ المرأة ليست حاصل جمع العيون والعنق والصدر والساقين… إلخ.
كذلك فهي ليست مجموع ما قيل فيها شعراً ونثراً على امتداد العصور.
لذلك فكلما افترض الرجل أنه قد فهم المرأة فاجأته بأنه قد عرف شيئاً وغابت عنه أشياء.
{ كيف يستطيع صوتك أن يختزن جسدك، وأن يمده مثيراً عبر المحيطات؟
مع الرنين الذي يكاد ينطق اسمك تتبدين أمامي فتهرب مني الأعذار ويصير همي أن أغطي عري النوايا التي تضج بها الأسلاك!
{ كلما قدّر الرجل أنه فهم المرأة فاجأته بأنه لم يعرفها »كلها«، حتى يستقر في يقينه أن ليس لها »كل« أبداً!

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
كيف يستحق صفة الإنسان مَن لم يعرف الحب؟
الحب اكتمال الإنسانية فيك…
عندما أسمع كلمة »يا حبيبي« أستشعر اكتمالاً في إنسانيتي، وأكاد أرى وجه الله.

Exit mobile version