طلال سلمان

هوامش

نقاش بين مقاوم الاحتلال بوطنيته ومقاتلي وطنيتهم بالاحتلال

يوم جاء عزمي بشارة الى بيروت في زيارة استثنائية بظروفها، إذ كانت ذريعتها التعزية بالشهيد رفيق الحريري، انعقدت معه ومن حوله جلسات نقاش خصب تجاوز الشؤون السياسية الى المسائل الفكرية المعلقة في افق الحياة العامة، عربيا.
منذ اللحظة الاولى تبدى الاختلاف جليا بين منظور هذا القادم من حومة الصراع المباشر مع العدو الاسرائيلي، بكل ابعاده الوطنية والقومية، وبين الذين يخوضون صراعا مختلفا مع »سلطتهم الوطنية«، في لبنان، التي تحظى برعاية سورية مباشرة.
كان عزمي بشارة صاحب منطق واضح حيث لا حدود ولا فاصل بين ما هو وطني وما هو قومي وما هو تقدمي. كانت طبيعة المواجهة مع »العدو« بالمعايير الوطنية والقومية والانسانية (اذا ما استذكرنا الهوية العنصرية للكيان الاسرائيلي) تفرض توحيد هذه القيم التي تحفظ للفلسطيني هويته الوطنية والقومية والانسانية، كما تحفظ له قضيته مع »العدو« الذي يقاتل فيه هويته بكل أبعادها.
أما »اللبنانيون« فكانوا يناقشون من موقع آخر مختلف تماما.
كان بينهم القومي سابقا والتقدمي سابقا والوطني سابقا (بالمعنى التقليدي للكلمة)، ولكن معظمهم يتحدث الآن بنبرة فيها شيء من »الكيانية« التي كان طبيعيا ان تستفز هذا الخارج في اجازة قصيرة من حيث ينكر عليه الاحتلال الاسرائيلي هويته الوطنية، ويجبره على ان يكون نقيض ذاته فيحمل »هوية« عدوه، وان يقف ولو شكلا، ورسميا في الموقع المواجه لأهله، ويناضل من داخل موقعه الاجباري وهويته المزوِّرة لهويته ضد »العدو« الذي صار »دولته«!
لم تكن تلك هي حال »اللبنانيين«، مع سوريا، وان كان معظمهم قد حسم موقفه ضد »وجودها« في لبنان، أقله بالشكل الذي كانوا يرون فيه »وصاية« وافتئاتا على حقوقهم في اختيار »سلطتهم الوطنية« المتحالفة مع سوريا، ولكن من داخل »استقلالها« في الامور التي لا تمس وحدة المسار، والتي من شأنها تعزيز المصالح المشتركة للبلدين المتكاملين بالضرورة.
عبر النقاش الذي احتدم في بعض اللحظات تبدت المسافة شاسعة بين المنظورين: فكما ان »الوجود السوري« في لبنان لا يمكن ان يقارن بالاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، كذلك فان الاعتراض على هذا الوجود لا يمكن تصنيفه بانه عمل معاد للعروبة او انه بمجمله نتيجة تحريض اميركي فرنسي، ومن ثم فإنه يصب في مصلحة العدو الاسرائيلي.
وكان بديهيا التوكيد على ضرورة تصحيح هذه العلاقة التي باتت »مسمومة« لمنع الاستغلال الاجنبي عموما، والاسرائيلي خصوصا، لكوم الاخطاء المتراكمة في طريقها.

السابقون لا يقدرون على عبء المستقبل

بعد مغادرة عزمي بشارة عائدا الى وطنه الذي بات »معتقله«، تلاقى بعض من كان شارك في المناقشة المفتوحة التي امتدت طوال ايام وجوده بيننا، والتي لامست قضايا متعددة، بينها ما يفرض التفكير الجدي في صورة الغد، بعد التمعن في الدروس المستفادة من تجارب الماضي.
تدرج الحوار من توجيه النقد الى عزمي بشارة الذي يحاول ان يسحب تجربته المميزة، بل الفريدة في بابها، على واقعنا المختلف تماما عن معاناته »المفتوحة«، الى مراجعة مع الذات.
كان شيء من التأمل في الهويات السياسية لهؤلاء الاصدقاء يكشف كم استهلك الجيل الذي يتصدر »الحياة الفكرية« الآن من عقائد وشعارات. فبينهم من يتحدر من اصول بعثية، بعضها سابق على »الحركة التصحيحية« في سوريا التي حسمت طفرة التطرف التي خرجت بالحزب من مبادئه الاصلية وتركته في التيه بعيدا عن »منطلقاته النظرية« وتسببت في دفع البلاد الى مغامرات عسكرية توجتها هزيمة 5 حزيران 1967…
وبينهم من تمسك ببعثيته بنسختها الاصلية خصوصا بعدما امكن لبعض »الرفاق« ان يشاركوا ثم ان ينفردوا بحكم العراق بعد الانقلاب العسكري الذي وقع في 17 تموز 1968، والذي تحول بقرار الى »ثورة« تحت شعار »العودة الى الجذور«… وهي العودة التي تمثلت في ان ينفرد صدام حسين بالحكم والحزب والثورة والثروة، وان تكون له الاسماء الحسنى جميعا… حتى كانت النهاية التعيسة قبل عامين: اجتياح قوات الاحتلال الاميركي العراق.
… وبينهم من خرج من بعثيته الى »فتح« او الى فصائل فلسطينية اخرى في حقبة الكفاح المسلح.
… وبينهم من اختار ان يحتفظ لنفسه بذكرياته عن تجربة عمله الحزبي، وان يكمل حياته مختارا ما يناسب كفاءته من اعمال، مستفيدا من »الرفاق القدامى« اذ امكن ولو »كوسيط« وتحت شعار الوفاء.
كان ثمة اعضاء عاملون في الحزب الشيوعي وشيوعيون سابقون ما زالوا على صلة بالمناخ اليساري.
وكان ثمة من كانوا شيوعيين ثم صاروا في »تيار المستقبل« من دون ان يستشعروا في انتقالهم ما يستوجب الايضاح.
كان ثمة قوميون عرب سابقون استعادوا »لبنانيتهم« وكادوا يتلون فعل الندامة عن فترة الركض وراء سراب العروبة.
وكان ثمة »تقدميون اشتراكيون« سابقون اخذوا على حزب كمال جنبلاط انه انحاز خلال الحرب الاهلية الى المقاومة الفلسطينية فخرجوا منه تائهين حتى استقروا في.. »قرنة شهوان«.
وكان ثمة قوميون سوريون تقلّبوا، سياسيا، بين منظمات فلسطينية وانظمة عربية، ثم بهرتهم السلطة فاندفعوا اليها بزخم »الزوبعة« ولكن من دونها، خصوصا وقد كان عليهم ان يموهوا ليحظوا برعاية الرفاق من القائلين بالأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة.
وكان ثمة لبنانيون سابقون انتبهوا، متأخرين نسبيا، الى ان الطائفية لا يمكن ان تنجب عقيدة، وان التعصب قد يستولد انتحاريين لكنه لا يمكن ان يستولد ثوارا…

هل انتهى عصر الأفكار العقائد الأحزاب؟!

كانوا بمعظمهم يجهرون باعتراضات جذرية على النظام السياسي في لبنان، لكنهم يفضلونه على ما يجاوره من انظمة عربية، ثم إنهم لم يستنكفوا دائما عن الدخول الى جنته ولو بتزكية من واحد او اكثر من تلك الانظمة العربية ذاتها!
أف… لكم استهلك هذا الجيل من عقائد وشعارات. أترى هذا يفسر انه لم يحقق الانتصارات التي كان يحلم بها؟!
ثم، هل العيب في الشعارات ام في المناضلين الذين أتعبهم النضال فتقاعدوا مبكرين، ولو بالقفز الى مقاعد في سلطة غير التي كانوا يحلمون بها ويعملون لها… بل تكاد نسخة طبق الاصل من السلطات التي تعاهدوا ذات يوم على العمل لاسقاطها لانها ضد طموحات شعبهم.
وهل لبنان ظاهرة فريدة في العالم لا تصح فيه ولا تنجح قواعد العمل السياسي المعتمدة في اربع رياح الارض؟
ام ان العيب في العرب، عموما، لانهم يتعبون بسرعة، ويتعجلون الانتصار ولكنهم يعجزون عن العمل لانجازه ويميلون الى الدعة والراحة، ولو بالتخلي عن الشعارات المبهرة، فيحكمون بنقيض ما كانوا يبشرون به من مبادئ واهداف في مستوى الاحلام!
السؤال الاكثر دويا الذي بقي بغير جواب في قاعة النقاش هو: هل انتهى عصر الافكار التي يمكن ان تتحول الى عقائد ثم تحولها الاحزاب الى برامج للحكم مفتوحة على الوعد بمستقبل افضل يصنعه الناس بنضالهم مباشرة ولا يأتيهم معلبا كهدية من الحاكم، وغالبا ما تكون فارغة المضمون؟!
وهل كل ذلك قد عجّل في اعادة الاعتبار الى الاحتلال التدخل الهيمنة الوصاية الاجنبية وجعْلها في بعض الحالات في منزلة »المطلب الوطني«؟

هل نصبغ وجوهنا بالكلس لننسَّب إلى العصر؟!

كم من الاجيال ستضيع مستقبلا عن طريقها الى التحرر بعدما باتت الديموقراطية ولو في ظل التبعية للاميركيين، هي البديل؟!
وكم من الاجيال سيأخذها تيه المعاصرة بعيدا عن وحدة الامة لانه عصر العولمة، ولا فرق بين عربي واسرائيلي تحت المظلة التي تحتشد فيها النجوم؟
هل صارت القومية بعض تراث الماضي، وترسخت الكيانية بحيث بات الفرنسي اقرب الى اللبناني من السوري، والاسرائيلي اقرب الى المصري من الكويتي، والاسباني أقرب الى المغربي من الجزائري، والبريطاني اقرب الى العراقي من السعودي؟!
هل علينا ان نفرض على عزمي بشارة الاستسلام لتزوير هويته، ونجبره على ان يخاطبنا كفلسطيني سابق يحمل جنسية قيد الدرس ما دام يرفض ان يخون ذاته فيقبل بان نعامله كإسرائيلي؟
أين نحن الآن، بالضبط؟ والى اين من هنا؟!
هل نصبغ وجوهنا بالكلس لنتخلص من عار سمرة البشرة؟!
وهل علينا ان نرطن بالانكليزية، ولو مكسرة، كي ننتمي الى العصر؟
وهل سيعرف واحدنا ذاته اذا ما تأمل ملامحه المستعارة في المرآة؟
ثم، أين نذهب بالمسيحية (الشرقية طبعا) وبالاسلام (العربي، اصلا)؟ هل نلقيهما على طريق التهجن والتهجين كي نتحرر من كل مكوناتنا الاصلية جلاّبة العار؟!
وأخيرا، لماذا يبدو عزمي بشارة اكثر ثقة بنفسه واكثر املا بالمستقبل وهو يواجه المستحيل، منا نحن الذين نجبن عن مواجهة انفسنا ومهماتنا الطبيعية لو اننا كنا طبيعيين؟
هل ننتظر ان يجتاحنا الاحتلال الاسرائيلي (او الاميركي) او الدولي، باعتبار اننا صرنا قضية دولية، كي نباشر العودة الى الذات… وهل ستتبقى لنا ذات بعد كل التهجين الذي نغذ السير في اتجاهه تحت راية التدويل.
هل العيب في الهوية ام في العاجز عن تحمل شرف الانتماء اليها؟!
هل العيب في الحلم الامل المطمح الشرعي، ام في الرؤوس الصغيرة العاجزة عن حمل الاحلام، فكيف بالآمال او بموجبات النضال لتوكيد الذات وتوكيد الحق بالحياة؟!

من الوطنية.. ما قتل!

من »الوطنية« ايضا ما قتل… ومن »الوطنيين« ما يقتل وطنه بحبه! وها نحن نشهد مصرع الوطن بعلمه الذي استهلكت رمزيته بالمبالغة في استخدامه حيث يجوز وحيث لا يجوز، حتى انعدم فيه المعنى!
صار توكيد »اللبنانية« نفيا للهوية الاصلية للبلاد والعباد. من يناقش اللبناني في كونه لبنانيا، إلا اذا كان على هذا القدر من الشك والارتياب في لبنانيته؟! ولماذا توضع »اللبنانية« في مواجهة الوطنية ومن ثم في وجه العروبة؟
لقد باتت »اللبنانية« طائفة جديدة، تخاطب غيرها من خلال »عنصريتها« وليس من خلال الانتماء الى ارض بالذات، والى هوية قومية معينة، هي العروبة بدءا وانتهاء؟!
ارحموا الراية الوطنية، لقد باتت معروضة في السوق… وكل ما في السوق للبيع والشراء. وليست تلك حال الأوطان!

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
الحب متعب، لذلك ينظر الى المحبين وكأنهم صنف ارقى من البشر.
الحب ممتع. لذلك ينظر الى المحبين على انهم الاقدر على الاستمتاع بالحياة.
الحب منهك، لانك كلما قلت له: هات، قال: خذ… فلا يرتوي المحب ولا ينضب النهر الذي يمنح الحياة روادها.

Exit mobile version