طلال سلمان

هوامش

عن الغني الذي دخل قلوب الفقراء وبقي فيها

لم نتعوّد أن نمحض الأغنياء حبنا.
كنا، دائماً، ننظر إليهم بقدر من الارتياب في ذمتهم وفي نواياهم ومقاصدهم، ونستمع إلى حكايات المظالم التي وفرت لهم الفرصة لجني هذه الثروة التي نراها حراماً، فننفر منهم وقد نندفع إلى حدود الكراهية، لأننا نربط الثروة بالاستغلال أو بما هو أشنع: بالتحايل والاختلاس وسرقة مال الغير… وفي كل الحالات نعتبر أن مالهم »حرام«، وأنهم إما »لصوص« وإما مستغلون لجهد الآخرين، وإما أنهم تاجروا في ما يؤذي الناس في حياتهم.
… ومع أن الشعور تجاه الفقراء كان لا يتخطى حدود الإشفاق، فإن القلوب كانت تظل تنفر من الأغنياء حتى لو انبهرت بهم العقول، وباتوا يشكلون نوعاً من التحدي المعلن وموضوع المقارنة المفتوح للتدليل على أن ما لم يهتبل الفرصة أي فرصة كي يجمع المال، بأي وسيلة، إنما هو غبي يهدر عمره عبثاً.
… إلى أن ظهر نموذج مختلف أشد الاختلاف عمن عرف الناس من الأثرياء.
في البدايات ومع التقديمات الأولى قال الناس: هذا أحد اثنين، إما صاحب غرض خبيث خفي، يعمل لغيره، وإما أنه مغفل… فلا أحد يعطي من دون مقابل، ولا أحد يبني المدارس والمستشفيات حسنة لوجه الله. إذن، فلننظر في ما وراء »إحسانه«، ولنتحقق من دوافعه الحقيقية.
مع الأيام، تزايدت العطاءات ولم تنقص، وتعاظم الدور الذي يلعبه هذا الثري الذي غادر البلاد بعدما جمع له رفاقه ثمن التذكرة، وبات واضحاً أن ثروته أكثر مما يقدر المقدرون، وأن ما يدفعه بصمت في أعمال البر والإحسان يتجاوز الأرقام التي يمكن قبولها »بريئة من الغرض«.
وكان طبيعياً أن يفتح المال باب النفوذ، وأن تتزايد الإغراءات أمام صاحب الثروة كي يدخل الحلبة السياسية. وكان دفعه إلى السياسة يريح كثيرين من خصومه، إذ إنه سيقع عندئذ في المصيدة، فيهدر ماله من دون أن يجني زعامة، لأن الزعامة لا تشترى، ولأن مجرد الاشتباه بأن القصد من التبرعات وأعمال البر والإحسان هو تحقيق مكانة سياسية أو الوصول إلى منصب فخم سينهي الرجل منبوذاً: إذ سيكشف غرضه وسيستنفد ثروته، وهكذا يتحقق الهدفين المنشودين سلفاً… »تجريده« من ماله، ثم طرده من الهيكل لأنه ليس سليل دم أزرق ولا يحمل في جيبه ذهباً أحمر، فكيف إذن يتطاول على المقامات؟!
* * *
كانت الحرب تلتهم مع البيوت والأحلام: الجيل الجديد.
كان الشباب هم وقود المعارك والاشتباكات العشوائية: لا مدارس ولا جامعات، ولا مجال للعمل إلا في صفوف الميليشيات أو في »المؤسسات« التي أنشأتها على عجل بالمال المنهوب.
وبدأ تنفيذ مشروع بدت فكرته »مجنونة« في أول الأمر: تقديم منح لمئات من الشباب، ثم لآلاف من الشباب لإكمال دراساتهم العليا في أرقى الجامعات في أكثر بلاد العالم تطوراً.
صار ينادى على الشباب في الشوارع، وتطرق عليهم الأبواب، وتقدم الإغراءات لبعض الأهل حتى يقبلوا المنح الدراسية من مؤسسة لا تطلب بالمقابل شيئاً.
ولأن الناس لم يتعوّدوا أن يحصلوا على أي شيء مجاناً ولوجه الله، حتى من دولتهم، فقد زادت ريبتهم في هذا الذي يلقي بماله على الأرض أو يدفعه لمن لا يعرف من الناس في حاضرهم، فكيف وهو يراهن على مستقبل شبابهم الذين تربوا وسط حطام القيم ونثار الأخلاق المدمرة في الحرب بين الأخوة.
* * *
… وعندما اقتحم ميدان السياسة من بابها العريض تنفس العديد من الناس الصعداء وقالوا: ها قد صدقت ظنوننا. إن الرجل كان »يدفع« لمثل هذه الساعة. كان يشتري منا المستقبل. وزادت حيرتهم في أمره: من هو هذا الوافد من دنيا العوز والشقاء، ابن »البستنجي« الذي يشبه أبوه آباءهم المغضني الجباه والغليظي الأكف والمكسورة آمالهم في مآقي العيون، والذي تشبه أمه أمهاتهم، بملامحها الطيبة ويديها المباركتين وتلك النظرة الحاضنة بالود جيرانها وكل من يمر بها فيلقي عليها تحية الصباح؟!
لكنه بدا عصياً على التغيير. لقد ظل هو نفسه. ظلت مؤسساته تقدم ما كانت تقدمه، سواء في مجال التعليم أم في مجال المساعدات الاجتماعية، فضلاً عما كان يقدمه »من خلف ظهر« مؤسساته، ولا يطلب له لقاء.
أما الحديث عنه في السياسة فله مجال آخر، لكن هذا الإنسان الذي أحدث »ثورة ثقافية« يستحق شهادة صادقة في دوره غير المسبوق في السعي إلى الارتقاء بمجتمعه وفي فتح أبواب التقدم أمام الجيل الجديد، كما لم يحدث في أي مكان وزمان.
ألا يستحق مثل هذا الرجل الفريد بدوره أن يُنسف حتى لا يعرفه أحد من بقاياه؟!

ما أعرض الطريق، ما أقصر الرحلة

أفدح الحزن ما اختلط فيه العام بالخاص، فإذا أنت شريك لكل الناس أو أن كل الناس شركاؤك في ما تفترض أنه حميم.
أفقر الفقراء يبكي أغنى الأغنياء. بصدق يبكيه، بحرقة من فقد الأمل. لم يكن يعرفه إلا بالصورة. لم يتسن له أن يقترب منه يوماً. لم تمتد إليه يده بالمصافحة. ثم إنه هو القابع في فقره لم يكن ليرضى منه حسنة أو صدقة. كان يكفيه أنه يمده بثقة في القدرة على تذليل الصعاب. كان يوحي له بأن المستحيل يمكن قهره وتخطيه: ها هو الفقير الذي جاءته الثروة بأرقامها الفلكية ما زال يقدر على الابتسام. ما زال يقدر على حب الناس. ما زال مؤهلاً لأن يتلقى حب الناس.
الحزن يفتح البوابات المغلقة على الحياة الخاصة. ها هي العائلة جميعاً مثقلة بالفقد تتبدى بملامحها الإنسانية المجردة: ماء العيون قد جف فخبا لمعانها وهي محاصرة بين المناديل البيضاء التي تعلن الاستسلام للقدر الأعمى، وبين كتلة السواد التي تختلط فيها المشاعر والعواطف بالثياب التي كانت مخبوءة للمجاملات وضربات القدر الأعمى.
لم يكن في »الداخل« أسرار مخبوءة. كان ثمة زوجة مكلومة الفؤاد، الآن، وأبناء وبنات وأحفاد دهمهم موت الكبير الذي ظل برغم الكبر والاسم المجلل بالذهب ووهج السلطة ورفعة المكانة، أباً عطوفاً وجداً حنوناً يقتطع من الوقت الذي لم يعد ملكه بعضاً من الدقائق لممارسة عواطفه الطبيعية مع هذه الذرية الصالحة التي لا يريد أن تأخذه السلطة منها ولا يريد لها أن تقتحم عالم السياسة بألغامه الكثيفة، ولا أن تتكبد المشاق المنهكة من أجل حكم يقبع على فوهة بركان، لا تُعرف مواعيد تفجراته المستعصية على التقدير.
ما اعرض الطريق وما اقصر الرحلة. ما اروع الوصول الى قلوب الناس وما افدح انحطامها على عتبة الانكسار بالقهر.
يتقطر الحب مطراً أسود من عيون اليتامى والايامى والارامل الذين كانوا قد اطمأنوا الى ان العناية الالهية قد انتبهت إليهم فسخرت لهم من ينتبه اليهم وهم في كوة النسيان، ويستذكرهم مع أذان الصبح وقبل صلاة العشاء.
الشهادات على الجدران تحمل اسمه، وبطاقات العمل الذي وفر الرزق تحمل توقيعه، اما استعادة الاعتبار والعودة الى الموقع اللائق بالكرامة فهي خاتمه تلتمع فوق ملامحه التي اعادت الى اسم لبنان شيئاً من النضارة.

»أبو طارق« يحرس »عدوه الطبقي«!

أسمر، بلون البن المحمص، والقلب أبيض، والابتسامة طفولية برغم خشونة المظهر وامتلاء البنية الرياضية.
هويته في اسمه كما على صفحة وجهه، واللقب الغالب »ابو طارق«.
فتى كان حين اغوته احاديث السياسة. عاملاً بسيطا كان، لكنه صادق بحيث يمكن ان تأتمنه على اطفالك وذهبك ان كان لك ذهب، وعلى الافكار البسيطة التي يعجب حين يسمع المثقفون يحشون غلايينهم وينفثونها مع الدخان معقدة صعبة على الفهم.
لكنه كان يحب مجالس اصحاب الأفكار.
كان يستمتع حين يصحب »ابا علي« الى مجلس ياسين الحافظ. لعله كان يرى له صلة قربى معه، هذا البدوي بملامحه ولهجته التي جاء بها من دير الزور حيث يتداخل العراق وسوريا وتمتد العشائر مسقطة الحدود ومؤكدة ان الأرض بأهلها وليس بمخافر الجمارك.
وكان يجلس مصغيا، طوال الوقت. هو يعرف انه لا يستطيع ان يتدخل في الحديث الصعب، ولكنه كان يدرك بإحساسه ان ياسين انما يتحدث عن مستقبل افضل ل»طارق« واخوانه وابناء جيله.
… وجاء زمن الموت، فرحل ياسين الحافظ الذي اراد تجديد العروبة فكرا ومضمونا، والذي رسم الطريق الشاق الى الغد.
ثم كان ان التقى »ابو طارق« بمتحدر من صلب الحركة القومية العربية، لكنه بعكس ياسين هائل الثراء، وان كانت طيبته بقيت طاغية على وهجه الذهبي.
وصار »ابو طارق« المرافق الشخصي للرجل الذي كان في طور الانتقال من خانة رجال الاعمال الى »دار الحكم« التي اعاد بناءها بنفسه. ثم تطورت العلاقة الشخصية، فصار »ابو طارق« ظل الرجل الذهبي. صار الفقير حارساً لهذا الرجل الذي اذهله بطيبته قبل كرمه. واكتشف ان الغنى بالنفس لا بالمال فعلاً. وذاب »ابو طارق« في حب من كانت تصوره الايديولوجيا وكأنه »عدو الشعب«.
… وكان بديهياً ان يُنسف »ابو طارق« مع الرجل الذي علم اولاد الناس، واعان الفقراء على تجاوز عار الفقر، واعطى من دون سؤال، والاهم: من دون منّة.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب اقوى من الموت. بعد ألف عام وعام، بعد ألف موت وموت، سيبقى حبيبي حبيبي.
لو خيرني الموت لما ترددت، فإن الموت من اجل حبيبي مثل ان اعيش من اجل حبيبي. الموت لن يأخذ مني الحب، وبه سأنتصر.

Exit mobile version