طلال سلمان

هوامش

نتلاقى وكلٌّ مقتول في منزلة القاتل *

ها نحن نجيء اليك متأخرين لنتحلق من حول اسمك، يحف بنا نشيج الياسمين في دمشق المستوحدة، وقد استنفرَنا الفقدُ الذي كنا نحسب له الأيام، في قلب عجزنا الشامل الذي حولنا الى آلات حاسبة لمواعيد الغياب، غياب الأوطان والرجال ورايات النضال الذي كان.
ولقد جئناك بأثقالنا، متعجلين ان نصلك قبل ان تكتمل حَيْوَنتنا، أيها الإنسان الذي انسل بما تبقى من آدميته، مطلقاً آخر قهقهاته المدوية، ساخراً من الذين حاولوا ان يمنعوا انتصاره على ذاته وعليهم مع النفَس الأخير.
فالزمان نزول، ومضر به (وبنا) البقاء الطويل.
ها نحن نتحلق من حولك، نحن الذين يفرقنا بؤس الحياة التي نعجز عن تبديلها، ويكاد لا يجمعنا الا الموت الذي يتبدى وكأنه الرابط الوحيد الباقي بيننا: نرثي في الغائبين مستقبلنا الذي تباعد حتى لم نعد نطاوله الا بالتمني.
هكذا كانت حالنا، أمس، مع هشام شرابي، ومن قبل مع عبد الرحمن منيف ومع إدوارد سعيد ومع سعد الله ونوس وسائر المبدعين الذين انطفأوا ولمّا يُتموا إعادة إيقاد الشعلة في رماد المصابيح المهجورة بالأمر!
ها نحن بعض البقية الباقية، جئناك من مصر وفلسطين ولبنان وسوريا، لنتلاقى هنا من حولك، على الرثاء: رثاء الأوطان التي عادت أحلاما، ورثاء أفكار التغيير التي عادت لتستقر تهويمات في قصائد النثر التي جبت الشعر، ورثاء بيوت الفقراء التي جرفت مع الزيتونات التي بعمر الأرض، رثاء اليوم والغد.
نتلاقى، يا ممدوح، نحن الذين صارت شعاراتنا التي كانت مقدسة في منزلة الأوهام، وأمنياتنا التي كانت في متناول اليد مجرد ادعاءات، وأهدافنا السامية مجرد زجليات يختلط فيها القرادي الذي تنبته جبال الفخر بالبكائيات العراقية التي نهتز لها طرباً.
نتلاقى وكل منا مقتول في منزلة القاتل…
أنت بهويتك مقتول، وقد كانت عنوان العزة وسيفها. أنت بدينك مقتول، وقد كان الرسالة لفجر إنساني جديد.
أنت بلغتك مقتول، وقد كانت الثقافة جميعاً. أنت بوطنك مقتول وهويتك مقتولة بك، ودينك بك مقتول، ووطنك بك مقتول، ولغتك بك مقتولة.
أنت القاتل والقتيل، ولا عزاء ولا مشيعين.
أنت قاتل أحلامك والمبدع في رثائها، شعراً ونثراً.
تزركش الخطأ وتنمقه وتغطي عوراته الفاضحة حتى يتوهم ناظره انه بروعة الصح، لتقبله، وحين يقتلك التزوير تُخرج ضعفك عذراً فتُقتل من جديد وأنت مدان.
ها نحن المقتولون نتبادل نثر دمائنا، بعضنا على البعض الآخر: هل قتلت مصر بفلسطين أم أن فلسطين قتلت بمصر، أم ان كلتيهما مقتولة والجريمة مقيدة ضد مجهول؟! هل قتل لبنان بسوريا أم قتلت سوريا بلبنان، أم أن كلا منهما قاتل ومقتول في آن معاً، ولإسرائيل الأرض وما عليها؟ هل العرب من قتل العراق أم العكس، وها هي ديموقراطية الدبابات الأميركية تنقذه منهم، في الداخل كما في المحيط؟ هل قتل المغرب بالمشرق أم العكس وهل قتلت الجزيرة بالخليج أم العكس؟ هل قتل السودان بالإسلام ام العكس، وهل قتلت اليمن بالاشتراكية ام العكس؟! وهل صارت إسرائيل بحجم العرب جميعاً، أم ان العرب تصاغروا حتى جعلوها حاصل جمع أميركا والغرب والشرق معاً.
ثم… هل الدين من قتل القومية أم العكس؟ وهل السلطة الوطنية قاتلة للوطن، أم ان الوطن والسلطة لا يلتقيان؟!
من القاتل، وكل هذه الأطراف قتلى؟!
وفي تبادل الادانات لا نفعل غير تبرئة العدو الذي كثيراً ما نعطيه ملامحنا التي ننزعها عن وجوهنا في محاولة للتنكر او للتنصل فيصيّرنا او نصيّره بالنكاية، او بالخوف من مواجهة الذات.
الزمان نزول، يا ممدوح… ومضر بك البقاء الطويل.
لذا عشتَ متعجلاً، وكتبت متعجلاً. ضحكت متعجلاً وشربت متعجلاً. غنيت حبك متعجلاً، وعاركت الوقت حتى فرغت مما تريد ان تنجزه، نثراً وشعراً، مسرحاً وترجمة، ثم مددت لسانك للموت وهو يقترب منك متهيباً الإنسان فيك الذي استعصى على الحَيْوَنة.
***
أعترف، بخجل، بأنني لم أكن بين أصدقاء ممدوح عدوان.
لم تجمعنا مقاديرنا إلا لماماً، وان كنت قد تابعت فقرأت، بشغف، معظم نتاجه مترجماً او موضوعاً، شعراً ونثراً، ومع كل كتاب جديد كنت أقرر أن أجيء إليه في دمشق لنكمل بعض أحاديث اللقاءات العابرة، في الزمن الجميل… ثم تمضي الأيام ولا نلتقي.
وعندما نشرت »السفير« الحوار الأخير معه زاد إحساسي بالذنب، كيف أقصّر مع هذا المبدع الذي يلقي علينا تحية الوداع…
قال محمد ملص: لماذا لا تهاتفه. سيسعده أن يسمع منك.
وفي هاتف الوداع سمعت الهمهمات الأخيرة التي ستظل تتردد في وجداني طويلاً، وتزيد من شعوري بالذنب.
بعد ساعة فقط من تحية المساء، عرفت أن ممدوح عدوان قد فرغ من كلامه، وأخجلني إحساسي بأنني وصلت متأخراً، وخشيت أن يكون قد فهم أنني جئت الى صمته متطفلاً.
على أنني فهمت من تلك الهمهمات تكراراً عنيداً لكل ما سبق لممدوح عدوان ان قاله نثراً وشعراً وترجمة وسلوكاً، ان: قل كل ما لديك حين يتوجب القول، حين تكون الكلمة بشارة او انذراً، حتى يكون الرحيل اشتعالاً بالمعنى… ان حبست الكلام في صدرك اختنقت به، وان أطلقته فتحت ثقباً في جدار الخوف فطاردك النظام العام الذي يملك وحده حق الكلام ويملك أيضاً حق محاسبتنا عن الصمت… بالأمر!
ولسوف يبقى »الظل الأخضر« لممدوح عدوان بعض معالم الطريق الى تخطي »الزمن المستحيل«… وسيظل يتردد في وجداننا أصداء موال دير ماما ونحن نكافح حتى لا نتعثر بحطام الآمال والشعارات التي تكشف عجزنا عن حمايتها.
وسوف يبقى صوته المجلجل يدوي في آذاننا أن هبّوا لمقاومة الذين يسرقون النور من العيون، ويختمون على باب المعرفة بالذات وبالآخر بالشمع الأحمر، ويجردوننا من الأسئلة التي تفتح باب الغد.
سيظل يحرضنا على أن انهضوا، وكفوا عن التواطؤ على أنفسكم لتكسبوا الخبز مع السلامة، بينما العدو يتغلغل فيكم ويضع لغته على ألسنتكم.
ممدوح عدوان: كنت تعرف اننا غدونا أقلية… ومع ذلك لم تسلم سلاحك حتى وأنت تسلم الروح.
سلاماً أيها القلم الذي غادرنا إنسانا وعلى جسده آثار رفضه التحول الى حيوان… أما نتاجه فمنسف أحلام للذين يريدون إكمال مدار العمر فرساناً حتى لو ماتوا شباباً.
* كلمة القيت في وداع ممدوح عدوان في دمشق يوم الاثنين الماضي

الحمام يكمل الدائرة
حين تلاقت العيون، مرة اولى، اصابته رعشة من وصلته رسالة من عزيز بعد طول غياب.
أما حين تلاقت العيون مرة ثانية فقد امتد اللقاء بحجم كتاب. رفرف طيف ابتسامة كحمام زاجل يستعجل انجاز الوصل بين المتباعدين.
لم يكن قريبا بما يكفي ليرى الاسم، ولم يكن بعيدا ليدعي انه لم يسمع او لم يع المضمون.
حوّل بصره متشاغلا بالحديث مع مشاركيه طاولة الغداء، لكن أحاسيسه ظلت مشدودة الى حيث ينطلق الحمام، واحدة اثر اخرى.
حين التفت مرة ثالثة كانت قد باتت قريبة منه حتى أحس بأنفاسها تحرق صفحة وجهه، ثم هبت واقفة لتسوّي اطراف ثوبها، مطمئنة الى ان عينيه تتابعان حركة جسدها الذي انتصب كرمح سمهري.
لم يكن جاهزا للمنازلة، فانطوى على نفسه، بينما رفوف من الحمام تطوقه فتحصره في فراغ الدائرة المقفلة.

حليب التين
ينهمر نتاج »الادباء الشبان« كالمطر: روايات، قصصاً قصيرة وأصنافا من الشعر الذي يشبه التين الاعجر، لا يصيبك منه الا حليبه المر.
بعض هذا النتاج لا يصلح حتى كموضوعات انشاء للصفوف التكميلية، وغالبا ما يكون الكتبة من المراهقات او من المتأدبات صاحبات المهارة والشطارة في العلاقات العامة.
ومع التسليم المطلق بحق كل الناس في ان يكتبوا وينشروا ويقولوا، فإن بعض ما ينشر للناشئة من الكتّاب، مع الضجة المصاحبة، يشكل اعتداء على اللغة والذوق العام.
ليس النشر فضيحة لهذا المتجرئ على الأدب او لتلك التي تستهين باللغة او لأولئك العصبة الذين يعبرون عن احتقارهم للقراء فينشرون كلاما مرسلا او منظوما بلا أي قيمة فنية.
لكن النشر تحقير للكلمة.
وإذا كان بعض دور النشر يتساهل في المستوى ما دام المؤلف او المؤلفة يتكفل او تتكفل بالنفقات، مباشرة او بالواسطة، فما عذر »النقاد« الذين يتبرعون بتقديم هذا النتاج وتصنيفه في عداد »الابداعات المبشرة بمستقبل واعد«.
ان بعض الشعراء والادباء من اصحاب الاسماء المحترمة لا يتورعون عن تقديم نتاج تافه لكن »مؤلفته« صبوحة الوجه لا ترفض اي دعوة الى جلسة انس و»تتشرف« بأن تكون ملهمة »الكبار«.
كذلك، فإن بعض »النقاد« يهدرون الكثير من الحبر في مساحات غالية من الصفحات الثقافية لتقديم نتاج يعرفون فعلا انه بلا اي قيمة فنية ولا علاقة له بالثقافة الا كعلاقة »المبدعة« بخياطتها: تقف امامها لتتواطأ معها على المساحات المكشوفة والاخرى التي لا بد من سترها لجذب مقدّري الابداع الالهي! والنشر ايضا علامة تؤكد الانحطاط العام.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
أبقِ لحبيبك مساحة للتنفس…
لا تطارده بلهفتك، ولا تسجنه بغيرتك.
الحب يحمي ذاته بالحب… لكن الحب بحاجة ايضا الى الآخرين ليؤكدوا فيك التميز.

Exit mobile version