طلال سلمان

هوامش

حرمون تملي قصصاً جديدة على إملي نصر الله
لكأنها تغمس قلمها في أحد الجداول التي تنبجس من بعض سفوح جبل الشيخ الذي يحتضن قريتها الوادعة التي لا تغرق في الثرثرة حول الحدود، وبالتالي حول »هويتها« وهل هي لبنانية صرف أم لبنانية بنكهة فلسطينية، أم لبنانية بمناخ سوري، أم لبنانية سورية فلسطينية كما الجبل الذي يأنف أن يكون تخماً وهو الذي يربط بين »أهله« الحرمونيين؟
لكأنها تغمس قلمها في وجدانها الذي تفتّح على نكبة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بكل ما خلفه من مآس، والذي حوّل تلك البقعة التي يظللها النسيان، ويعيش أهلها في وداعة الفلاحين الى »خط نار« سرعان ما دفع بالناس الى هجرها: بعضهم إلى العاصمة وضواحيها طلبا للعمل أو العلم أو كليهما، وبعضهم الآخر الى البعيد البعيد في المهاجر التي كان قد سبق إليها بعض الرواد وصار نجاحهم عنصر جذب لأقاربهم و»الخصوم« أيام الصفاء.
لكأن إملي نصر الله »نحلة« يأخذها الشعور بالذنب إن مرّ بها يوم فلم تكتب نصا جديدا، أو تكمل نصا لرواية جديدة تعمل على إنجازها منذ بعض الوقت، أو تعمل على إضافة نوعية الى سلسلة الرائدات، فإن تعذر هذا كله فليس »أقل« من أن تعكف على كتابة قصة جديدة للأطفال، أو: فلتتابع سرد مشاهداتها ورواية الحكايات التي جمعتها من رحلاتها الى حيث استقر بعض الأهل، من أبناء الهجرات الأولى، أو حيث قصد بعض فلذات الأكباد ليدرسوا أو ليباشروا الاستعداد لبناء مستقبل أفضل.
لكأن إملي نصر الله انتدبت نفسها لرواية حكايات كل أبناء جبل الشيخ، بذراه التي يكللها الثلج دوما، وسفوحه التي تنبت الزيتون والرجال ذوي الملامح القاسية والقلوب الطيبة والصبايا اللواتي يتفتح على وجناتهن ورد الحب العذري مظللاً بالخفر لا ينفي الفضول والرغبة في إثبات الحضور.
»رياح جنوبية« مجموعة قصصية جديدة لإملي نصر الله، أصدرتها قبل أيام عن »دار نوفل«، وهي تضم حكايات بعض من خرجوا أو استخرجتهم إميلي من الذاكرة، أو اقتحموا عليها بعض أسفارها، فصادفتهم في الطائرات أو في المطارات فأعادوها وأعادتهم الى أيام الصبا الأول لتضع الخاتمة لحكايات مفتوحة النهايات.
»جورة السنديان« تكاد تختزل العالم.
.. وحتى حين تذهب إملي مع بعض أبنائها الى المزارع التي استنبت فيها زوجها الزيتون وأصناف الفاكهة الى جانب المداجن في »مديرية التحرير« سابقاً على الطريق الصحراوي بين القاهرة والإسكندرية، فإن صورة »جورة السنديان« هي التي تظلل المشهد وتعود بشخصياتها التي غادرت عالمنا لتوحي بأن الأبناء إنما يكملون ما بدأه الأجداد الذين لم يعرفوهم إلا من خلال هذه »الراوية« التي انتدبت نفسها لحماية الأرض في الذاكرة وحماية الهوية في الأرض.

بيرتيوس تنتصر على الحرب بقلم ربيع جابر

منهكة قراءة هذا القلم الفتي ربيع جابر. ما ان تمسك بأي نص له حتى يسجنك فيه، فلا تستطيع ان تتركه الى ما عداه من اهتماماتك، وان تركته طاردتك »شخصياته« التي تخرج من النص إليك فإذا هي من حولك وحواليك تحاصرك في عالمها المتوهم وتفرض مشكلاتها المختلفة على اهتمامك، فإذا أنت أسيرها.
…ولا مجال للتحرر من ربيع جابر حتى بعد ان تفرغ من قراءة اي نتاج جديد له، وهو الغزير بانتاجه، لان الموضوعات التي يختارها لرواياته طريفة بل استثنائية في مناخها وفي حبكتها وفي شخصياتها ومصائرها التي ترسمها وتتحكم بها مخيلة مثقفة وذاكرة استثنائية في قدرتها على استعادة التفاصيل ورصفها في سياق ممتع.
الرواية الجديدة لربيع جابر »جديدة« فعلاً، اذ تبتدع »عالما« قائماً بذاته في مدينة تحت بيروت، اطلق عليها مبتدعها اسم »بيرتيوس« ثم اصطنع فيها حياة كالحياة لبشر كالبشر »الذين فوق« وإن اتسموا بمواصفات مختلفة باعتبارهم ولدوا وعاشوا، جيلاً بعد جيل، في »العتم«، وكانت لهم طقوسهم وتقاليدهم، موسيقاهم ومبتكراتهم المعوِّضة عما ألفه الناس »فوق«… مع ذلك فقد ظل الحب هو الحب، والرغبة هي الرغبة، الغيرة هي الغيرة والصداقة هي الصداقة، أي ظل الإنسان هو الإنسان، ولو لم ير الشمس ولم يعرف من النور إلا ما ابتكر من وسائله التي قد تكشح الظلمة ولكنها لا تضيء كل الجوانب المعتمة في النفوس كما في الأمكنة.
الرواية بسيطة جداً في شخوصها، معقدة جدا في حبكتها، تختلط فيها الوقائع المفجعة التي حفلت بها الحرب الأهلية في لبنان بأطوارها المختلفة، بافتراضات متخيلة للعالم الفريد الذي يمكن أن يكون قد اصطنعه هؤلاء الذين هربوا من الموت (فوق)، وكذلك من العصبيات والأحقاد الطائفية التي أودت باللبنانيين الى الاقتتال المفتوح.
»بطرس« حارس سينما سيتي بالاس ليس »البطل«، وإنما »بيرتيوس« بعالمها الفريد من نوعه، والذي يضم نماذج استثنائية من النساء والرجال والعواطف، قد تشكل في بعض وجوهها النسخ البيضاء من مخلوقات دمرتها الحرب، أو استولدتها الحرب، عبر دهرها الذي استطال فصار زمنا للحب والموت والناس المختلفين عن »أهلهم« أو الذين كانوا أهلهم فوق.
… كل أنواع الحب، من العذري مع راحيل، إلى ما يتجاوز العذرية مع ياسمينة، من الحب المضمّخ بالعطف مع الشيخ اسحق، إلى الود المعبر عما يتجاوز التضامن مع يوسف كبير العشابين والفلكي الضرير، وسلمان الفلكي.
لكأنك في مقبرة… لكنه عالم من البشر يشدهم التكاتف والتعاضد والتوحد في مواجهة المحن، كأنهم النقيض لمن هم فوق، كأنهم زبدة المشاعر الانسانية، هؤلاء الهاربون من »الزمن الأسود« إلى تحت، تاركين »بيروت الفوقا« لأهل الأحقاد التي تأخذ إلى القتل والخطف والتعذيب تحت شعارات وهّاجة لكنها أعجز من أن تخفي طبيعة الحرب الأهلية.
هم ألف نسمة، أو ربما أكثر، قد أعادوا تشكيل الحياة بما يليق بالانسان، وانتصروا على »الوقت الأسود«، حتى لكأنهم النموذج المفقود في »بيروت الفوقا«.
»بيرتيوس« متطهرة من آثام بيروت وخطاياها، وأهلها الودعاء الذين نحتوا في الصخر حياتهم، واتخذوا من الحجر والشمع والخشب أدوات حياتهم اليومية، لا يعرفون الأحقاد والكراهية، لا يقتل واحدهم الآخر ولا يطرده من بيته، لا تفرقهم الطائفية والمذهبية… بل ان النساء يتصرفن وقد تطهرن من الغيرة، فتتنازل العاشقة عن رجلها لعاشقة أخرى بغير منّة، بينما يحافظ الرجال الآخرون على الحب الوليد بين الوافد من »فوق« والمرأة التي عصف بها الشوق الى الرجال فجاءت إليه تمشي على أهداب الجميع، فيغمضون عيونهم حتى لا يزعجها النظر.
ربيع جابر استولد مدينة عالماً هو النقيض الكامل للعالم الذي اصطنع بيروت ما قبل الحرب بازدهارها المستفز الذي أخذها الى الدمار.
وهو إن كان لم يستطع أن ينشئ فيها »داون تاون« مترفاً مثل ما كان يسمى »قلب بيروت«، فإنه أنشأ مساحة روحية مريحة يمكن أن يهرب إليها المتعبون »فوق«… إذا ما تكرم ربيع جابر فأعارهم الخريطة التي لا يعرفها سواه، عن المدينة المبتدعة التي برغم ظلامها تظل أجمل من أن تكون حقيقية (وبشعة) كالتي »فوق«.

السندس يستعيد مراهقته في الخريف

الموعد ربيع واللقاء خريف، وما بينهما نهر أخضر يسري بحكايات الحب التي تولد عند ضفتيه فتنبت لها أجنحة وتطير أغنيات فرح لمواسم الحصاد، أو تنكسر بسيف الماء فيلملم أشلاءها الرسامون ليجعلوها خبزاً ونبيذاً لليالي البرد.
كيف لم ينتبه إلى أن الصديق لم يكن حبيبها، وإلى أن نداء عينيّ السندس لم يكن موجها إلى النهر، وإلى انه لم يكن »الثالث«، أي الضيف الثقيل إلى مأدبة الهاربين إلى بهجة الحياة ولو في المنافي؟. كيف لم يفهم انه لم يكن الشاهد، بل شهيد غبائه وجهله أصول القراءة في صفحات الوجه القمري وقد استشفّها الرسامون من على البعد وجعلوها مجرد إطار للوحة الحب الذي ذهبت به مياه النهر تاركة له أن يعبث بالحصى؟
… وحين سقط عليه الموعد الجديد من علياء الخيبة، كان النهر قد صار بعيداً جداً، وكانت الحكايات المبتورة قد صارت طعاماً لنوارس البحر، ولم تكن الكلمات التي لفحها شوق الغياب قادرة على إشعال النار الخامدة من جديد.. لكن وعداً غامضاً كان يجوس عبر سندس العينين، ثم يطلق ضحكات قصيرة تحمل معنى السخرية من الزمن وتتحدى النسيان وتضرب مواعيد خارج الوقت. من حق النضوج أن يستعيد مراهقته المطوية بالأمر. من قال إن الزمن أقوى من الحب، وإن الرغبة تشيخ في أحضان الطارئين؟
كانت تريد أن تقول، لكن »الثالث« كان يسبق فيكشف الرسالة، على طريقة: إن لم تكن الحب فحاول أن تقوله.
دائماً لا بد من ثالث. الثالث مساحة مريحة للاعتراف الملتبس. لكن المروج الخضراء المبلّلة بالدمع تغيِّب الثالث وتنفي الالتباس، وترجعهما إلى ما خلف النهر، وتفتح باب الخريف، مجدداً، لاستكمال اللقاء المبتور.
ماذا لو سقط الفارس عند أسوار الحماية؟ ماذا لو فاض النهر في زمن القحط؟
يبتسم السندس بسخرية متحدية: ألم ينته زمن الفيضان؟!
أين هو الثالث، ينقذ الموقف بتورياته التي تأخذ إلى الضحك، وتعطي فرصة للتنفس والعودة إلى سياق الحكاية التي يهددها التحدي بأن تظل مبتورة؟ الضحك أحسن خاتمة لحب يجيء من خارج المتوقع ويذهب بأصحابه إلى حيث لا يقصدون.
حسناً، فليتوغل السندس في حب الذات. إنها فرصة لأن تعود أنت إلى نفسك، وأن تتسلى بمراقبة مياه النهر وهي تأخذ من عينيها اللون وتمنع عنك الشعور الثقيل بالظمأ، وتمنح »الثالث« حكاية يرويها فيسقي بها غيرك من العطاش.

غناء طارد للحب

من يستمع إلى »الأغاني الحديثة« بأزيائها الطريفة، الرجالية منها والنسائية، يكَد يقتنع بأن الحب قد ارتحل عن دنيانا مصطحباً معه في هجرته الطربَ.
الغناء الحديث ليس في حاجة إلى شعر. أي كلام يمكن أن يصير أغنية، وأي »طرطقة« يمكن أن تكون اللحن الذي »سيبدعه« أي سنكري أو حداد أو بيطري قروي ممن كانوا يهتمون أيام زمان بتجديد حدوات الأحصنة والبغال.
ومثل هذه الكلمات التي تشبه مع ألحانها القصف العشوائي، لا يمكن أن تعبّر عن حالة حب لا عند ناظمها العبقري ولا عند ملحنها الفذ ولا عند مؤديها »آخر موديل« بالشورت والسكسوكة والقميص المفتوح عن صدر بلا شعر والطاقية التي تغطي شعراً بلا رأس.
الحب لا يحتاج إلى كل هذا الصخب و»الزعيق«.
والطرب لا يحتاج إلى كل تلك الكوكبات من »الراقصات« اللواتي لسن راقصات إلا بقدر ما يمكن اعتبار المؤدي مغنياً والبيطري ملحناً والإسكافي شاعراً.
من يستمع إلى نجوم الغناء الحديث يفترض أن الحب قد ارتحل عن ديارنا.
الحب مصدر إضافي للذوق: يصقله وينمّيه ليكون الإنسان لائقاً بحبه.
مثل هذا »الغناء« طارد للحب والمحبين.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
العديد من العشّاق خسروا حبهم لأنهم جبنوا عن الاعتراف به.
لا تخف من إعلان حبك… فشهيد الحب يتقدم على الملائكة والقديسين.
الحب لا يطيق الخوف. هيا إهتف بحبك واجعله أغنية، اجعله مشاعاً تكن لك الحياة… ولا حياة خارج الحب… فالحياة الحب، والحب الحياة.

Exit mobile version