طلال سلمان

هوامش

يعود ليبقى…

اليوم يعود إلى فلسطين فيبقى فيها، لا يغادرها أبداً كما لم تغادره أبداً.
اليوم ينتهي من رحلته الأخيرة ويحط رحاله ليرتاح في أرضها المطهرة، بعدما جاب العالم كله، بشرقه وغربه، جنوبه وشماله، في الطريق إليها، متخطياً حواجز الاغتيال ومؤامرات النفي والاستبعاد.
اليوم يعانق ترابها ويذوب فيه ليصبح بعضاً من فلسطين التي أرضها شهداء وجبالها شهداء، مدنها شهداء وقراها شهداء، مخيماتها شهداء وهواؤها أنفاس الشهداء.
لا هو البداية ولا هو النهاية. لا هو القضية ولا هو حلم التحرير. هو واحد من أبنائها، حمل رايتها طويلاً، وجاهد في الطريق إليها طويلاً، سافر طويلاً وناور طويلاً، قاتل طويلاً وفاوض طويلاً، حتى مع الموت… ثم كان لا بد له من أن يمضي إلى قدره راضياً مَرضياً.
هو »فتح«، وهو المنظمة، وهو السلطة. هو القائد، وهو الزعيم، وهو الرئيس. ربما لهذا فالفراغ، على المستوى السياسي المباشر، هائل ومدو، والورثة أضعف من أن يملأوه.
ستتنفس تل أبيب وواشنطن وعواصم أخرى كثيرة، في الغرب والشرق، ولا سيما في العديد من الدول العربية، الصعداء، بوهم أن »العقبة« قد زالت… ولكن من طريق ماذا، والسلام حلم لا تطاله الأيدي، والقتل الإسرائيلي يتواصل بلا انقطاع ويمتد من المقاتلين إلى الأطفال، ومن البيوت إلى الشجر، والحصار يكاد يمنع الهواء عن هذا الشعب الصابر، المستعصي على الموت كما هو مستعص على اليأس، يلتفت إلى أخوانه بالعتاب من دون أن يخرج منهم وعليهم.
سيفترض كثير من رفاقه أن ساعتهم قد حانت، وأنه هو هو من كان يعطل »التفاهم«، ولو بشيء من التنازلات، وأنهم سيقدرون حيث أجبن، لأنه خاف أن يخسر وهج الزعامة في حين أنهم بلا وهج يخافون عليه.
وسيفترض آخرون أنهم الآن يملكون كامل القرار، وأنه هو هو من كان يقف سداً في طريق التحرير بالجهاد، ولعلهم سيكتشفون غداً أن »الجهاد« يحتاج الى زمن آخر، وفضاء آخر، والأهم: يحتاج إلى فكر آخر تتكامل فيه العروبة بالإسلام، بدلا من أن تتناقض معه إلى حد التصادم، أو يتناقض معها إلى حد الإلغاء.
لقد انتصر شعب فلسطين على إسرائيل مرة بدمائه فأعاد قيادته من الخارج الى الداخل،
وانتصر عليها مرة ثانية بأن بقي ثابتاً في أرضه لا يغادرها إلا إليها، فإن غاب عنها لم تغب عنه، وإن خرج منها فكي يعود إليها أقوى من الاحتلال وأمنع من أن تهزمه القوة المتوحشة.
* * *
رحل ياسر عرفات… وهو في رحيله أيضاً كان استثنائياً: حملته فرنسا أوروبا على أكتاف جنودها، وشيعته بشخص رئيسها وحكومته كرئيس دولة، الى القاهرة محطة البداية التي صيّرها الغياب محطة النهاية، حيث سيتوقف ليلقي عليه المسؤولون العرب الذين ساهموا مع العدو الإسرائيلي في حصاره، النظرة الأخيرة، ربما ليستوثقوا من موته، ومن هناك الى فلسطين التي ستفتح له قلبها لتحفظه فيه.
رحل ياسر عرفات، وهو ملء الوجدان: بصموده الأسطوري في »المقاطعة« برام الله، رشاشه أمامه وشعبه من خلفه يقاوم ولا يلين…
… ولن تكون فلسطين، القضية والوطن وحلم الدولة، ثم »السلطة« ومؤسساتها، ما كانته قبله. لقد شكل في لحظة غيابه، ذروة نضالية لن يتمكن رفاقه من البقاء فوقها إلا إذا جمعتهم دماء الشهداء فوحدتهم وعصمتهم من التشتت والفرقة ومحاولة انتهاز الغياب لقنص السلطة على حساب الوطن والقضية.

القائد… إلى الغياب!

في بلادنا التي لم تعرف بعد معنى الحياة، بما هي حرية وكرامة وحقوق طبيعية لانسانها، يحظى الموت بقداسة استثنائية: يكاد الموت، بالمعنى السياسي، ان يكون الطريق الى الحياة التي لم نعشها.
اننا نعيش خارج الحياة نطلب حقوقاً ممن يرتبط وجوده حيث هو، على قمة السلطة، بمنعنا من حقوقنا في حياة تليق بكرامة الانسان.
… فاذا ما جاءه الموت خفنا من مواجهة الحياة، وهربنا منها الى تكريم موتنا في الميت فغفرنا له، واسقطنا خطاياه، وعدنا نلوم أنفسنا على عدم محاسبته في حياته لننتهي بأن المحاسبة بعد الموت لا تجوز. وهكذا نتحرر من الحساب كليا: لا نحن نحاسب الراحل لكي نصحح المسار الى حياتنا، ولا نحن نحاسب أنفسنا لكي لا يلتهم موت الماضي معنى الحاضر ومهمات المستقبل.
***
في بلادنا التي تنظر الشعوب الى نفسها كرعايا يسهل على من تتيح له الظروف فرصة القفز الى مهاجع التمني، والتربع فوقها والتوجه الى الناس من هذا الموقع السامي، ان يعامل نفسه وكأنه »المجموع«، اي »الشعب« و»الامة«، وبالاستطراد يصير رمز القضية ثم يتربع فوق القضية فيغدو هو القضية… فإذا جاءه الموت تبدى للحظة وكأن »القضية« ستموت بموته، تماما كما سيموت »الشعب« وستندثر »الامة« التي ارتضته رمزاً وتخيلت انها قد ذابت فيه وانه يغني عنها لانها متضمنة فيه.
… وبعد الموت يجيء زمن الصعوبة: كيف تعود الامة الى وعيها؟ كيف يعيد الشعب اكتشاف نفسه، وكيف يستعيد ثقته بنفسه، وانه الشعب هو مصدر التفويض، وبالتالي مصدر السلطة، وانه هو صاحب القضية، وانه الاساس، وانه هو الباقي ابداً، لا قائد ولا قيادة الا به، وانه ان هو حضر فلا خطر ولا خوف، ولكن غيابه هو الفاجعة.
ينفرط عقد »المجموع«، فيصير اشتاتاً. يبرز »الورثة« من قلب الجنازة ويتسابقون الى حمل النعش. يعتبر »المعاونون« وجهاز السكرتيرتا انهم الاولى بالخلافة لانهم الاقرب… ثم يتقدم الذين كانوا خصوماً معتبرين ان ساعتهم قد دقت، وان الموعد مع تصحيح المسار قد أزف، وانهم الاجدر بالقيادة بعدما »غيبهم« الميت طويلاً، مستقويا عليهم بعاطفية الغوغاء وشطارته وحذقه السياسي في اختيار الشعار الخادع للجماهير.
وتحل معادلة بائسة محل المعادلة البائسة:
في حضور القائد »يذوب« الشعب فيه تماماً، فيصير الكل واحداً أحداً لا شريك له.
وفي غياب القائد »يذوب« الشعب في غياهب خلافات الورثة المختلفين مع الراحل، والمختلفين في ما بينهم، والمختلفين مع الناس لانهم لم يوالوهم ولم ينصروهم ولم يلتفوا من حولهم كما كانوا في عهد ذلك الذي مات.
***
سننتظر طويلاً قبل ان نعرف الحياة، قبل ان نحب الحياة، لأننا في قلبها ومن صناعها.
سننتظر طويلاً قبل ان نتخلص من هذا المرض الخطير الذي يتمثل في اننا حين يتوجب الحضور نغيب، ثم ننتبه الى خطيئتنا فنمضي الوقت في البكاء تحسراً على اننا قد خسرنا فرصة الحضور، وان رحلتنا في قلب الغياب ستطول وتطول.

كتابات على جدار العودة

؟ من ياسر عرفات إلى كمال ناصر ومحمد يوسف النجار وكمال عدوان، الى »أبو علي أياد«، الى صلاح خلف وخليل الوزير: لقد فتحتم لي باب العودة. إلى اللقاء.
؟ من القاهرة إلى رام الله: آثرتك به على نفسي، فاحفظيه.
؟ من رام الله إلى القدس: إليك تكون العودة، ولست أكثر من محطة على الطريق… والعابرون هم.

Exit mobile version