طلال سلمان

هوامش

الهزيمة كابن غير شرعي للدين في المجتمعات الكلية!

الهزيمة لا ترحم: انها تطحن الأفكار والرجال، المبادئ والتنظيمات، القيم والعادات، وتجبرك على أن تعيد النظر في كل ما كنت تفترضه من البديهيات ومن القوانين التي تنظم السلوك الاجتماعي.
الهزيمة »شمولية«، تهز حتى »المطلقات« التي يرتكز عليها الاجتماع، واخطرها الدين، إذ ينقسم المهزومون بين عائدين إلى الدين من خارجه، باعتباره الملجأ الاخير، او خارجين على الدين باعتباره السبب الأصلي للهزيمة الى كل ما ينقض تعاليمه في النص او في التفسير.
وبشكل ما، وفي مجتمعات ما زالت تتلفع بعباءة الدين هرباً من مواجهة التحولات التي تفرضها وتيرة التقدم الانساني، في الفكر ووسائل الانتاج وثورة الاتصال والمواصلات، تصبح الهزيمة عقابا الهيا على وجوه التقدم الاجتماعي وليست نتيجة حتمية للغربة عن العصر في حين ان »العدو« يحارب من قلب العصر، حتى لو اتخذ من الدين كما في حالة اسرائيل ذريعة من اوهام الماضي لتبرير هجومه لاعادة صياغة المستقبل باحتلال الحاضر.
فليس الدين هو السبب في انتصار اسرائيل، ولا هو يلخص كل اسباب الهزيمة التي مُني بها العرب، في المواجهة التي تبدّت في بعض وجوهها »السالفة« وكأنها بين اليهودية والاسلام، وكلاهما يسكن في التاريخ، اي في الماضي كما في الوجدان اكثر مما في صناعة القرار السياسي، وفي اداة التنفيذ العسكري لتحويل الاحلام او الاوهام الى حقائق في الجغرافيا، اي على الأرض، وبالقوة الشاملة.
وما يصح على »اليهودية« في هزيمة العرب في فلسطين يصح على »مسيحية ما« في هزيمة العرب في العراق، وفي سائر انحاء »الوطن العربي«.
وبين تصوير الهزيمة وكأنها نتاج طبيعي »للعروبة« التي لم تصمد امام تحديات العصر، او تصويرها وكأنها نتيجة حتمية للمواجهة بين موروث إسلامي متخلف وبين »مسيحية« اعادت السياسة صياغتها حتى لا تكون عائقاً في طريق التقدم واعادة صياغة الحياة في مجتمعاتها، يجد العرب والمسلمون انفسهم خارج العصر والدين.
فلا العرب، مسلمين ومسيحيين، استطاعوا التحرر من الدين وهم يحاولون مواجهة العصر الذي حول الدين الى قيمة وجدانية شخصية، لا أثر لها جديا في القرار السياسي، اي في قرار بناء الدول وتوجهاتها في الداخل والخارج،
وفي حين ولدت حركة التطور في المجتمعات الغربية »المواطن« الفرد، والحزب، والنقابة، والجمعية والنادي، وسائر وجوه النشاط الفكري السياسي الاجتماعي، وارست القوانين الناظمة للمجتمعات واعتمدت الانتخابات كوسيلة لضمان انتظام الحياة السياسية وصراع المصالح، فإن تهيب المواجهة مع الموروث الديني في المجتمعات العربية خصوصاً، والاسلامية عموما، أبقى المواطن الفرد مغيباً في انتظار تطوير المجتمع في اتجاه الاعتراف به، وكانت تلك استحالة سرعان ما اعطت ثمارها المرة: هزائم متوالية لهذه المجتمعات، يسهل تحميل مسؤوليتها الشاملة لافراد محددين وكأن »الآخرين« اي »مجموع الشعب« منها براء…
لكن هذه التبرئة المفتعلة للمجتمعات سرعان ما تهاوت امام الحقائق المرة: ان مجتمعات سليمة، او معافاة، لا يمكن ان تترك قيادها لافراد بغير ضوابط او قدرة على المحاسبة، تمارسها مؤسسات قائمة على دروس التاريخ واحتياجات الحاضر واهلية هذه المجتمعات لمواجهة العصر.
لقد انتهى عصر الانبياء. وما بعد الرسول حققه رجال بالرسالة المبشرة بعصر آخر ومعها السيوف والمواءمة بين العقائد والمصالح.
على ان العرب (والمسلمين عموما) ما زالوا ينتظرون »انبياء« مع وعيهم بأن السماء اغلقت أبوابها ولم تعد معنية بأن ترسل احداً، وهكذا فقد تولت الدبابات الاتيان بالرسل الجدد الذين وصلوا بغير رسالة، واستغنوا بالسلطة عن السماء، اذ اكتشفوا ان جنة الحكم حقيقة اكثر من تلك الموعودة.
ولأن الانبياء بالدبابات احتلوا الأرض والفضاء، واخذوا السلطة كلها، فسرعان ما وظفوا الدين لخدمتهم، واستغنوا بأنفسهم عن المؤسسات، واختصروا الشعوب بأشخاصهم.
ربما لهذا جرفت الهزيمة حين وقعت، وكان لا بد من ان تقع، كل شيء: القادة، والمؤسسات الكرتونية، والدين الرسمي، في حين توارى المتدينون لاجئين الى الملاذ الوحيد المتبقي: الارادة الالهية، وكل المقولات والبدع والسنن التي ترفض الواقع وتفتح باب النجاة منه بالهرب الى »السلفية« الرافضة لعصر الكفر والالحاد والخروج على الدين الحنيف.
وهكذا انتهى الامر بأن فرض »الغرب« وصايته على بلاد العرب (والمسلمين) جميعا، باعتبارهم من القاصرين، المتخلفين، الغرباء عن العصر، الذين يحتقرون الانسان الفرد، والذين لا يقبلون بمبدأ الانتخاب، والذين لا يؤمنون بالمؤسسات، ويحقرون العقل او يبطلون عمله لان »النص« اقوى اثراً وتأثيراً منه او هكذا ما يفترض ان يكون.
وليست مبالغة ان يقال الآن ان كل العرب (والمسلمين) هم تحت وصاية الغرب (واسرائيل هي بعض منه، في جوهر »العقيدة« كما في الممارسة).
ليس من قطر عربي مستقل، وليس من »دولة« عربية مصنفة ديموقراطية، حتى تونس التي منح الاميركيون رئيسها شهادات بالاخلاص والالتزام المطلق فإنهم لم يستطيعوا القفز من فوق »انتخابه« لولاية خامسة ديموقراطيا…
ان الهزيمة ساحقة، والاحتلال ليس ولادة للديموقراطية.

مسلسلات الأوهام بعجائز الحب الأول

السينما العربية الى اندثار…
ولقد سبقها المسرح العربي…
ومن السهل، الآن، اتهام التلفزيون بأنه السبب الاول او الاهم في اندثار السينما والمسرح، وفي استنزاف »النجوم التاريخيين« إما بتشغيلهم بأكثر من طاقتهم، وإما بإهمالهم، والتذرع بأن المنتجين قد كفوا عن هدر أموالهم في افلام لا ترد ما انفق عليها.
على ان ثمة جانبا آخر لمأساة تدهور المستوى في الاعمال الفنية، يمكن تلخيصه بأن »النجوم« الكبار قد شاخوا، وان ثمة فراغا هائلا لم يستطع الشباب من النجوم تعويضه بوجوهم الجديدة.
والمسلسلات التي يجيء بها شهر رمضان، كل عام، تشكل فضائح مدوية لتهاوي مستوى العمل الفني، في مصر على وجه الخصوص، وهي المنتج الاكبر والاغزر لمثل هذه الاعمال التي تفيد من شهر الصوم، بطبيعته العائلية، كي تستقطب جمهور المتفرجين.
ان معظم الابطال، من الرجال والنساء، قد تجاوزوا سن الخمسين، بل الستين في الاغلب من الحالات. ولا تنفع وسائل الماكياج في الغاء آثار العمر، ولا في اقناع المشاهد بأن من يراهم في ادوار الغواية والاغراء والحب الاول لا يقدرون في حياتهم الفعلية على القيام باعباء الادوار التي يمثلونها.
ويمكن القول براحة ضمير ان السنوات العشرين الاخيرة لم تشهد ولادة »نجم« سينمائي في القاهرة التي تمتد مدينة الانتاج الاعلامي والفني فيها على مساحة تفيض عن مساحة مدينة كبيروت، والتي توفر استديوهات لمختلف الفضائيات العربية، مصرية وغير مصرية.
ان نجمات الصف الاول في الثمانينيات هن هن اليوم، اما نجوم الصف الاول فيتحدرون من السبعينيات.
هذا في »الابطال«.
اما في النصوص فالتراجع اخطر وافظع اثراً…
ان المسلسلات التاريخية تشكل في أحسن الحالات، محاولات بائسة للتعويض بانتصارات ماض لن يعوض (بغض النظر عن الدقة في استعادته) عن هزائم الحاضر، وهي ثقيلة جدا، وأثقل من ان تذهب بها الذكريات.
اما المسلسلات المعاصرة فهي بمعظمها حكايات هيولية عن ابطال متوهمين، يسلكون مسلك الانبياء بينما الى جانبهم اسراب من الشياطين، وليس ثمة بشر حقيقيون مطلقا.
انها تركيبات من الخرافات والاوهام والاسقاطات المبتذلة لمفاهيم كانت سائدة في الماضي على الحاضر، او محاولة لاستعادة الماضي بثياب الحاضر، لا النص فيها مقنع ولا الاداء مهما برع فيه الممثلون يمكن ان يكون مقبولا.
ليس في اي مسلسل حس اجتماعي من اي نوع، ولا أثر للسياسة الا في تبرير انظمة الانفتاح ونهبها المنظم، والانهيارات الاخلاقية، وانعدام القيم.
وهذا ينطبق ايضا على الغناء والموسيقى، عموما.
طبعا لا أثر لفلسطين وكل ما جرى ويجري فيها، ناهيك بالعراق، بل لا وجود للمجتمع المصري وتحولاته الا بشكل عابر وهامشي.
ان مسلسلات رمضان بعض التراث الفني للهزيمة السياسية التي لم توفر قيمة او معنى او فكرة لها بعض السمو.
انها تخاريف… مفطرون، يبيعون »التسالي« للصائمين، على طريقة حكايات الجدات، مع نسيان ان المشاهدين هم من »البالغين« وليسوا من الاطفال الذين نحب ان نرسلهم الى الغد عبر التوغل في الخرافة.

أكرم فيصل: متى نغادر الرمز إلى الأرض؟!

لم أكن قد قرأت شيئا لفيصل اكرم حين تلقيت منه ديوانين معا:
»كبار« و»نصف الكتابة« الذي وعد بأن يكمل نصفها الآخر بأجزاء متتالية. ولقد لفتتني في الديوانين نبرة خاصة لا اعرف هل هي مزيج من اليأس والكمد والاصرار على تخطي الصعب، ام انها محاولة للتحريض على الواقع (السياسي والاجتماعي) الذي يعيش فيه الشاعر كما الاكثرية الساحقة من العرب في تناقض حياتهم مع شروط التقدم في اتجاه العصر.
»كنت وحيدا؟/ لا تقل: كنت وحيدا.. انت محاط دائما بالعصافير التي تبني اعشاشها على مقربة من الماء
»انها آخر قيثارة ستحتضن الوتر/ انها آخر غيمة سيبطر فيها المطر
»انها آخر خطوة، آخر نشوة، آخر فرصة سيمنحها السفر«.
وحين يصل اكرم الى آخر وقت للتأمل فانه يهتدي الى فكرة طريفة:
»مدخل هل كان حاتم الطائي كريما حقا وهو يذبح صديقه الحصان من أجل غرباء نهمين؟!«.
وهو يمهد بهذا التساؤل الذي يفرض علينا نقض مفهومنا للكرم الطائي كي يقول:
»عباءتك الآن، تنساب من فوق اكتاف غيرك
»واعداؤك الآن يرمون بعضا ببعض ومن بعض خيرك
»يقولون: منك الجفون ومنا النظر. يقولون: منا الأمان ومنك الخطر«.
اما حين يتوغل في احتمالاته الصغيرة فإنه يستكشف آفاقا مغايرة لما تنتهي اليه الامور في مسارها الطبيعي:
»كان على النافذة ان تكشف عمن وراء زجاجها
»ليتبين للفرخ المستهتر/ انه لا يزال غير قادر على الطيران«
كل خطوط يدي »فيصل اكرم« تقول انه وقد خسر الحرب فلن يجد دربا آخر يسلكه.
لكن الحرب في بدايتها يا أكرم، وانت لو نزعت عن كتفيك الروح ستستطيع ان تمنح وجهك للاوطان… وعليك ان تقرب الناس ليروا معك الضوء الذي رأيته يقشر قلب الارض ويعد بان قشور الضوء غدا تخضر.
دواوين اكرم فيصل والكثير من الشعراء الذين يهربون، مثله، الى الشعر المقفل على سره، الى الرمز الذي تتعب في كشفه لشدة وضوحه، الى الغموض الذي يفضح الواقع الواضح حتى الابهار… مثل هذه الدواوين تطرح مسألة جدية: الى متى نهرب من واقعنا؟! الى متى نظل نومئ ولا نقول، نلمح ولا نصرح؟! وكيف نشق الطريق الى التقدم اذا كنا نكتب بكلمات من ضباب.
الكتابة على الغيم لا تمطر وعيا.
وعلى الشعر ان ينزل الى الارض التي ترتوي بدمائنا اكثر مما نحرثها بأفكارنا التي كانت احلامنا قبل ان نحولها الى عمل.
هل صار الشعر، بالرمز، ترفا في لحظة تغيب ارضنا عن عيوننا تحت اجداث شهدائنا واحلامنا وأوهامنا؟!

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
الحب لا يهبط من السماء، ولكنه من الانسان ينبع والى الانسان يذهب فيصب.
الحب لا يجيء من الحكاية ولكنه صانع الحكايات وابطالها.
حبيبي يغزل لي حكاية عمري ومنه يأتيني الدفء وعبره اتذوق طعم الحياة الشهي، وبعينيه اكتشف جمالها الذي لا ينتهي.

Exit mobile version