طلال سلمان

هوامش

جولة على الشهداء في شرفة فلسطين: حولا

استقبلتنا »حولا« بثياب الشهادة التي ما تزال تجللها منذ ان باشرت اسرائيل اغتيالها شمس فلسطين قبل ست وخمسين سنة أو يزيد قليلاً…
ففي المذبحة الأولى التي ارتكبتها عصابات الهاغاناه في 31 تشرين الأول 1948، وقد دخل جنودها إلى البلدة متنكرين بثياب رجال »جيش الإنقاذ« فظنهم الأهالي نجدة بالكوفية والعقال، قتل هؤلاء، بدماء باردة، 82 شاباً من حولا، إذ ادخلوهم إلى ثلاثة بيوت، واغتالوهم واحداً واحداً، ثم نسفوا البيوت عليهم…
وكانت تلك المجزرة عنواناً لمرحلة ستطول وتمتد مع عمليات الاغارة، ثم مع الاحتلال الاسرائيلي لبعض ثم لمعظم الأرض اللبنانية الممتدة من الحدود وحتى بيروت، والذي استمر حتى بزوغ فجر التحرير في 25 أيار 2000.
بوابة حولا، إذاً، هي النصب التذكاري الذي نجح في اقامته الأهالي بهمة الزميل رفيق نصر الله، الذي كان اوصله الاجماع إلى رئاسة البلدية في فترة سابقة، فترك في البلدة معلماً حضارياً يليق بتضحيات ابنائها التي تواصلت على مر السنين ولما تنته حتى الساعة.
كيف لا يكون هواء الجنوب معطراً ومنشياً وهو المضمخ بنجيع الشهادة، جيلاً بعد جيل؟!
وفي حولا تستذكر ضروبا من المقاومة، ومن الشهادة، سابقة على الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين (ومعها بعض لبنان وبعض سوريا)… إذ إن ابناء هذه البلدة، من الفلاحين الفقراء والبسطاء، شاركوا في انتفاضات متوالية: ضد احمد باشا الجزار، وضد ابراهيم باشا… وواكبوا ثورة صادق حمزة وادهم خنجر، والحكومة العربية في دمشق، وكانوا في ميسلون… الخ.
وهكذا، فلم نكن بحاجة إلى أن ندخل كل بيت في حولا كي نعرف أن جدار غرفة الاستقبال فيه يشع بصورة شهيده، تماماً كأصصة الحبق أو العطر أو الياسمينة أو العريشة التي تظلل المدخل…
فحولا، شرفة فلسطين، تطل منها على الجليل الأعلى كله، يتوسطه سهل أو مرج الحولا، الذي كانت بعض الوجاهات اللبنانية شريكة كبرى في ملكية أرضه التي كانت تغطيها المستنقعات. وأهل حولا يعرفون عائلات الجليل، فرداً فرداً، كما يعرفون ألوان عيونهم، ويعرفون بالطبع اخوتهم من أهالي »القرى السبع« التي اقتطعها الاحتلال من لبنان، واشهرها »هونين« التي شطرها خط الهدنة فأعطى البلدة وبعض أرضها للكيان الصهيوني، وبقي القسم الآخر »لبناني« الملكية.

»العباد«: الأسطورة الجميلة تحت الاحتلال!

… ونترك الاسطورة للتاريخ، ونحن نتوقف بسياراتنا في »الأرض الحرام« مقابل البرج الهائل الارتفاع والهائل التحصين الذي اقامه الاحتلال الاسرائيلي وما زالت قواته فيه، ترصد من هذا »المطل« كل الجنوب تقريباً، بينما يتكفل برج مشابه في »المنارة« القريبة بتغطية بعض الجولان، وربما بعض البقاع ايضاً.
عند مدخل »الأرض الحرام« نقطة مراقبة أمنية تابعة ل»حزب الله«، وعلى مبعدة امتار قليلة مركز لقوات الطوارئ التابعة للامم المتحدة، وفي الأعلى، داخل البرج الذي استهلك بناؤه من الاسمنت والحديد ما يكفي لبناء مدينة، جند العدو، يرصدون كل من وما يتحرك قريباً من الضريح أو في البعيد البعيد.
قال الفتى الأسمر المنتدب من »الحزب« للحراسة لبعض مرافقينا: لا تقتربوا منهم كثيراً، أحياناً يتصرفون بقلة أدب مستفزة.
وقال كهل يرافقنا ممن شهدوا فصول الدم والنار، الجهاد والاستشهاد: يزعجهم كثيراً أن يأتي من يشهد على احتلالهم، وفي مرات سابقة، ومع زائرات تصرف الجنود ببشاعة مستفزة. إنهم لا يتورعون عن الإتيان بأي فعل منافٍ للآداب: إنه احتلال مع سفالة!
وقفنا على الضريح المشطور نصفين: نصفا لبنانيا ونصفا اسرائيليا، يقع داخل نطاق البرج تحوطه أسلاك شائكة، وقد ارتفعت من حوله نبتات برية، بينما غلفت شبكة مموهة بعض منافذ البرج، ولمحنا أشباح جنود وهم يرصدون تحركاتنا بالعين المجردة، بينما يرصد آخرون الحركة في البعيد.
سألت مراسل »السفير« كامل جابر، عن العباد، فجاءني بنص يقول:
»تنسب الى »العباد« صاحب الضريح، اسطورة مفادها انه كان عنده سبعة أنفار منقطعون للعبادة، وانهم كانوا يسكنون في خيمة هناك، ولم يبنوا بيتا زهدا في الدنيا، وكانوا ينتجون الحصر المعروفة بالعبدانية ويبيعونها في هونين بالمناوبة ويقتاتون من ثمنها. وان ملكا زهد في الدنيا فترك الملك وجاء مع بنت صغيرة له، أمرها بأن تتخفى بزي الرجال حتى لا تعرف ويطمع فيها احد. وصار هو وابنته في جملة »العُباد«. ثم توفي وبقيت ابنته وهم لا يرونها إلا غلاما. فلما كانت نوبة ذلك »الغلام« في بيع الحصر حضر إلى هونين، فرأته ابنة »الملك« فهوته وارسلت وراءه ودعته فأبى، فتركته ثم انها حملت من غيره، وظهر حملها، وعلم بذلك أبوها فقالت: انه من الغلام الذي مع »العباد«، فعزم على قتله… وبلغ »الغلام« ذلك فدعا الله ان يقبضه إليه فأصبح ميتا، فلما نزعوا عنه ثيابه ظهر ثدياه فعرفوا انه بنت، فأخبروا الملك بذلك فعلم كذب ابنته، فكفنه ودفنه واحسن إلى العباد«.
في المكان شجرات اخذت من »العباد« اسماً لها، وثمة نوع من الحصر يسمى »العبداني«… والخلاف حول نسب »العباد« بلغ المراجع الدولية، اذ يدعي الاسرائيليون انهم منهم، في حين يصر اللبنانيون، بشهادة الاهالي غير الطارئين، على ان »العباد« منهم… وعلى هذا فقد شطر الضريح نصفين، بالاسلاك الشائكة، وبقي الجزء اللبناني مزاراً، بينما صار القسم »الاسرائيلي« قلعة ومرصداً عسكرياً مدججاً بالأسلحة ومخططات التوسع والاحتلال ونوايا القتل الجماعي في القريب والبعيد. ثم جاءت قوات الطوارئ لتثبيت هذا الأمر الواقع بوجودها المادي »كشاهد ما شفش حاجة«.
من عند ضريح »العباد« ترى الامتداد الطبيعي لهذه الأرض التي صار فيها الآن ثلاث دول، فتحتك مباشرة الجليل الأعلى في فلسطين، وفي عمق مدى النظر يغلف ضباب خفيف هضبة الجولان السورية… وبينك وبين هذه وتلك البندقية الاسرائيلية.

رسول العلم في الجهات الأربع: جعفر الأمين

مقابل حولا، في القاطع الآخر، تتربع »شقرا« بكل عبقها الديني ودورها الثقافي المميز.
وعلى الطريق المستحدث، الذي شقه الاهالي خلال فترة الاحتلال، للربط بين البلدتين المتجاورتين، تبرع بعض ابناء حولا بإقامة صرح ثقافي حديث التجهيز، يضم مكتبة عامة، وقاعة للمطالعة مزودة بأجهزة الكومبيوتر مع خط انترنت، فضلاً عن قاعة فسيحة للندوات والمحاضرات والجدل السياسي. ففي حولا كل ألوان الطيف السياسي، وإن تميزت بلون يساري واضح، إذ طالما اعتبرت قلعة للحزب الشيوعي، الذي ما زال قوي الحضور فيها حتى مع تسليمه بمشاركة »الآخرين« الذين استولدتهم المقاومة ضد الاحتلال والحاجة إلى »خدمات« السلطة، على ندرتها.
ومن »شقرا« جاء إلى »حولا« ذلك الذي انتدب نفسه رسولاً للتقدم و»تحضير« ابناء الأطراف: السيد جعفر الأمين.
ولقد وجدنا في السيد جعفر قاسماً مشتركا: فهو قد ادى في بلدتي، شمسطار، أواخر الاربعينيات وأوائل الخمسينيات، الدور الريادي الممتاز الذي أداه في حولا، وفي شقرا ذاتها، وفي النبطية وفي انحاء اخرى من لبنان، إذ قاد جيلاً كاملاً من ابناء هذه المناطق المحرومة نحو شمس المعرفة. لم يعلم الابناء فقط، ولكنه علم »الأهل«، فعرّفهم بقيمة العلم كما بقيمة العمل، وعرفهم على الأفكار المبشرة بغد أفضل كما عرف ابناءهم على كنوز المعرفة عندما فتح امامهم الباب المرصود للمدرسة الرسمية.
وكانت فرصة لأن نشترك في توجيه التحية إلى ذلك »السيد الأمين« الأسمر الوجه الأخضر القلب، عالي الهمة، وصاحب اليد البيضاء على جيل كامل: السيد جعفر الأمين.

زاهي وهبي ينقش عيناتا حباً في مهب النساء…

الشعر جنوبي الهوى، حتى ليكاد الأطفال العامليون ينطقون به قبل أن يعرفوا الكلام.
زاهي وهبي طفل عاملي عرف من الكلام كل ما له صلة رحم بالشعر.
لعله مناخ فلسطين التي تتنشق بلدته عيناتا هواءها، استكمالاً لارتباط تاريخي جغرافي وإنساني لم تنجح السكين الاسرائيلية في قطعه بالاحتلال والاجتياح ومحاولات اعتقال نور الشمس والوسن الفضي للقمر الذي استعصى على الاغتيال.
… ومن الشعر دخل زاهي وهبي عالم الكلام، تماماً كما دخل من باب »الأسر« على يد جيش الاحتلال الاسرائيلي إلى الوعي بالسياسة والايمان بالانسان بوصفه قلبا ووردة وبندقية وأرضاً تنبت القمح والصبايا وارادة المقاومة وحب الحياة.
والديوان الجديد لزاهي وهبي »ماذا فعلت بي« يأتي ليكمل بعض السيرة الذاتية لهذا الفتى الذي ولد في قلب الوجع وعاش »في مهب النساء« بعدما »صادقوه قمرا« هو الذي كان وما زال »حطّاب الحيرة«.
في الديوان مجموعة رسائل إلى من نعرف: محمود درويش، سمير القنطار، غارسيا لوركا، ورنا… ورسائل اخرى تنبض وجدا إلى من يعرف ويريد أن يعرفنا اليهن بغير أن نعرفهن.
زاهي وهبي يرصد »تحولاته« فتدهشه:
»وحيدا كراعٍ هرم، وحيدا كسلحفاة،
»احصي انكساراتي، ابكي مثل قمر شتوي
»دمعتي عين الذئب/ لا تنام«.
وبين تحولات زاهي أن يتماهى مع لوركا، ولو بالتمني، ليكشف »جنرالات« الزمن الذي لا يتبدل إلا بزوالهم، واقرب مثل إلى ذهنه وعينيه جنرالات الاحتلال الاسرائيلي والجنرالات الآخرون الذين جاء بهم هذا الاحتلال إلى السلطة:
»الجنرال المزركش بالتفاهة والنياشين/ ينهر عربته المصفحة
»ينهر النساء والاطفال والامان/ يلتهم ليلة مقمرة بلا شفقة ولا ملح
»لم تكن أمي قد ولدتني بعد/ لكنها تمنت أن يصير الجنرال قرداً«.
على ان »الحب« هو منبع الشعر ومداه، والحب امرأة، تستطيع استيلاد الرجل الف مرة في قبلة واحدة:
»عريك يذوبني كحبة ملح/ أنفاسك توقظ فرس النهر في ظهري«.
ومع أن زاهي وهبي ما زال يحتفظ بطفل عيناتا والفقر واليتم في وجدانه، فإنه يرصد »تحولاته« بشيء من الخوف:
»غداً لن يعرفك احد/ حتى انت ستقف امام المرآة
تحدق طويلا/ تسأل اين الفتى الذي كان/
»أحقا انت هو الآن/ ذلك الذي كان يهوى المحال
»… وحين ترى ظلك محدودبا/ تلقي اللوم على الشمس«.
اما »الأخ الأكبر« لزاهي فهو الحزن الذي علمه »الشعر والخجل والوحدة والاختلاف« ولذلك فهو يسميه »ملح الحياة«.
وأما القلم فهو »عصا أهش بها قطعان الأفكار الشاردة/ اعيدها إلى رتابة الأسطر/ عكاز اتوكأ عليه في ظلمة النوايا/ سيف اقارع به طواحين الهواء/ اصرع الوحش وحين انتهي اطلق صيحة الانتصار/ ثم اغمده في قلبي«.
زاهي وهبي الذي اخترق فضاء الكتابة كشهب وثبت في سماء الاعلام كنجم مشع، والذي يستضيف الشعر والنثر، الغناء والتمثيل وحكايات النجاح، والذي يسمع اعترافات الاقلام التي حُكم عليها بالصمت، ويكتب على رموش الصبايا وعلى ثنايا عباءة النور التي يتلفع بها القمر الجنوبي وهو يسري إلى سماء فلسطين، ما زال طفلاً في عيناتا يحمل في عينيه أمه التي انشأته مناضلاً والتي يعود إليها كل مساء بقصة حب جديدة.
زاهي وهبي لا يتعب من الكتابة، فإذا ما أراح قلمه اطلق صوته ليبقي الناس في بيوتهم، اما هو فلا يضيع عن أمه أبداً، حتى وهو يكتب الشعر في العيون التي تقول الشعر.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا تصدق غرور المرأة اذ يوهمها ان جميع الرجال بحاجة إليها. انها حين يجيء »الرجل« تبتلع غرورها معتذرة.
ولا تصدق ادعاء الرجل ان النساء قطيع خلفه. انه حين تجيء »المرأة« يكتمل فلا يلتفت إلى من حوله.
الحب رجل واحد وامرأة واحدة هما معا العالم كله.

Exit mobile version