طلال سلمان

هوامش

أبو ماهر اليماني يواصل المشي .. إلى فلسطين!

منذ نصف قرن أو يزيد قليلاً و»أبو ماهر« يمشي على قدميه قاصداً هدفه الذي لا يتبدل ولا يتغيّر ولا يغيب عن وعيه وعقله وقلبه وإن غاب عن مدى بصره: فلسطين.
تبدلت الدنيا فانقلبت، أكثر من مرة، رأساً على عقب وعقباً على رأس، سقط ملوك ورؤساء، حدثت انقلابات وانتهت بانتكاسات، انتصرت ثورات وانتكست ثورات، ازدهرت عقائد ثم اندثرت، وقعت حروب وانتهت بمظفرين ومهزومين، و»أبو ماهر« يواصل المشي مفترضاً أن كل ما حدث لا يعدو كونه »جملاً معترضة« لا تبدل في النص الأصلي لكتابه: حقه في فلسطين.
انتسب إلى حركة القوميين العرب، وناضل في صفوفها طويلاً طويلاً، تحت قيادة »الحكيم« جورج حبش وسائر رفاق العمر الذين أعطوا أعمارهم لفلسطين، كان يودع من يرحل ويواصل المشي نحو هدفه الذي لم يتبدل.
ولأنه آمن بجورج حبش قائداً، فقد قبل على مضض أن تطوى أعلام حركة القوميين العرب، مخلية المساحة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بعد هزيمة 1967. لم يتوقف طويلاً أمام الكتب السميكة ليدرس الماركسية كنظرية، ولم يهتم بالغرق في الجدل الذي يهرب من المسائل الملموسة إلى مناظرات لن تقصّر الطريق إلى فلسطين.
ودع مئات الشهداء بينهم أكثر من شهيد من أسرته، بإيمان قدري بأن الشهادة وفلسطين اسمان لمسمى واحد… واستمر يمشي في الطريق الذي كان يتزايد طولاً كل يوم، فيزداد بُعده عن فلسطين بدل أن يقترب منها.
لم يهتز إيمانه الصوفي لحظة. لم يتوقف أمام أي عائق. لم ينتبه إلى أن العمر يمضي به نحو الشيخوخة. قاوم موجات اليأس والإحباط المتوالية واستمر يمشي. افتقد رفاق العمر الذين مضوا في الرحلة التي لا عودة منها، وبدلاً من أن يستشعر الوحدة فقد التزم أن يعوّض غيابهم بحضوره حيث لا بد من الحضور.
أحمد اليماني يمشي نحو فلسطين، وفلسطين تزداد بُعداً، ولكنه لا ييأس، ولا يتوقف للتدقيق في الأسباب. إن واجبه أن يواصل المشي في اتجاهها، مهما تناقص أعداد الأخوة والرفاق.
وها قد بلغ »أبو ماهر« الثمانين، وها جسمه قد بدأ يخذله. وفلسطين بعيدة بعد. بل لعلها اليوم أبعد مما كانت يوم بدأ أحمد اليماني رحلة العودة إليها، عبر التنظيم والتدريب والإيمان ومواصلة المشي في اتجاهها.
يعرف »أبو ماهر« أن إسرائيل قد صارت إمبراطورية قوية، وأنها شريك وحليف ورديف للإمبراطورية الأميركية الأعظم، ولم تعد »مجموعات من شذاذ الآفاق« و»العصابات الصهيونية«. يعرف أنها الآن »دولة عظمى« في هذا الشرق وسط مجموعة من الدول العربية الضعيفة والمفككة والمفقرة والتائهة عن هويتها أو عن طريقها إلى غدها.
يعرف. يتجرع المرارات ويواصل المشي. يتحمل آلام العجز وحسرات الشيخوخة وخذلان القيادات التي انحرفت أو تاهت ويواصل المشي.
أحمد اليماني: هل أجمل من صورته رمزاً لفلسطين، وهو يمشي إليها ثمانين ألف عمر في اليوم.

سامر أبو هواش يشتري بالوقت شعراً

ذهب سامر أبو هواش إلى الخليج ليشتري زمن الكتابة…
وها هو يثبت »بديوانيه« الجديدين أنه قد اشترى بالوقت شيئاً من الشعر وكثيراً من الشجن في »وحدته« التي تجعله يحاول قتلها بالإحصاء أو بالإصغاء أو بالانتظار الدائم لما يأتي بانتظام ممل وهو يقيم »داخل مكيّف كبير زاعماً أنه الخريف«:
»بين دبي وأبو ظبي/ عددت عواميد الإنارة/ 1760
وكم مرة تثاءب السائق/ وكم مرة لعنت الساعة«.
إنه يتنفس في غرفة الفندق وحده متمنياً شريكاً ما و»لو أشباح«.
وهو يحدق طويلاً في المرآة »لأتأكد من أن صوتي لا يزال«.
في »الديوان« الذي سنسميه هنا الأول، »راديو جاز برلين« والذي »قام بتوليفه في بلاد الاغتراب« لا شيء غير الانتظار، وغير افتقاد الصحبة والألفة مع الأشياء:
»أكلت في مطعم لبناني/ وجبة لبنانية
»وتفرجت على أرزة بلاستيكية تشبه/ شجرة صنوبر معرشة على السقف
»وتأملت خسة خضراء/ وبندورة حمراء كبيرة/ وعائلة من خمسة أفراد
»صديقي العراقي كان سعيداً/ بالتهام عصفور مشوي
»أقنعته بأنه لبناني… أيضاً«.
أما في الديوان الثاني الذي أعطاه سامر عنواناً مزدوجاً »نزل فضاء يافطات بيض«، فقد اجتاحته الذكريات الفلسطينية ممثلة بالعائلة: الأب عادل والأم عائشة والأخ إسماعيل الذي مضى إلى حيث لا عودة والذي »يزور أحياناً/ مثلما يزور ضريحٌ ضريحا«.
مناخ الموت يغمر كل كلمة هنا:
»الموتى إذ ينظرون إلى المرايا/ يشعرون بألم عظيم
إذ تسطع أمامهم/ الوجوه كلها دفعة واحدة
يكتبون أشواقهم بعصير عيونهم المغمضة…«.
المنافسة في الحزن، والفقد خيمة تظلل الأم والأب والأخ الذي لا يستطيع الافتراق، والزوجة التي لا تجد لها مكاناً بعد غياب زوجها:
»كانوا يهتفون بعودته/ إلى الأرض البعيدة
»أبعد من عتبة قلبي.
»كل مكان غريب/ قالت عائشة«
و»يصفر عشب يابس على الأضرحة: أين ذهب الجميع«.
و»الصور في الأدراج يبست/ حتى يمكن كسرها بنظرة واحدة«.
هو سأم الشعور بالغربة حتى وأنت تنسى من تعرف، يدهمك الحزن وتستذكر كل من ابتعد عنك بلا عودة، أو ابتعدت عنه بأمل العودة:
»الأمكنة تنتحل البشر بعد غيابهم
»لذلك يفكر إسماعيل: تخرج من الحجارة وجوه
تريد أن تنطق/ لكنها تقاوم الاسترسال في غيبوبتها الناصعة«.
سامر أبو هواش يستخرج في وحدته كل المخبوء من مشاعره: أفراحه الصغيرة وأحزانه الكبيرة، والأذن التي انتقدت حرارة الصوت على الوجه، والكلمات التي تبحث في فراغ الصمت عمن يشربها بعينيه.

غسان نواف ملحم: الحقيقة بالفرنسية!

حين أطل »نواف« مصطحباً نجله الشاب النحيل »غسان« قدرت أنني سأكون بصدد طلب توظيف أو شفاعة لدى بعض الجمعيات من أجل منحة دراسية.
قلت في نفسي: عساه يكون من المتفوقين فيسهل الأمر عليّ وعليه..
لكن نظرة الزهو في عيني الأب الذي أخذ عن أبيه الصلابة والطيبة معاً جعلتني أشكك في تقديري الأولي لما قد يطلبان… ثم أنني انتبهت، متأخراً، إلى أن الشاب يحمل في يده كتاباً، فدهمتني موجة فرح كان عليّ أن أسيطر عليها ريثما أتبيّن حقيقة الأمر.
قال »نواف« بلهجة اعتزاز: هذا غسان وقد جاءك بإنتاجه الأول..
وقال غسان وهو يقدم لي كتابه: إنها النسخة الأولى. أرجو أن تحظى باهتمامك..
الكتاب بالفرنسية، ويحمل عنواناً شيقاً: »العروبة، الإسلام والغرب؟! لعبة الغرب«.
أضيف سبب جديد لخليط المشاعر التي اجتاحتني من التقدير إلى الدهشة والإعجاب: كتبته بالفرنسية؟! إنه موضوع صعب تناوله بالعربية، فهل استطعت أن تشرحه بلغة غير لغتك الأم؟!
قال غسان: أحسست بأنني أستطيع إيصال أفكاري بمزيد من الوضوح إذا كتبت بالفرنسية. أعرف أن الموضوع معقد، ولعلني قصدت أن أشرحه للآخرين الذين يتخذون منا موقفاً عدائياً أو بارداً ناتجاً عن عدم الفهم، لسيطرة الدعاية الصهيونية على عقولهم وعواطفهم. ربما أردت أن يسمعني فيفهمني الآخر الذي أهملناه طويلاً ولم نخاطبه بما يقبله منطقه، وبما يقدم له قضيتنا من داخلها، أي بتوضيح حقائق تاريخنا، في هذه الأرض التي منها انطلقت الرسالات السماوية الثلاث، من دون أن تشهد حروباً دينية بين المسيحية والإسلام أو بين الإسلام وكل من المسيحية واليهودية، بل تعايشت الأديان الثلاثة جنباً إلى جنب، وأثمر تعاونها إنجازات حضارية باهرة شارك فيها الجميع.
أمسكت بالكتاب وأخذت أقلب صفحاته بتأنٍ، وكأنني أمام مخطوط ثمين لسفر قديم، وقرأت بداية تقديم غسان لنفسه:
»في سن السابعة عشرة وجدت فرصة لممارسة فن الكتابة على امتداد ثلاثة بل أربعة أشهر لوضع هذا المؤلف ليكون شاهداً على الحقيقة التي نتطلع إليها..«.
غسان يقدم نفسه أيضاً: »وُلدت في العام 1985، في إحدى القرى البقاعية، ولكن الخوف والقلق أخذا طريقهما إلى قلبي بفعل تلك الحال المضطربة التي كانت تسود في الجوار في ظل القصف العنيف والموت السريع الذي خطف العديد من أبناء لبنان الأبرياء على تعدد طوائفهم وانتماءاتهم السياسية. كنت صغيراً، إلا أنني رأيت في عينيّ والدتي الألم يتسلل إلى داخلها«.
غسان يعتبر كتابه »مشروعاً لإعادة تكوين مفهومنا لطبيعة الممارسة السياسية، بغية الحفاظ على الوحدة المجتمعية، من خلال تحريك الشعور بالانتماء للوطن والولاء للأمة والطاعة للدين..«.
من لحماسة غسان يحميها حتى لا تتكسر على مرارة الواقع؟
أجمل ما في غسان أنه وضع اسمه على مؤلفه الأول ثلاثياً: »غسان نواف ملحم«.. إنه اعتراف بفضل الأب الذي رعاه والذي يقدمه للناس بكثير من التواضع: إنه ابني..

حكاية/ سرير العتمة

ساهَرَنا الليل حتى تعب منا فذهب إلى النوم.. ولم يكن لنا سرير غير عتمته التي تشق كلامنا إلى اثنين لا يلتقيان.
لم يكن ثملاً تماماً، ولم تكن صاحية تماماً، والباب الزجاجي للفندق ينفتح للظل ثم ينغلق على التمني فيبقيه متسكعاً في الشارع، يهرب من أشباح السكارى التائهين عن بيوتهم ويتعثر بالقطط التي رفضت أن يدجنها الصبيان في البيوت مكتفية بحرية التشرد.
كيف ينام التحسر والفراش أعرض من أن تملأه التنهدات، وفراغ الوحدة يلتهم الأحلام فلا يتبقى غير الخوف من خواء العمر وضياع الفرصة الموعودة؟
لا ملجأ غير التذكّر: كان صوت المطرب شجياً، … ومن حقها أن تفترض أنه قد غنى لها بالذات، متجاوزاً الراقصين جلوساً والمتعانقين وقوفاً والذين يشربون لينسوا وجوه الصحبة الطارئين.
ممتع السفر في قلب اللحن. إنها رحلة منشية في بحر التمني تنسيك الوقت والآخرين وموعد الإقفال والعودة وحيداً إلى برد التذكّر، بينما أنفاس الذكرى ملتصقة بالشفاه ورموش العيون وانعطافة العنق وأنامل الكفين والثوب الذي لن يرسل إلى المصبغة أبداً.
لا بأس من تعاظم الصفحات في الكتاب الذي لن يقرأه أحد لأن قلم الكتابة قد سقط في جب اللهفة التي ترفض أن تحوّل تلك السويعات إلى مجرد ذكرى.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
سمعت عاشقة تروي حكايتها. كانت شديدة الثقة بأنها أول مَن أحب في التاريخ، وبأن معشوقها آخر رجل في الكون.
ليس الحب وهماً… إنه أجمل من الحقيقة بحيث يكاد يصير خارجها. أما أنا فحبي من لحم ودم، حبي إنسان. هل أعظم من الإنسان حباً؟!

Exit mobile version