طلال سلمان

هوامش

ترجّلنا فوق سطح غيمة ومشينا فوق الماء إلى سير الضنية

… وأخيراً سير الضنية: تتوقف بك السيارة لاهثة، وتترجل فوق سطح غيمة وقد اكتحلت عيناك بالخضرة، مفترضاً انك قد بلغت نهاية الأرض، عبر تلك الطريق المتعرجة والملتفة عبر شفا التلال والوهاد، يصاحبك في قلب الصمت المهيب ذلك الخرير الذي بتنا نفتقد سماعه حتى في أريافنا وقرانا التي لم تعد قرى والتي يستحيل ان تصير مدنا، فتحولت الى احياء عشوائية بلا هوية وليس لها شيء من ملامح أهلها الاصليين.
تقف مبهوتا في قلب تلك البقعة الساحرة التي لا تختلف في أوصافها عن الجنة التي تجري من تحتها الأنهار، والحدائق المعلقة والناس الذين سيماؤهم في وجوههم طيبة وكرم ضيافة واغاثة للملهوف واخلاصاً لما يؤمنون به حتى إذا ما استفزوا في كراماتهم هجروا الجنة غير آسفين، لان الجنة بأهلها، والأهل بشرفهم، وما عدا ذلك فهو الجحيم.
مشينا فوق الغيم، لكن القمة فوق، بعد، حيث يطل جبل الاربعين بمهابة تليق بالشهداء الذين اعطوه اسمه، وحيث لا يرقى اليها الغيم فيكتفي بأن ينعقد زناراً حول خصرها، فاصلاً ذروتها الشامخة التي تبدو كدرج الى السماء عن المحيط الاخضر الذي يتدرج نزولاً وقد شقت له الينابيع المنعرجات، متيحة للقرى المنتثرة فوق التلال ان تكون حرساً لهذه المنطقة الساقطة او المسقطة من ذاكرة الدولة.
كل شيء مختلف هنا: اللهجة، اكف الرجال، وحرارة اللقاء بالآتين على البعد إليهم، الحماسة للمبادئ، الايمان بالافكار المحفزة على التغيير والثبات على اصالة الانتماء واحلام الوحدة والحرية والعدالة.
المدينة تعوم فوق انهارها… لا ضرورة لان تحفر سعيا الى الماء. يعرف الماء طريقه الى السطح: ينبثق كالضياء، حيثما اختار. لكأن البيوت ابراج معلقة مبنية على الماء.
الينابيع غزيرة والخير قليل. الاستثمار يتطلب أموالاً والمال عزيز. والنفس عزيزة، تأنف من التسول. والذاكرة الرسمية لا تتسع للفلاحين.
لا اصطياف ولا مصطافين، ليس بسبب البعد، مع التقدم في وسائل المواصلات لم يعد اي مكان في لبنان بعيداً، لكنه الاهمال يجعل القريب بعيداً، والبعد غربة.
الطريق الوحيدة التي تربط مهبط الغيم بطرابلس وسائر لبنان لم تعرف التوسعة على مراحل إلا مؤخراً… والمرحلة الاخيرة والاساسية معطلة بالنكايات والمخاصمات ذات الواجهة السياسية والجذور العائلية: المنافسة بالتعطيل!
في الفندق الذي يفتقد زبائنه كان اللقاء: توافد الجمهور المهتم والمعني تتقدمه الالقاب الرسمية، ما زال للمنصب الرسمي احترامه هنا.
لم نكن نتوقع حشداً بالمئات، لكن الجمع اخذ يتزايد حتى غدا بالعشرات. ما زال الناس يهتمون. ما زالوا معنيين بالشأن العام وبالهموم القومية الثقيلة. لم يفقدوا ايمانهم بالكلمة، وهم يستطيعون ان يميزوا بين الدعاة، ومن يأتي ليرجعهم الى الماضي وبين من يحمل لهم بشارة بمستقبل افضل عن طريق التشديد على انهم هم أهل ذلك المستقبل، دعاته وبناته والمثقلون بكلفته الباهظة ايضاً. لن يهبط علينا المستقبل الافضل من الغيم، علينا ان نحفر الطريق إليه ولو باظافرنا.
كان كل فرد يعتبر نفسه المضيف، وان حافظ الكل على التراتبية في الجلوس. وكان للنسوة موقعهن، فالكل شريك في المسؤولية.
جاءت المفاجأة الاولى مع تلك الكوكبة من الصبايا: فتيات بعمر الورد، ندر ان شاركت مثيلاتهن في حضور ندوات سياسية.
قلت في نفسي، مغالبا فرحتي: لعلها المجاملة الريفية، او لعله الفضول، او لعلها رغبة للآباء لم يشأن ان يخالفنها!
على ان كل تلك الاوهام سقطت عندما تقدمن ليعبرن عن آرائهن بشجاعة المؤمن وصلابة صاحب القضية. كانت اللغة واضحة وضوح الأفكار، من دون ادعاءات. الحماسة لا تكفي. لا بد من المعرفة. انهن يبدأن من حيث انتهينا. اليأس تراثنا نحن، جيل الآباء، اما هن فيتحدثن من قلب المستقبل، كما يتصورنه، او كما يعملن ليكون.
الندوة كلام نادراً ما يكون غنياً بالافكار الجديدة. اما الشباب الجديد فهو الغد، ومنتهى الظلم ان نفرض عليه أفكارنا بغير نقاش. ألسنا نحن من تسبب في افساد الايام عليه، فكيف اذا نكرهه على التعامل مع الغد بأفكار الماضي التي كادت تقفل علينا ابواب المستقبل، وفرضت عليه ان يكافح لرفع الركام ليمكنه بعد ذلك ان يتصدى لفتح الغد؟!

صبايا الورد يعبرن إلى الانتفاضة

في سير الضنية التي بهرني جمال طبيعتها، تسنى لي ايضا ان اعيش لحظة باتت نادرة في أيامنا البائسة المثقلة بالخيبات وانسداد الأفق…
كن ثلاثا من صبايا الورد، تضج رؤوسهن بالاسئلة الصعبة، ويعمر صدورهن الايمان بالأمة وبالقدرة على اقتحام الصعب. وطال النقاش ولم تنقص حيويتهن ولا انتقل اليهن اليأس بالعدوى. هن غيرنا نحن. ان لهن رؤيتهن التي لا تعفينا، نحن الآباء، من اثقال المسؤولية، لكنهن يدركن ان عليهن ارجاء العتاب، فالمواجهة المفروضة لا تتحمل مثل هذا الترف. يكفي ان يستفدن من التجربة لعدم تكرار الاخطاء في المواجهات المقبلة والتي ستكون اقسى.
… وحين انتهت مراسم الوداع، تقدمن مني وفي يد احداهن ظرف مطوي على ما هو اكثر من رسالة. قالت واحدة منهن وفي كلماتها اثر للدمع:
نتمنى ان تتسلم منا هذه الامانة لتوصلها الى اصحابها…
قالت الثانية وهي تمنع نفسها من البكاء:
لا نعرف للانتفاضة في فلسطين عنوانا. ان فلسطين تملأ علينا دنيانا، لكننا لا نستطيع التواصل معها. لقد عزلوها بعيداً عنا. صارت صلتنا بها فضائية فحسب. لا نرى الا مواكب الشهداء، وصور جدار الفصل العنصري وهو يتمدد في جسد فلسطين حتى يكاد يبلغ بيوتنا. نحس به يحاصرنا هنا في بيوتنا، ويبعدنا عن اهلنا هناك الذين صاروا مجرد اعداد للشهداء والجرحى والمشردين الرابضين فوق اجداث بيوتهم.
قالت الثالثة وهي تشرق بدمعها:
كنا نتمنى لو نستطيع ان نقدم ما هو اعظم من المال للانتفاضة، ولكن…
لم اجد الكلمات التي يمكن ان تكون جوابا، فاكتفيت بأن احتضنت صبايا الورد، وتسلمت الامانة التي كانت عبارة عن خمسمئة دولار اميركي.
سير الضنية فوق الغيم، لكنها ملاصقة لنابلس والخليل وطولكرم وجنين وغزة ورفح. انها على كتف دمشق، وفي المقلب الآخر بعلبك والهرمل، لكن امامهن جميعا القدس، قبلة الايمان بالذات ومصدر اليقين بأننا أهل الأرض واصحاب القرار… متى حضرنا!
تحية الى سير الضنية: رجالها والنساء وصبايا الورد اللواتي يسرين كل ليلة الى »المسجد الأقصى الذي باركنا من حوله«.

أطفال إيهاب بسيسو يعبرون الفضاء الضيق

من يسكن في قلب الموت، يغالبه فيغلبه حينا ويتغلب عليه احياناً، لا بد ان ترقى لغته الى الشعر، فليس غير الشعر لغة لذلك الذي يقيم على الحد الفاصل بين حياة ممنوعة وموت مستحيل، لان قضيته تستعصي على الذوبان والالغاء.
كل فلسطيني شاعر الى ان يثبت العكس، هل اعظم من الدم مداداً للشعر؟
والشعر اصداء للصمود وليس رثاء للبيت المقتول وللشجرة المقتلعة بالجرافات والمدرسة التي حولتها الجرافات الى خربة وطوابير الفتية الذين كلما حصد منهم الموت مجموعات تزايدت اعداد الذين يتصدون لآلته الاسرائيلية مفترضين انهم سينهكونها حتى يعطلوها بالانتصار.
… وهذا ايهاب ياسر بسيسو يغرد بلسان »نورس الفضاء المغلق« ويهدي غناءه الحزين »الى الراحلين دون وداع الباقين في فضاء الذاكرة«:
»عادت العصافير الى موائد الحكايا او عاد وحيدا الى الجدار…
»صار له احبة يرفعون صورته/ على امتداد ذاكرتهم
»صار طفلاً ولد قبل لحظات يحمل ذات الاسم/ وصار ابتسامة تتوسط ملصقات الحائط ونشيدا/ وصار غياباً يتكئ على دمعتين«.
حول الوحش الاسرائيلي فلسطين الى مرادف للموت اليومي. يدور السفاح في الشوارع يحصد البيوت والاحلام والشجر، يقتل الفراشات ونور الشمس والفتية الذين يطلون على غدهم ثم يغادرون قبل ان يبلغهم أو يبلغوه:
»انها تمام العاشرة/ دبابتان تلتقيان في رأسي/
»ابحث عني في فراغ الوقت المحترق/ كي يبتعد الرصاص قليلاً عن طقس الوداع
» كي يخرج القناص من دمي/ وامشي في اعين الخارجين من فوضى الرماد…
»انها… المسافة تضيق بين طلقتين/ طفل يركض فوق صدري/ خوفا من عواء البارود
» طفل يتشكل كالفراش/ يغادر صدري/ والقميص المثقوب بحكاية حمراء
ويركض، بعيدا يركض عن الدخان/ كي يكتب اسمه بين كفي قمر«.
انتفت المسافة بين الاعمار. يولد الطفل رجلاً. يراه الوحش الاسرائيلي رجلاً فيلتهمه حتى لا يواجهه قويا بحقه في الحياة وقد اكتملت به ارضه:
»الطفل الذي ذهب بحزنه صباح اليوم الى المدرسة
»كان بلا قدمين/ يحمل بين يديه قبر اخيه…«.
ايهاب ياسر بسيسو يقدم نفسه تقديما صحيحاً في ديوانه:
»هذا أنا… اطل من غبار المكان البعيد
»انبش صمتي كي اولد من احتراقي
»أنا القريب مني، البعيد عني
»لي ظل في كل مرفأ تركت فيه جزءاً من ذاكرتي
»وبعضا من أوراق الكتابة«.
صارت الجنازة ملمحاً من فلسطين، كالبيت المنسوف والشجرة المغتالة والطفل الذي اجتاز الى الرجولة دون ان يعرف أباه الذي ارتحل من دون ان يغادر أرضه:
الفلسطيني هو احد ثلاثة: إما عائد من جنازته، وإما ذاهب الى جنازته، وإما انه الجنازة وموكبها المهيب الذي يتعجل الخطى بين جنازتين.
وراشيل كوري لها الآن »حصة من رسومات الصغار/ على جدار الوقت« ولها »حصة من حديث الازقة وحكايات الجدات« ولها »اجراس تقرع ودموع« و»حضور دائم في الطرقات التي تعبر نحو الموت بأقدام عارية«.
وما بين ايهاب ياسر بسيسو وبينه »طفل في غزة يحاول اضاءة قنديل في وجهك الليلي المحقون بالرصاص/ هل رأيت في عينيه غياب كتاب المدرسة«.
الليل يتعثر في جنازة العصافير، وايهاب بسيسو يلملم الاجنحة المتكسرة قصائد لا تقال لان أوان الرثاء لم يحن بعد.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
كل امرأة تعتبر نفسها اكمل نساء الأرض، الاجمل والابهى والاكثر عطاء، والتي قد لا يستحقها اي رجل… فإذا تجاهلها رجل واحد انتقمت من الرجال جميعا.
… إلا امرأتي فهي تعتبرني الرجال جميعا، وأنا اعتبرها النساء جميعا.
الحب يصنع المعجزات… ويجعلنا أبطالها ايضاً!

Exit mobile version