طلال سلمان

هوامش

خسر لبنان نفسه وخسر العرب قدوتهم

هي مصادفة قدرية ان يعقد اتحاد البرلمانات العربية اجتماعه الدوري في بيروت، فيتسنى لاعضاء هذه المجالس المنصّبين نوابا عن شعوبهم بالتعيين ان يتنفسوا الصعداء بعدما سقط امتياز زملائهم اللبنانيين الذين كانوا يتباهون بأنهم منتخبون بأصوات الناس.
لقد أسقط »التمديد« امتياز السادة النواب، من انتخب منهم بأصوات حقيقية ومن حملته المحدلة او البوسطة الى ساحة النجمة!
وبالتأكيد فقد استمتع »اعضاء مجلس الشعب« العرب الآتون من المغرب والمشرق وهم يشهدون زملاءهم اللبنانيين يرفعون ايديهم، موافقين، ثم يأخذون اوراقا جاهزة سلفا فيضعونها في الصندوقة الصغيرة وفيها اسم المرشح الأوحد، الفائز بالتزكية، في مد ولايته لمدة ثلاث سنوات اضافية… مع انه لم يطلب شيئا لنفسه!
صحيح انه لم يطلب شيئا لنفسه… ولكن امر وصوله الى الرئاسة ثم بقائه فيها، تطلّب ثلاثة تعديلات للدستور خلال تسع سنوات فقط!
لا يعاني »اعضاء مجلس الشعب« العرب مشكلة مع الدساتير في بلادهم، لانها مفصلة اساسا على مقاس الرؤساء، او انها وُضعت اصلا بناء لارادة ملكية سامية… ومن وضعها جعل نفسه فوق الدساتير، فهو يعطي الدساتير ولا يأخذ منها.
اما في البلد الذي كان ذات يوم يوصف بأنه »واحة للديمقراطية«، فقد بات »الدستور« من المعالم السياحية، مثله مثل قلعة بعلبك او قلعة جبيل او قلعة صور او الارز الخالد او مبنى المجلس النيابي في ساحة النجمة حيث كان »ملجأ« للدستور، فصار »كمينا« له، كلما وصل اليه اغتيل!
لقد فقد لبنان تميزه.
لقد فقد لبنان اشراقته الخاصة.
صار لبنان »مكلمة« وكان »مدرسة«، وصار »تكية للسلطان« وكان شارعا وطنيا للعرب ومنتدى لافكارهم ووعدا لهم بالقدرة على التقدم واثبات اهلية لأن يكون بين صناع الحضارة في القرن العشرين..
لقد خسر لبنان نفسه،
وخسر العرب »لبنانهم«.
لم يعودوا يطمحون لان يكونوا مثله، ولكنهم في حداد عليه وقد صار مثلهم.
لقد فقدوا الحلم، وفقدوا معه القدوة.

الهاتف يرن مرة واحدة

كتبت في كراسة الورد:
»لم تكن المرة الاولى اذهب فيها الى آخر الدنيا… ودائما كان يملأ صدري التمني بأن يتفجر الغيب بمفاجأة تخرجني من قوقعتي المصفحة والمزينة بابتسامة المجاملة الباردة، لترميني إلى النار تحرقني فلا أفعل غير الاندفاع للذوبان في لهيبها المشتهى.
»… وانتصب امامي كمن خرج من قلب المفاجأة، او كمن هبط بمظلة في صحراء عطشي.. لا هو كان يتوقعني حيث تنام الشمس، ولا أنا كنت اسعى الى لقائه حيث كان يسمر القمر مع عشاقه.
»سأفترض انه القدر وقد شاء… وسأحسد نفسي على قدري، حتى لو لم يكن يشاركني هذا الاحساس.
»لم يكن يعرفني تماما، بل لعله قد نسي اسمي، وكنت اعرف عنه اكثر مما اعرفه. ثمة فجوة لا بد لردمها من مغامرة… ولكن من تراه المطالب بالخطوة الاولى.
»تردد وترددت، والوقت قصير. لنترك للمصادفة إذن ان ترتب لقاء لا تنازل فيه. على ان سؤالا فجاً باغتني فأربكني: حسناً، وماذا بعد اللقاء؟!
»… ولقد وقع اللقاء فعلا، بغير تخطيط، ولكنه طرح الاجابة عن السؤال المعلق. »اعترفت له ونحن نعبر عن سعادتنا بهذه المصادفة الاجمل من اي تخطيط، بأنني كنت افكر بالمبادرة الى الاتصال… فزاد انه قاوم طويلا ثم حاول الاتصال فلم يجبه غير صدى الرنين.
»جلسنا في قلب السؤال: ما هي الخطوة التالية؟
»ضاقت بنا الدنيا على اتساعها، ثم نبهني فانتبهت، او انني نبهته فانتبه، او ان جو الوحدة قد نبهنا معا الى ان الغربة مساحة للحرية، وان كل الامكنة مشاع، وان هذه العيون التي تطوقنا لا ترى، فإن رأت تآكلتها الحسرة فلم تعرف المرئي.
»الغربة سكني.. واسمه عنواني، وترنيمتي التي تهدهدني فتأخذني الى النوم«.

حكاية غريب في مدينة المتعة

في لحظة واحدة اكتشف انه غريب عن المدينة التي اعطاها عمره، واعطته معنى العمر!
وقف في قلب دهشته مذهولاً، ثم ترك لصديقه المبتهج بفرح الحياة ان يقوده من يده، كريفي تائه في العاصمة، وسط ذلك الحشد من الفتية والصبايا الذين يزدحم بهم المقهى فقير الاثاث الذي كان يقصده، الى ما قبل سنة، لخلوة تأمل في قلب الهدوء الذي لا تعكره إلا اصداء الموج الآتي من البعيد متعباً، عند حافة الشاطئ الصخري.
كانوا يتوزعون مجموعات، جلوساً، وقوفاً، متعانقين، متحاضنين، يتمايل بعضهم مع الموسيقى الصاخبة، كمن يرقصون، بينما آخرون ينهمكون في احاديث لا تنتهي بكلمات مقطعة تتداخل فيها اللغات، في حين لا تتوقف هواتف الخلوي عن بث الرسائل او الرد عليها بالصوت والصورة.
دهمه الاحساس بأنه عجوز دخيل، لا هو يتقن اللغة ولا فنون التعبير الاخرى، فهو غريب تماماً: بدهشته التي ترفض ان تغادر عينيه، وهندامه الذي يفضح سنه واهتماماته المغايرة لما يشغل هؤلاء المحتشدين من حوله خارج الهموم، وتلك الحسرة الكامنة في صدره والتي وجدت الفرصة الآن كي تمسك بعنقه فتكاد تلويه المقارنة بين هؤلاء المزدحمين في جنة حرياتهم هنا وبين شبابه الذي ضاع في قلب الظمأ الى الموسيقى الهامسة والرقص الصاخب والسفر الى النشوة عبر دفء الاحتضان، والعيش في قلب الشعر بدلاً من استيلاده من خيالات التوهم.
صار همه، بعد لحظات الانبهار الاولى، الا يفسد على الصحبة استمتاعهم بالجو الذي جاؤوا إليه متعجلين، وألا يبدو ضيفاً ثقيلاً يفرض عليهم ما لا يطيقون من ضروب المجاملة النهارية.
وقف طويلاً امام الباب المرصود لذلك »الجو« يحاول ان يجد لنفسه مفتاحاً. لا الحديث المفتعل عن الطقس ينفع مدخلاً، ولا السؤال عن الاحوال والاعمال، ثم انه لا بد من تجنب الاخبار والسياسة وأهلها وما اتصل بهم من مفسدات الذوق. لم يتبق غير المنظر البهي للشاطئ الذي تزغرد فيه انوار بهجة الصيف، والبحر الذي تتراقص أمواجه بالضوء كأنما هي الاخرى تنتعش بالموسيقى الصاخبة التي تغلف القبلات الصامتة في قلب الاحتضان العنيف.
جاءه الانقاذ مع وصول دفعة اخرى من الفتية والصبايا بحيث اختلط الحابل بالنابل، فتسلل خارجاً… وعند الباب ناداه البحر، فوجد طريقه الى حافة الزبد، وهناك أخذ يخلع اقنعة الوقار ويرميها فيه، ثم اطلق لصوته العنان يغني نتفاً من اغنيات يحبها، متوقعاً ان تخرج إليه بعض جنيات البحر، فتعوضه حرمان العمر.
مع اول خيوط الشمس جاء صياد بصنارته وسلته وهو يردد ادعية الرجاء والأمل… وحين رآه افترض انه احد سكارى الليل، فجاءه مواسياً وهو يقول: بنت حواء ليس لها امان، يا عم… قم فعد الى بيتك وعائلتك، الله يهديك!
وقام متثاقلاً فصافح الصياد الحكيم ولملم اشياءه واشتات أفكاره، وودع البحر، ومشى عائداً وهو يدندن لحناً قديماً، ماريا التي سوسحت القبطان والبحرية، والتي ستدله الآن الى بيته!

عينان لاكتشاف كروية الأرض

ازدحمت مائدة الغداء بأصناف القهر العربي.. ومع كل صحن جديد من فواتح الشهية كان الحديث يتوغل داخل المزيد من جراح العجز عن المعالجة إلا بالهراوات والمعتقلات ومصادرة الهواء.
لا يدري هل هو الضجر من سماع المكرر والمعاد من أحاديث الخيبة أم هو الشعور بلسعة النار ما جعله يمد بصره نحو الزاوية التي كانت تنفجر بالضحكات القصيرة كما النداء… وحين تلاقت العيون آمن بأن الأرض كروية، وأنها الآن قد أكملت دورتها فجاءت بها لتنقض أصل الكلام.
ألا يستطيع الحب أن يغيّر واقعاً مهيناً لكرامة الإنسان؟
وأين أحاديث السحر والمعجزات التي يجترحها الحب؟
هل يحب المهان؟ وهل ينجب مهدور الكرامة؟
ها هي التماعات العينين السوداوين تسقط أصل الموضوع وتسحب من أحاديث المائدة تلك التعابير التي تذهب بالشهية بغير أن تحل المعضلة.
ولكن… هل نملك من الحب ما يكفي؟
المسألة إذن نقص في الحب، وخلل في دوران الكرة الأرضية وخلل في انفلات الإنسان من وهم الثبات الأبدي لكل من تحت الشمس.
الأرض كروية. ستمتد مطاردتك حتى لا يتبقى مأوى لمن وأد الحب في صدره وكره الشمس وجعل الحياة سجناً بدل أن يراها ويعيش فيها كجنة من صنع قلبه ويديه.

تهويمات

÷ جفت انهار الكلام، فلجأت الشفاه إلى الاستسقاء، علها تروي الظمأ المعتق.
كلَّ البصر، فكان لا بد من ان تنام العيون في العيون، وان تتلمس الأيدي الطريق بين هضاب المتعة سعياً إلى ينبوع ماء الحياة المرصود.
ضاقت بهما المقاعد، ولم يتسع لهما سرير. وكان القاع فوقهما تماماً، فأغذّا السير لهاثاً إليه.. وهناك تصالبا حتى أتما الصلاة.
÷ الحب ثرثار، لكن لغاته عديدة… وأحبها إلى قلوب العشاق الصمت.
÷ تنهدت وهي تقول: أحب السهر ذلك الذي يأخذ إلى العشق.. عنواني الليل، وعنوانك النهار، ومقاعد المقاهي أضيق من ان تتسع للرغبات… سنظل نقول »إلى اللقاء« ولا لقاء حتى يدخل الليل في النهار، أو يخرج من صلب النهار ليل، ونحن ننظّم الدخول والخروج ولا نلتقي!

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
ليس للحب عمر. اعرف من تعيش حالة حب دائمة تجعلها تحس بشباب دائم. قالت انها تُسكن حبيبها في قلبها وفي عينيها، فتراه بقلبها في وجوه الناس جميعا، بل انها هي تستفيق صباحا، تنسل من السرير انسلالا حتى لا تزعجه في احلامه.
الحب ايضا قرار. والمحب صاحب قرار لأن حبه يجعله اقوى اهل الارض.

Exit mobile version