طلال سلمان

هوامش

الوسام: رثاء لشيوعية لم تستعرب، لعروبة لم تتمركس!

كاد يقع لكريم مروه ما تقصد وقوعه الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، حين طلب الى ثلاثة من اكبر شعراء تونس ان يسمعوه قصائدهم في رثائه… وهو حيّ!
وكانت النتيجة أن طردهم وطاردهم بصراخه حتى الباب: هذا فقط ما يستحقه »المجاهد الاكبر« يا اولاد الذين!.
فعلى امتداد يومين طويلين شنّفت أذني الماركسي اللينيني والشيوعي منذ 58 سنة، بلا انقطاع، كريم مروه كلمات بعضها مكتوب وبعضها الآخر مرتجل تمتدح استحقاقه الوسام الذي تكرمت عليه به الدولة ذات النظام الرأسمالي، في حين نشرت كلمات اخرى تنتقد قبوله لهذا الوسام الذي يعبر عن »نفاق« هذا النظام متمثلاً بمحاولة شراء »ابي احمد« بهذه »الخرقة« الملونة المزدانة بالأرزة !
ولسوف يستمر الجدل طويلاً حول الوسام ومعنى قبوله، خصوصاً وقد رأى فيه البعض ما يشبه الرثاء المتأخر لحزب سياسي ناضل طويلاً ثم اخرجته التحولات الدولية والتطورات المتلاحقة في الاحوال العربية واستطراداً في الوضع المحلي، من موقع التأثير السياسي وحتى النقابي (وقد كانت النقابات ملعبه) فضلاً عن تهافت قدرته على استقطاب الشباب عموما، داخل الجامعات وخارجها.
بل لقد رأى بعض »المتشددين« في الوسام اكليلا من الورد يضعه الرئيس الجنرال للنظام الذي بين رموزه في سدة القيادة »ملياردير« وبضعة »مليونيرية«، على ضريح الحزب الشيوعي في لبنان، الذي تم تدجينه او انه دجّن نفسه بقوة اندفاع سياق الاحداث في الاتجاه المضاد لما كان يبشر به ويعمل له فصار من احزاب النظام… ولو بلا حصة من مكاسبه والمغانم!
في اي حال فكريم مروه يستحق التكريم لتاريخه النضالي كما لخُلقه كما لدأبه على تثقيف نفسه والاهم: على محاولة تعزيز العروبة بالفكر التقدمي، او »تعريب« الماركسية بما يعزز حركة النضال العربي ويمكنها من تقديم الحلول الناجعة لمعضلات قديمة او طارئة تعاني منها المجتمعات العربية سواء في علاقتها بالدين او في موقع الاقليات القومية وحقوقها او في المنهج المؤهل لاعادة صياغة العلاقة بين قوى الانتاج بأطرافها المتعددة من عمال وفلاحين وصغار كسبة و»البورجوازية الوطنية« في مواجهة »طاغوت الاحتكار« و»الرأسمالية المتوحشة«.
***
اعظم الصداقات هي تلك التي يتلاقى فيها الود بشيء من التقارب الفكري والقلق النابع من البحث الدائم عن استقرار اليقين، والتي يصبح فيها الاختلاف عامل تمتين للعلاقة الشخصية وحافزاً اضافياً للتلاقي على الهم المشترك.
كريم مروه بهذا المعنى، هو صديقي الحميم.
تلاقينا على تباعد ملتبس في الانتماء الفكري: فهو ماركسي العقيدة شيوعي الانتماء الحزبي عربي اليقين والتوجه السياسي وطني المنهج النضالي. اما أنا فعروبي المعتقد بغير التزام حزبي تقدمي التوجه، احمل تقديراً عظيماً للفكر الماركسي وتشدني رابطة »رفقة سلاح« الى الشيوعيين، وإن كانت لي تحفظاتي على طروحات بعض تنظيماتهم في العديد من الاقطار العربية التي كانت تتصرف كجاليات اجنبية وتقدم في تحليلها ثم في حركتها مصالح الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي على قضايانا العربية او تتعامل معها وفق »المنظور الاممي« بما يجعلها باردة في عاطفتها وفي موقفها الذي كان يشعر الناس معه وكأنه مترجم من لغة اخرى.
وعبر المواجهات والمصادمات بين الحركة القومية بقيادة جمال عبد الناصر وبين العدو الاسرائيلي وقوى الدعم الغربي (الامبريالي) كنا نزداد، كريم وأنا، تقاربا في الموقف السياسي كما تتوطد اكثر فأكثر علاقتنا الشخصية وقد اتسعت القاعدة السياسية للتلاقي.
وعشية التفكير بإصدار »السفير« كان كريم مروه واحداً من بضعة اصدقاء ذهبت إليهم استشيرهم وأناقش معهم فكرة المشروع ومهمته.
ولقد نجحت »السفير«، وكان في المقدمة من اسباب نجاحها ان اسرتها قد جمعت في احضانها هذا المزيج من »العروبيين التقدميين« و»الوطنيين« المقاتلين ضد الطائفية، بينهم من هو متحدر من صلب »الشيوعية الجديدة« التي استولدها التلاقي والتلاقح سياسيا بين عروبة مقاتلة ضد الاستعمار (وإسرائيل احدى قلاعه المتقدمة) وبين »ماركسية« حاولت ان تؤصل نفسها في مجتمعاتها العربية بتبني المطامح، القومية والسعي لتطهيرها من »الشوفينية« والالتباس مع الدين.
على ان زمان الوسام غير زمان صدور »السفير«، وغير زمان الماركسية التي تصبغ العالم بالأحمر، والعروبة التي تطرد الاستعمار وتقاوم لهزيمة المشروع الاسرائيلي وتحرير فلسطين.
انه زمان الخيبات والهزائم وانحطام الآمال على صخور الدكتاتوريات التي انجبها ذلك »التلاقح« بين عروبة الانظمة العسكرية و»سوفياتية« الاممية التي كانت تضحي بمبادئها الاصلية وشعاراتها الواعدة لتكتفي بالمواقف السياسية الخارجية لتلك الانظمة وتغفر لها سياساتها الداخلية التي لم تكن موسكو اكثر »تقدمية« او »ديموقراطية« منها.
ولكم كان الزمان سيختلف لو ان ذلك التلاقي الفكري بين العروبة المناضلة ضد الصهيونية والاستعمار والاشتراكية العلمية بقيادة الاتحاد السوفياتي قد حدث قبل الافتراق والتصادم من حول فلسطين والمشروع الاسرائيلي.
ولكم كان الزمان سيختلف لو ان امثال كريم مروه، على الضفتين، قد نجحوا في بناء جبهة عربية مقاتلة ضد مشاريع الهيمنة الاجنبية، ولها في التحالف مع المعسكر الاشتراكي الموقع المتقدم، لا هي تنظيمات »ملتحقة« تتوسل المساعدة لكي تواصل نضالها، ولا تغترب عن مجتمعها بذريعة الالتحاق بالتقدمية.
ربما لهذا كانت خطب الاحتفال تركز على الماضي اكثر من المستقبل، وعلى الشخص اكثر من المؤسسة… ومن هنا اكتست نبرة »رثاء« للحاضر بكل رموزه وتنظيماته والمهمات التي لا تجد من هو جدير بإنجازها.
***
ملحوظة شخصية: كريم مروه عرف بلدتي، شمسطار، قبلي، لانني كنت »ابن الدركي« المغترب في انحاء اخرى من لبنان، في حين عين في مدرستها الرسمية أواخر الأربعينيات.
ولقد تعودت من كريم ان يسألني كلما حانت لحظة الافتراق بعد لقاء: كيف عمك »ابو فوزي«؟ لقد كان أعز صديق لي في بلدتكم.
عمي »ابو فوزي« تعيش انت، يا اخي كريم، كما يقول اخواننا المصريون.
ليرحمه الله وليرحمنا، وليرحم الاهداف العظيمة التي عشنا لها وأعطيتها عمرك يا »أبا احمد«.

الرجل الذي هرّب زكريا أحمد إلى أميركا

شققنا كبد الليل، قبيل انتصافه، الى كفرحباب، استجابة لنداء اطلقه رشيد درباس الذي يمارس السياسة نهاراً والمنادمة ليلاً ويعمل في المحاماة بنجاح أوصله الى مرتبة »النقيب« في اوقات الفراغ. تستحق جلسة الأنس في زمن البؤس ان تسعى اليها حيثما عقدتها تلك العصبة من المعاندين الشرسين في مقاومة اليأس، القابضين على جمر ايمانهم »بقضيتهم« بأرواحهم عارية مطهرة.
كان في صدر القاعة التي احتشد فيها جمهور من أصدقاء عمر »جان«، بعائلاتهم، كهل وسيم يتأبط عوده ويلعلع بصوته العفي بعضا من ألحان الزمن الجميل.
قلت في نفسي: لعله هاو او من الغاوين الذين يتبعون الشعراء والفنانين وأهل الطرب الذي ينعش في الصدور حب الحياة.
ولفتني ان »البدوي« قد تخلى عن رفيق عمره، عوده، وجلس مصغياً بكل جوارحه وكأنه على حافة الصلاة.
تدفقت مياه جديدة في نهر النشوة: لقد استحضر هذا الكهل اللبناني المولد السوري النشأة الاميركي الاقامة شيخ ملحني هذا الزمان، زكريا احمد، فلبى نداءه وانضم إلينا بكل فوضاه العبقرية… (كيف لم يعتقل عصام حمزة وهو يؤوي هذا »الارهابي« الخطير في صدره، داخل اميركا جورج بوش وتشيني ورامسفيلد ووولفويتز وريتشارد بيرل؟!)
ارتقينا مع الصوت العفي لعصام حمزه مدارج الطرب، هو يتنقل بنا من »حلم« الى »الأمل«، ثم يرف طائراً من زكريا احمد الى محمد القصبجي وأن يسري بنا النغم البهي الى »رق الحبيب« وأن تهيج بنا الذكريات فيطل محمد عبد الوهاب من خلسة المختلس ويترقرق الصوت الجميل متسائلاً: »ايمتى الزمان يسمح يا جميل«؟!
كنت أنقل بصري بين المدعوين الذين تفرزهم أعمارهم جيلين ويلحق بهم رف من الشبان والشابات، احاول ان »اقيس« درجة الانسجام، فلاحظت ان بعض السيدات سبقن الرجال الى ذروة الطرب، فثمة من يؤرجحها الطرب في مقعدها، وأخرى تصاحب المغني بتمتمات تشي بتمكن اللحن من نفسها، وثمة من اخذتها النشوة وكأن الاغنية كتبت خصيصا لها ثم غناها من غناها لعينيها.
وافتقدنا »البدوي« فإذا هو قد انتحى في الشرفة المقفلة فتبعناه غاويا اثر غاوية، وتحلقنا من حوله ليأخذنا في الرحلة الممتعة الى ذرى النشوة: كيف يستحيل هذا »البدوي« النحيل الى »عملاق« بينما انامله تطلق النغم فيرفعنا ويرتفع بنا الى ذرى من النشوة قلّ ان بلغها الا الصفوة ممن قلوبهم في آذانهم وأرضهم تسكن وجدانهم ولا تغادره ولو ألقتهم مقاديرهم في آخر الدنيا.
في طريق العودة، ومن قلب النشوة، انبثق السؤال الصعب: هل نرانا بتنا محكومين بماض هو الاجمل من حاضرنا ومن مستقبلنا كما يتبدى »طيفه« عبر أسلاك الاحتلال الشائكة؟

منى السعودي: عيون تستولد الحب من الصخر!

في محترف منى السعودي كدت اضيع بين منحوتاتها وبينها وقد اكتسبت من خلال »معاشرة« الحجر بعض مواصفات »التمثال« الذي يتهاوى فجأة حين تبتسم او حين تنادي ابنتها فيستعيد الوجه إشراقته، وتطل ملامح »الأم« مخترقة »الصخر« الذي يتحول بين يديها الى مجسم لأفكارها.
تتوزع منحوتات منى السعودي في محترفها وكأنها طائفة من الضيوف هبطت عليها من عالم الخيال فأعادت صياغتها بما يتناسب مع رؤاها… وهي حين تتحدث عن الاحجار تضفي عليها صفات تتجاوز الجماد لتدرجها بين »ابناء الحياة«.
وللأحجار هويات وأسماء، ولولا شيء من التحفظ لاضافت منى السعودي اليها أرواحاً من عندها… وهي تكاد تعطي كل عمل »اسم دلع« تغنجه به، وحين تجول بين تماثيلها تتبدى كشيخ قبيلة يحيط به قومه، وفيهم »المقاتل« و»العاشق« و»الحارس« و»المجنون« وعازف الرباب.
كيف تستولد هذه الفنانة من الصخر حباً تعيد به صياغته فإذا هو يتقولب محققاً لها فكرتها، وإذا هو يخرج من صخريته الى جمالية استثنائية يؤكد عبرها »الوظيفة« او المعنى الذي أسبغته عليه.
غابة الحجارة التي تحيط بمحترف منى السعودي مشكّلة معرضاً دائماً لجماليات تحتاج الى عيون تستولد الحب من الصخر.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب هو مصدر الأمل. أعجب كيف يستطيع ان يقاتل او ان يصمد لعاديات الزمان من لا يحب. بالحب تنتصر على ذاتك، اوجاعك وخيباتك، وتنتصر على بغضاء الآخرين.
اللهم أعطني حباً تعطني كل سعادة الدنيا.

Exit mobile version