طلال سلمان

هوامش

راوية الرقة: عجيلي، طبيب، بذاكرة فيل!
.. دخلنا الرقة من خاصرتها، وكان معنا من يرشدنا إلى بيت الدكتور عبد السلام العجيلي الذي صار اسمه أداة تعريف لهذه المدينة جنباً إلى جنب مع هارون الرشيد وبضعة خلفاء آخرين أموها عبوراً أو أمضوا فيها إجازة صيد.
كان الأديب الثمانيني قد أمضى الليل معنا في حرم مدينة الثقافة بمدينة »الثورة« يروي صفحات من تاريخ سوريا في سنواتها الأولى للاستقلال، وصولاً إلى الحرب الإسرائيلية لاحتلال فلسطين 1948، والوقائع التي رافقت تطوعه مع أكرم الحوراني وسائر من انضم إلى »جيش الإنقاذ«.
وكان ممّا حدثنا به واقعة الألفي دينار أردني وقد أراد رئيس الجمهورية آنذاك شكري القوتلي أن يقدمه لهما، مع التأكيد أنه من ماله الخاص وليس من مال الدولة، ولذا فهو بالدينار، وأنه يقدر أنهما سيحتاجان إلى بعض المصاريف ومن واجبه كصديق شخصي أن يقدم ما يقدر على تقديمه لتسهيل مهمتهما الجهادية ما دام يتعذر عليه أن يذهب بنفسه لنصرة شعب فلسطين والمساهمة ميدانياً في رد العدوان عنه.
الجمل المعترضة في حديث العجيلي تكاد تكون أظرف من النص، ففيها من الشعر كثير، وفيها شيء من عبق التراث، وفيها أيضاً وقائع وحكايات تؤكد على المعنى المقصود، مع ضحكات قصيرة تصلح فاصلاً كما تصلح استطراداً بوسائل إيضاح طريفة أو مستحدثة، تستدعيها ذاكرة فيل لا تنسى أبسط التفاصيل، فإن غفلت عن اسم أو عن مطلع قصيدة أو عن تاريخ انتبهت بعد دقائق قليلة أو نبهك صاحبها معتذراً عن هذا النسيان المؤقت، بينما أنت تحاول أن تحفظ في ذاكرتك التي خرمها التعب الأسماء والوقائع والدلالات.
بعد الغداء، أراد المهندس عبد العظيم العجيلي أن يعطي أخاه المحدث الغزير بنوادره والممتع بأسلوبه المميز في السرد، إجازة قصيرة، فاستذكر واقعة محددة وأراد أن يستشهد بأبيات من الشعر القديم، الجاهلي على الأرجح، فلما أعجزته ذاكرته التفت إلى عبد السلام مستنجداً… لكن عبد السلام كان منهمكاً في حديث آخر يستدعي منه التركيز، فعصت عليه الأبيات المطلوبة. ولما لم نكن لجنة فاحصة، فقد استغرقنا في أحاديث أخرى، وما هي إلا دقائق حتى علا صوت الدكتور بالأبيات المنسية، ومناسبة نظمها وفي من قيلت… ولولا شيء من التحفظ لأخبرنا ماذا كان يرتدي القائل من ملابس، وأية ملامح ارتسمت على وجه »خصمه«!
أنا طبيب متقاعد الآن. ستون سنة من معالجة الأمراض في هذه البيئة شبه الصحراوية تكفي. ولقد فكرت بأن أنصرف إلى الكتابة، لديّ الكثير بعد لأقوله، لكنني موزع بين أنشطة عدة، ثم إنني أكتب كثيراً لبعض الصحف والمجلات في سوريا وفي لبنان وفي السعودية وفي أمكنة أخرى، وأشارك في أنشطة ثقافية متعددة، محاضراً أو منتدياً. ومع أنني لم أعد أستقبل المرضى إلا أنني كتبت وحاضرت وأكتب في أمراض المناطق شبه الصحراوية، كما أنني نجحت بمساعدة بعض المؤسسات الدولية وطلاب السنة الأخيرة في كلية الطب بدمشق في القضاء على شلل الأطفال في كل سوريا. ومنذ أعوام طويلة ليست في سوريا جميعاً حالة شلل أطفال واحدة.
… وكنت قد عرفت الكثير عن »الرقة«، بادية وعشائر وبدواً وفلاحين وحضراً، من خلال كتابات الدكتور عبد السلام العجيلي، راوية الرقة وشاعرها ومنشدها والرباب…
… وكنت قد عرفت الطبيب عبد السلام العجيلي كاتبا في مجلة »الاحد«، بداية الستينات، يخصها بين حين وآخر برائعة من قصصه القصيرة، و»مرشدا اجتماعيا« في مجلة »طبيبك« التي كان يصدرها الدكتور صبري قباني وهو احد اهم من بسط العلوم الطبية وأحد اقدر من عالج المشكلات المعقدة والتي يصعب الافصاح عنها والتي كان يعاني من آثارها الجمهور العريض من اهالي هذه البلاد التي يعتبر الجنس فيها عورة، ويعتبر الحديث عن ظواهره او ممارساته المرضية بين ابرز اسباب التخلف والتدمير الذاتي لطاقات الشباب من الجنسين.
كان عبد السلام العجيلي »حكيما« اضاف الى علمه الجامعي معرفته العميقة بأهله وبيئته وتقاليدها القاسية، فلم يستكبر ولم يهجر مدينته ومنطقته بل عاد بعدما اكمل تخصصه ليعيش مع ناسه فيها، ينفعهم بعلمه، من دون ان يمنعه اخلاصه من اعطاء نفسه اجازات سنوية يجوب خلالها العالم، متوغلا الى الأبعد او متبعا حنينه »الاموي« الى الاندلس، فضلا عن مدينة النور، باريس، التي عرفته قليلا وعرفها كثيرا.
وليس مبالغة ان يقال في عبد السلام العجيلي انه احد قلة قليلة من كتابنا العرب الذين ابدعوا في مجال القصة القصيرة… وليس ظلما للاديب المصري الراحل، يوسف ادريس، وهو الطبيب مثله، ان يُقرن به فيذكر معه بين رواد هذا الفن الجميل الذي يتناقص المبدعون فيه يوما بعد يوم.
على ان عبد السلام العجيلي بدأ غزيرا في انتاجه، وقد جرب الشعر وله ديوان يتيم، كما كتب عن مشاهداته وتجاربه كطبيب في الارياف، وكتب عن سياحاته ومغامراته مستذكرا الاسماء الصعبة للشوارع المثلجة في عواصم البرد والنهارات التي لا تغيب شموسها.
أما البادية ففي عقله وعينيه كما على سن قلمه، ولعلها الاقرب الى قلبه من بين أبطاله: يستذكرها بأمكنتها الموحشة ولياليها المقمرة وناسها الغليظي الايدي والوجوه الرقيقي القلوب بحيث يبكيهم الغناء.
ومع ان »الرقة« اليوم مدينة وأهلها قد غدوا حضراً، الا ان البدوي (العجيلي) في الطبيب الذي يعرف اكثر من لغة اجنبية، ما زال حيا داخل صدره… وهو لم تزده ثقافته الواسعة إلا تمسكا بهويته الاصلية على ما في الحياة معها من مشاق بل وأهوال.
انه لا ينكر اهله، ولا يستكبر عليهم بعلمه او بمعرفته الواسعة بهذه الدنيا الواسعة، بل هو يحنو عليهم، ويعاملهم برقة من يعرف الاسباب التي جعلتهم على مثل هذا الطبع الحاد والشراسة في رد الفعل على كل ما يعتقدون انه يمس بكرامتهم او بمعتقداتهم او بواقع حياتهم.
ولعل الرقة في حالها اليوم تقدم برهانا لا يدحض على صحة تفكير عبد السلام العجيلي وسلامة منهجه في التعامل مع بيئته الصعبة حتى الفظاظة والحنون حتى البكاء.
***
انتج عبد السلام العجيلي »مكتبة« كاملة… وهو ما زال ينتج وإن اختلف الاسلوب وطبيعة الانتاج. وله في القصة والرواية 14 مؤلفا، وفي المنوعات وحكايا الرحلات وأحاديث العشيات تسعة كتب.
ولقد شهد له، منذ البدايات، احد أخطر ائمة النقد الادبي مارون عبود، فقال في تقديمه لبعض كتبه »العجيلي قصصي اصيل قلت فيه منذ سنوات انه يجري ولا يُجرى معه«.
لقد حفر عبد السلام العجيلي بئرا في بادية الكتابة عن الناس المنسيين، المرميين خارج الذاكرة، فكانت له وما حولها من الارض.. وهو قد نزل منزلاً في السهول الشاسعة التي يخصبها الفرات فتكاد تتعبد له، فكان الفرات حبره والسهول صفحات كتبه التي تحكي حبه للناس والارض.
وهو يبحث كل يوم عن ضيوف لكي يأخذهم الى الرقة معتزا بأنها بيته ومحبرته وقلمه وربابه وحكايته التي تمتد مما قبل البداوة الى ما بعد الحداثة دون ان تنسى اسمها وهويتها.
… وكان من حظنا ان رأيناه حيث يكتمل بدنياه ولادة الحكايات والدم والشعر وقصص الحب الذي يقهر الموت.

غد أخضر لعيني الحياة

للحياة عينان زرقاوان موشومتان بقلب من ذهب اخضر.
العينان واسعتان حتى لتقدر ان تقرأ فيهما ما سوف يكتب عن اسرار الخليقة.
العينان مرآتان كاشفتان لا يقدر على عبورهما مخاتل او لص او متنكر للون بشرته او خارج على ارضه.
العينان مفتوحتان بمدى الدنيا، يغللهما حزن الانكسار، ولا يغلقهما إلا دمع انتظار الانتصار المستحيل.
في الحدقة من العين قلب، وفي قلب القلب صور لأولئك الذين اعطوا كثيرا ولم يأخذوا الا قليلا وأحببنا فيهم الحياة، وأحببنا لهم الحياة، وأحببنا معهم الحياة.
العينان منصتتان أبدا، تنتظران صرخة الولادة في مصر، وتسمعان وجع العراق، ويصلهما انين الجزائر، وتتلهفان لهمس الياسمين في دمشق، وتصغيان لما يتردد في صنعاء التي لا بد منها وإن طال السفر.
العينان تختزنان صورة الغد، وتميزان بين المقبول والمرفوض في كل ما عرفته بين نيويورك وطوكيو، وبين باريس وروما ولندن، لذلك يصعب معهما حوار الأمس والغد: لقد اتعبهما التحريض على كشف ما احتجب عن الناس او حجب.
***
صار للعينين عينان جديدتان.
تستحق اللثغة التي تقول كثيرا ان نلاقيها عند تخوم الكلام لتخبرنا من سنكون.
يستحق الحب ان نعيش له، فهو من اجلنا كان وبنا يزهر ويعطي ثمراً شهياً. تستحق الحياة ان تسمع ذلك النداء الاجمل من كل غناء: ماما!
الناس كثيرون، لكن حبك اكثر.
الناس غابات من الشجر البري أحيانا، لكن بلبلا واحدا يشجيهم فيحملون قلوبهم فوق ايديهم ويفتحون عيونهم ليروا الطريق الذي تاهوا عنه.
***
للحياة عينان زرقاوان موشومتان بغد اخضر…
ما ابهى ان نستخلص حياتنا وحيوات الآخرين من قلب الوجع، ان نهزم الموت، ان نبتدع للحياة حياة، ان نلد للحياة حياة، ان نجدد الحياة بإرادة الحياة التي ليس لها اسم آخر غير الحب.
للحياة عينان زرقاوان موشومتان بحب اخضر.
للحب الاخضر وجه مبهم الملامح بعينين ما تزالان في طور اختيار اللون، ولكنهما تضجان بالأمل، وتفجران بثرثرتهما طفولتنا ضحكا موصولا.
لهفي على من يفهم لثغة هذه التي عيناها اكبر منها، والتي تلاغينا بكلمات اشجى من الحب فتعلمنا معنى الحياة.
للحياة عينان زرقاوان موشومتان بقوس قزح، اوله الحب وآخره الحب وليس بين اوله وآخره الا الحب والحب والحب.

تهويمات

÷ النساء كثيرات، لكن امرأتك واحدة، ترى فيك الرجال جميعاً. والازدحام أفضل فرصة لكي ينفرد الخل بخله، فالجلبة التي يحدثها الساعون إلى قتل الوقت بالثرثرة هي أفضل فرصة لهمس العيون.
÷ أحبك بيأسي وتحبني بأملك ويحترق التشهي في أتون الانتظار المفتوح. لا اليأس بداية ولا الأمل نهاية، ونحن محكومون بالحب لتكون لنا الحياة.
÷ تزدحمين بالحب حتى يعز علينا أن نكون واحداً.
÷ منذ آلاف السنين تقول المرأة للرجل: أحبك! ويقول الرجل للمرأة: أحبك!
لماذا يداهمني الشعور حين أقولها أو أسمعها منك بأن أحداً غيرنا لم يقلها قبلنا، ولكن كل الناس سيتعلمونها فيرددونها بعدنا وبنبرتنا ذاتها؟

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
يعطينا الحب معنى الحياة. انه يزيل الفوارق بين الطبقات، ويكسر المحرمات وتقاليد ايام الآخرين الذين ماتوا دون ان يعيشوا حياتهم، يسقط الجبن ويستولد التحدي، فإذا دنياك غير ما اريد لها ان تكون، واذا انت غيرك، وإذا حبيبك غير من كان.
الحب ولادة الحياة والمعنى.

Exit mobile version