طلال سلمان

هوامش

رحلة إلى أبناء الفرات عند بحيرة الأمل الأزرق
هي رحلة تستحق العناء: صحبة عصام الزعيم لمسافة يومين، والتعرف الى الملامح الانسانية لسد الفرات الذي استنبت مدينة »الثورة كتوأم لمدينة »الطبقة« واحيا الأرض الموات موفرا حياة جديدة للاهالي في تلك الناحية التي كانت قفرا فصارت مزارع وبساتين وحدائق، اما الجائزة الكبرى فهي ان »تدهم« الدكتور عبد السلام العجيلي وسط عشيرته من الروايات والقصص القصيرة والكتابات التي تمتد من الطب والامراض الصحراوية الى المذكرات السياسية، ثم شفوياته التي تتجاوز ذلك كله الى الشعر والتاريخ والجغرافيا، بدءا بالرقة وانتهاء »بالعجيلات« فيها ومن حولها، وقد »اكتشف« ان لها امتدادا يتجاوز المشرق العربي الى ليبيا وما بعدها.
فاما الذريعة فكانت دعوة من »دار الاسد للثقافة« في مدينة »الثورة« للمشاركة في ندوة مع الدكتور عصام الزعيم، في ختام الموسم الثقافي لهذه المؤسسة الناشطة، بمديرها حمود موسى وجمهورها العريض الذي يلتقي في افيائه مثقفون ومهتمون، فيهم المهندس والطبيب والاستاذ الجامعي والمدرس ومهندس الري والموظف وأشتات من الموهوبين الذين فتح »السد« بعالمه الجديد قريحتهم على الشعر والقصة والرواية والنقد الادبي والدراسة والفن التشكيلي، ثم ربطتهم شبكة الانترنت بالدنيا وبقي ان يجدوا طريقهم الى العالم وان يحصلوا على الاعتراف بهم كمبدعين.
وأما الليل فهو عباءة معطرة ببدره الذي ينثر الشعر في فضاء هذه البيداء التي صارت حديثة، وكان اهلها رعاة وفلاحين وقبائل بأفخاذ وبطون، فصاروا »ملخصا لسوريا جميعا« بجهاتها الاصلية شرقا وشمالا وجنوبا وغربا، بغير ان يهجر المغني ربابه، وبغير ان ينسى الشباب الاغاني التي تأخذهم الى المواعيد، في قلب حلقة الدبكة او على اطرافها، حيث يلف الظل الهمسات التي تتجاوز حد الكلام.
بعد استراحة في حلب انطلقنا من دون أن تغادرنا هذه المدينة العالم التي لا مثيل لها ولا نظير، حتى وهي منطوية على ذاتها بكبر، تحفظ نفسها بنفسها، ترفض أن تعتبر أنها »كانت« وتصر على أنها في المستقبل ومن المستقبل وليست في الماضي ومنه.
انداحت الأرض اليباب أمامنا مدى مفتوحاً بلا معالم تقريباً، حتى الأشجار النادرة فيها ليست أشجاراً مكتملة النمو، والقرى الفقيرة متناثرة وسط الأرض البور المتعطشة إلى الماء والمحراث، والمختزنة الكثير من الخيرات بينها النفط والغاز، وما خفي كان أعظم.
وصلت إلى أنوفنا رائحة الماء قبل أن تلمع في عيوننا تلك الزرقة المبهجة لأطراف البحيرة الشاسعة (81 كلم) التي ابتدعها سد الفرات من خلفه لتملأ الأرض خيراً، ولتحول الصحراء إلى حدائق وبساتين وصبايا وشبان وقصص حب وشعر أخضر وروايات وقصص بنهايات سعيدة، رغم أنف الرقابات والمراقبين…
دخلنا المدينة التي لما تبلغ العقد الثالث من عمرها والتي كان الطموح منها أن تشكل مجتمعاً نموذجياً، فسكانها وفدوا إليها من مختلف أنحاء سوريا للعمل في إنشاء السد، ثم في استثمار الأراضي الجديدة التي سيرويها… إلى الفلاحين من أبناء القرى »القديمة« التي غمرتها البحيرة التي استولدها السد، والذين أعطوا الأفضلية في السكن، وبنيت مع المساكن المدارس والمستوصفات والأسواق ودار للثقافة أنيقة المبنى وهي تضم مسرحاً وقاعة للسينما وقاعات للمطالعة ومكتبة عامة، وتجهيزها ممتاز بوسائل الاتصال (كومبيوتر، أنترنت وشاشات عرض)… ويظهر المهندس عبد العظيم العجيلي (شقيق الدكتور عبد السلام) شيئاً من الاعتزاز بالإنجاز وهو يحدثك عن دار الثقافة بنبرة حانية كمن يتحدث عن بيته.
أما السد العملاق الذي بدأ العمل به سنة 1968 وتواصل على امتداد عشر سنوات، وافتتحه الرئيس الراحل حافظ الأسد في 8 آذار 1978 فيحجز مياه الفرات المتحدر من تركيا والمكمل طريقه إلى العراق ليلتقي في جنوبه مع دجلة، المتحدر أيضاً من تركيا، عند »القرنة« القريبة من البصرة ليكوِّنا بعد ذلك شط العرب، مصبهما في الخليج العربي.
عند جسم السد لوحة تذكارية تشيد بالتعاون المؤكد للصداقة بين شعوب الاتحاد السوفياتي (سقى الله أيام زمان) وبين الشعب العربي السوري… ولقد جاء أكثر من ألف مهندس وفني وخبير لمساعدة السوريين في إنجاز هذا السد الذي أحيا الأرض الموات في منطقة تعتبر اليوم أهراء سوريا.
أما في ذاكرة الناس الذين صاروا من »أهالي مدينة الثورة« على تعدد مساقط رؤوسهم من دير الزور إلى حوران فإلى ريف دمشق والبادية والساحل، فإن اسم »صبحي بيك« حاضر دائماً كلما ذكر السد، حتى لكأنه »أبوه«!
و»صبحي بيك« هو المهندس الراحل صبحي كحالة، الذي أعطى سنوات من عمره حتى رأى »طفله« قد غدا مصدراً لخير أهله في هذه المنطقة التي كان الفرات يعبرها فلا تفيد منه إلا بمقدار محدد ومحدود، فصارت أرضها اليوم مزارع وحدائق غناء ومصادر رزق للباذلين عرقهم من أجل حياة أفضل.
» صبحي بيك ابن نعمة. لم يأت إلى هذا القفر طلباً للتعويضات، أو طمعاً باستثمار الإنجاز لمصالح شخصية. كان يعرف كل الخبراء، كل المهندسين، كل العمال، كل الفلاحين من أبناء المنطقة، وصار »المرجع« في مختلف الشؤون حتى الحميمة لمجموع العاملين هنا. ولقد أحبه الناس بقدر ما أحبوا السد، مصدر الخير«.
لا أحد يحدثك عن السد إلا واستذكر بالخير صبحي كحالة »النموذج الفذ الذي لم يتكرر«.. العمل الخيِّر والجهد البناء وحب الأرض وناسها، كل ذلك لا يضيع ولا يسقط من ذاكرة الناس ولا من قلوبهم.. حتى لو كان من قدّمه من »البورجوازية الوطنية« التي استعصت على الإبادة وعلى التقليد عندما حاوله أغنياء السلطة والتسلط باسم إنصاف الكادحين!
* * *
قال محدثي الذي يعرف أهل »الثورة« جميعاً، ويعرف مساكنهم ومطالبهم وشكاواهم ويعرف أعمار البنايات والأشجار، ويعشق الماء والأرض: » بين الإنجازات هنا المحمية الممتدة عشرات الكيلومترات، والتي شجرت جميعاً، وبين شجرها اللوزيات والزيتون، وفيها مزرعة للغزلان، ومزرعة أخرى للجاموس، كما أطلقت في أرجائها مجموعات من القنافذ لمكافحة الأفاعي. إنها مهيأة لأن تكون دوحة على كتف البحيرة، وقد بنيت عند طرفها على حافة الماء استراحة لعلية القوم، مع أنها في موقعها ومناخها ومطلها واحة للحب، لو أن الحب استطاع الإعلان عن نفسه لامتلأت البحيرة وروداً ورياحين لفرح الماء«.
* * *
في هذه الرحلة اكتشفنا أن الفرات أعطى اسمه لكثير من الفتيان والصبايا وإن ظل شرف الريادة معقوداً للشاعر الذي لا يموت محمد مهدي الجواهري.
النهر يذكر بالنهر »يا أبا فرات«..

عن حلب التي تعلم الطرب

… وقال الرجل الذي أقام نفسه حارساً على روح حلب وقدودها والأصالة التي تجدد نفسها من داخلها لا من الخارج:
الغناء، يا سيدي، حالة وجد، بالنسبة إلينا. نحن في الأصل منشدون. كل من غنى من حلب كان منشداً، وفي حلقات الذكر تعلم أصول الألحان وتعلم أيضا قواعد اللغة ومخارج الحروف وملافظها وحركات المد والإدغام.
صمت الرجل الجميل الوجه الممتشق القوام والذي يحمل جبينه أثر السجود:
الحقيقة لا تعيب، يا سيدي. معظم المطربين المعروفين من أصول فقيرة وأشباه أميين، وكان المسجد الجامع مدرستهم، والتلاوة المباركة كتابهم الذي يفرض الإجادة… و»الذكر« حالة طلب للنشوة، فمن بلغها »فتح« صوته بمشيئة الله فصدح وغرّد وأطرب أذنه فأطرب سامعه… بعد ذلك يجيء »التخريم«، فالإنشاد متى بلغ الذروة لامس طبقة »البيات«، والبيات يستدر البيات وهكذا يتنقل المطرب المتمكّن من أغنية إلى أغنية وهو دائماً في الطبقة ذاتها. البيات بيت الطرب.
انتبه الحاج أحمد الوسيم الوجه المكتمل الرجولة بطوله الفارع إلى أننا ننصت إليه باستمتاع، فتدفق في شروحاته:
للرقص في حلب أصوله، يا سيدي. في البدء كان الرجال يرقصون متواجهين مع النساء في حفلات جماعية لا تخل بالآداب ولكنها تعبّر عن بلوغ الجميع حالة النشوة. ولحلب دبكتها أيضاً، ولكنها تعتمد على الحركة الإيقاعية لا على خبطة القدم. ومن أراد تكريم المغني تقدم منه فرقص أمامه. والراقص المتحدر من حلقة الذكر يفرد ذراعيه، وكأنه ما زال »يدور« في الحلقة، أما حركة القدمين فيمكن تشبيهها بنقلات الحجل.
فجأة، أضاءت وجه الحاج أحمد ابتسامة عريضة أضافت إلى وسامته التماعة العينين وبريق أسنانه البيضاء »لولو بلولو«، وروى لنا الحكاية:
» مرة كنا في سهرة مع مجموعة من الأصدقاء نلتف من حول شيخنا حسن الحفار الذي تعلم أصول الغناء في حلقات الذكر ثم تعب واجتهد حتى أتقن وأجاد فغدا ممتازاً.. وانتهت السهرة قبيل الفجر، فأراد أن يرجع ماشياً إلى بيته، وأحببت أن أرافقه، فمشينا معاً، لأنني قدرت أن لديه ما يقوله. وبالفعل فما إن ابتعدنا عن دار السهر حتى قال لي: لقد »فتح« صوتي، وإن لم أغنّ الآن فلسوف أختنق… اخترنا أن نتوجه نحو قلعة حلب. كان الهواء ندياً، والقمر بدراً، والسكون يلف الأمكنة، والقلعة تشمخ بكبر… ومهّدت للشيخ حسن بلحن أعرف أنه يحبه فانطلق يغني منتشياً وبأعلى صوته العريض، واكتفيت بدور الكورس… وظللنا ندور على الطريق الالتفافي الذي يطوّق حي القلعة، نغني ونغني ونغني حتى أذن لصلاة الصبح، فدخلنا المسجد وقد هدأت النفس منا، فصلينا جماعة، ثم عاد كل منا إلى منزله وقد ارتاح بعدما أطلق نشوته وهي في الذروة فحملتها نسائم الفجر إلى كل ناحية، هل عرفت حلب ومنشديها والغناء، يا سيدي؟!«.

تهويمات

÷ تستطيع أن تحب كل نساء الأرض طالما كنت مشاعاً.. ولا تكفي امرأة واحدة متى صرت ملكية خاصة.
÷ الحزن في الحب امتياز، الفرح في الحب طبيعة.
يؤرجحك الحب بين امتيازاتك وبين طبيعتك حتى يدجنك، فإذا أنت متميز بفرحك الحزين تميزك بحزنك المفرح.
÷ متى جاء حديث الرجال بين النساء فمن الأفضل أن تنسحب.
ستحمل أوزار غيرك، ولن يرضيك استثناءك المقصود نتيجة وجودك المفرد.
÷ الحب أقوى من الطب. جرعة واحدة كل صباح تجعل العمر رحلة في قلب البهجة.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
أعظم الظلم أن تحرم محباً من إعلان حبه، بذريعة أنك لا تستطيع قبوله، لأسبابك الخاصة.
لا يحتاج الحب إلى الإذن بالعبور. من قال إن شرطه الاكتمال بالآخر؟
لو أن كل محب تزوج بحبيبه لانتهى الحب دار توليد.
أعظم الحب أن تعيش به وله وفيه ومعه… وبقية العمر تفاصيل!

Exit mobile version