طلال سلمان

هوامش

يحيى يخلف بلا قلم ومصطفى البرغوثي بخرائط كثيرة وأرقام…

جاء اللقاء مع »فلسطين الداخل« و»سلطتها« بغير ميعاد، ثم كررته المصادفة مرة أخرى، أما الثالثة فكانت مع »الأرض« ذاتها والخرائط الملونة التي تذوب فوق ورقها »فلسطين التاريخ والجغرافيا«، بتمدد المستعمرات الثكنات الإسرائيلية.
في اللقاء الأول جلست أستمع إلى يحيى يخلف، الذي عرفته كاتباً وروائياً جيداً، ثم لقيته »وزيراً« يختار ألفاظه بعناية، ولا ينسى الألقاب الرسمية للذين استقبلوه وتسلموا منه الرسائل الرئاسية وسلموه مثلها.
كان حديثه مضبوطاً بالتعليمات، لكن همومه كمواطن كانت تتجاوزها، وان ظل يحاول تلطيفها بالقول ان »الحال من بعضه«.
لم يكن يحيى يخلف متطرفاً في أي يوم، كما لم يكن الابن الشرعي لأيديولوجية معينة، ولعله مثل معظم شعبه »عقيدته فلسطينية«.. وكانت كتاباته تنبع من هذه العقيدة.
سألت كثيراً عن »أحوالكم في الداخل« فقال ما مفاده انها »انعكاس لأحوال العرب في الداخل والخارج، فنحن إنما نتلقى نتائج الضعف بل التهالك العربي… وبديهي ان يبدو التهالك مجسَّماً في تصرف السلطة المستفرَدة«.
سألت يحيى: وهل تكتب؟
قال انه يكتب قليلاً، فوزير الثقافة بوجه عام يخطب ويصرح ويقول ويكتب البيانات وأحيانا التوجهات، فلا يتبقى في قلمه من الحبر ما يكفي لرواية جديدة.
أما اللقاء مع الدكتور مصطفى البرغوثي فكان غنياً بمعلوماته الدقيقة. ليس لدى هذا القيادي الفلسطيني الذي حمل قضيته إلى العالم من ألقاب لمناصب، وإنما تحمل بطاقته إلى جانب اسمه شعار »المبادرة الوطنية الفلسطينية«.
تسأل الدكتور مصطفى فلا يجيب بالتقديرات بل يُخرج لك الخرائط واحدة اثر الأخرى، ويكرز عليك أرقام البيوت التي اغتيلت بالجرافات المصفحة، ويعطيك كشفاً بالشهداء والجرحى، والأهم انه يقدم رؤيته السياسية للمشروع الإسرائيلي بغير خطابية، وبغير ذعر.
يقول الدكتور البرغوثي: ان الانسحاب الإسرائيلي من غزة كذبة نجحت إسرائيل في الترويج لها، بمساعدة الأميركيين، وقد صدقها العرب بل وبعض الفلسطينيين، فشُغلوا بها، في حين ان القضية الأساسية تتمثل في ما يجري للضفة الغربية وفيها. القضية هي جدار الفصل العنصري الذي التهم حتى اليوم حوالى 57$ من أراضي الضفة، والذي قطعها جزراً، ففصل بين كل مدينة وخراجها، وبين كل قرية والأخرى، وفصل بين مراكز الانتاج المحدودة ومراكز البيع، فسد أبواب الرزق، وصادر الأراضي، وجرف البيارات والبساتين، وأقام من خلف الجدار ومن أمامه نقاط التفتيش والحواجز العسكرية فلم يتبق للفلسطيني ما يعيش منه.
ومصطفى البرغوثي يرى معركته في الدعوة، وفي الوصول إلى الرأي العام العالمي، الأوروبي أولاً ومن بعده الأميركي… ويقول ان القضية الفلسطينية الآن وبعد مسلسل الجرائم الإسرائيلية التي طاولت البشر والبيوت والشجر، عادت تحتل الضمائر في العالم كله، وتكشف الكذب الإسرائيلي وتفضح عنصرية الاحتلال. فبعد توقف العمليات الاستشهادية ضد »المدنيين«، التي استفزت الرأي العام، انتبه الجميع الى عمليات إبادة المدن والاحياء، وعمليات القتل اليومي التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي جهاراً نهاراً وتحت عدسات المصورين والفضائيات، بغير ذريعة وتبرير، فعاد إلى موقفه الاصلي: مسانداً للحق الفلسطيني في دولة.
مصطفى البرغوثي داعية ممتاز، مع انه لا يتحمس كفاية كي يُعجب به جمهور »القتل على الهوية« الذي يحب ان يرى الإسرائيلي »مقتولاً« حتى لو كان الثمن دمغ الفلسطيني بالقتل بينما هو الضحية، أمس، واليوم وغداً.

لقاء خارج اليوميات بين مطعم فيصل والأطلنطيك!

… والزمان بأهله الذين يعطون الامكنة بعض ملامحهم.
… وحين تلاقينا من حول سمير صنبر »زائرا«، كان طبيعيا ان »تحضر« مرحلة كاملة تتبدى الآن متوهجة بذكريات الزمن الجميل لبيروت كمنتدى سياسي عربي مفتوح للتيارات جميعا، ولصحافة لبنان وصحافييها الذين كانوا »نجوما«، وكان جيلنا يحاول تقليدهم فينجح في الكتابة احيانا، ويفشل في »الاجتماعيات«، نهارية وليلية، دائماً… لضيق ذات اليد!
أما وأن »الحلقة« قد ضمت جان عبيد ومحسن ابراهيم ومنح الصلح واسعد المقدم وفخري دلول وسمير عطا الله، فكان لا بد من ان تستحضر اطياف (او ارواح) »النديم« زهير السعداوي، والغائب الحاضر كلوفيس مقصود، وان يكون ضيف الشرف »مطعم فيصل« الذي كانت الجامعة الاميركية تستعير عنوانه لمراسلاتها.
.. بغير ان ننسى مقهى »الدولتشي فيتا« الذي كان العنوان الفعلي لمشاهير اللاجئين السياسيين العرب بدءا بميشال عفلق واكرم الحوراني وصلاح البيطار (من سوريا) مرورا بعلي صالح السعدي وطالب شبيب وطارق عزيز (من العراق) وعبد الخالق محجوب ومحمد احمد محجوب (من السودان) والعديد من مناضلي ظفار الذين صاروا في ما بعد وزراء للسلطان، ومن المعارضين في البحرين الذين ذهبوا الى السجن بأقدامهم حتى لا يموتوا لاجئين خارج جزيرتهم التي تعاظمت من مشيخة الى مملكة تقول بالديموقراطية بينما يستقر في القواعد العسكرية من جنود الجيش الاميركي ما يعادل شعبها عدداً.
استُعيد كمّ هائل من الذكريات، بما فيها التشنيعات والمكايدات والمحاقدات، وتفجرت الضحكات ملعلة، واستأنس غازي العريضي باستزادة المعرفة بمرحلة لم يعشها، وان كان »يؤسس« مع اقران له الآن »مدرسة« مشابهة لما كان، لكن عدد »الاساتذة« فيها محدود لان الزمان اختلف وايما اختلاف.
استعيدت وقائع عتيقة، تتناول رؤساء جمهورية ورؤساء حكومات واقطابا سياسيين، وجاء طيف الشيخ عارف يحيى الذي كان رجل اعمال ناجحاً، ووسيطا سياسياً ومترجما فذا لكمال جنبلاط، يحمل رسائل ويعلم الآخرين كيف يقرأونها، ثم انه كان متيما بحب »الاطلنطيك« الذي لم يعرفه حتى صاهرت الاسرة الملكية في المغرب آل الصلح، فذهب بين المدعوين ليطلب من اصحاب القرار هناك أن يستمتعوا »بالاطلنطيك« وببلادهم الجميلة المنداحة على شاطئه قبل ان تصل اليهم »الحركة الوطنية« فتأكل الاخضر واليابس وتشرب مياه المحيط برغم ملوحتها…
وكان يمكن »المراقب« ان يلمس الفروق الجوهرية بين صورة »الوزير« وصورة المحدث اللبق والتعليقات الذكية في جان عبيد، وبين صورة »القائد السياسي« وصورة صاحب »القفشات« الخاطفة والتوريات الطريفة والالتماعات الظريفة لمحسن ابراهيم.
أما منح الصلح متعدد الكفاءات فتختلط في صورته ملامح المفكر العربي الكبير والعالم العلاّمة في »علم اللبنانيات« والظريف الانيق النكتة والسريع البديهة والذي كان سامعه ينتظر دائماً محطة »ولكن« او »وانما« التي تجيء لتستدرك فتنقض ما قبلها في مفاجأة تستولد ضحكات الجميع بمن في ذلك »الضحية« الذي جعله حظه »فريسة« جلسة الخلان واخوان الصفا.
ما أبعد المسافة بين تلك الايام، بسياساتها والزعامات السياسية والحزبية وازدهار الصحافة فيها، وبين ايام التردي والشقاء والتراجع العام في مستوى السياسيين والحزبيين والصحافيين على حد سواء.
ما أبعد المسافة بين »شارع مونو« و»مطعم فيصل« ومقهى »الدولتشي فيتا« في رأس بيروت قبل ان ينتقل المركز او تتمدد الانشطة الحيوية الى شارع الحمراء ومقاهيه التي يقفلها زبائنها قبل اصحابها.

معروف سويد: البدء بالصفحة الأخيرة

كتاب جديد لنتاج قديم ولكنه ممتع بحالتيه لانه يعيد ويستعيد ذكرى عزيز راحل عن دنيانا، ويمكن مثلي من قراءة ثانية لصفحات من الظرف وخفة الدم، الكتاب يحمل عنوان »سنوات وابتسامات«، وهو مجموعة من المقالات التي كتبها معروف سويد، وجمعها بعد الغياب نجله نبيل.
ومعروف سويد كان واحداً من »الندامى« الذين طالما لونوا بعض صفحات الصحافة العربية… وكان وجوده في اي مجلس يشكل نكهة مميزة، كذلك فإن كتاباته كانت لونا خاصاً، لم تشاركه فيه إلا قلة من »الهواة«، اذ من الصعب ان يصير الظرف »مهنة«، ومن المستحيل ان تتحول »الطرفة« او »النكتة« الى حرفة، والمتظرفون هم ايضا اخوان الشياطين.
ولأن »الظرف« ليس مرضاَ معدياً، فقد كتب معروف سويد في اكثر من مطبوعة، لكن »صفحته« ظلت تقرأ وكأنها الوجه الآخر للمقالات السياسية الجادة الثقيلة الوطأة، غالباً، على العقل والعين والمعدة.
ولقد عرفته، اول الامر، وأنا في بداية رحلتي المهنية في مجلة »الاحد«، وكنا ننتظر جلسته الاسبوعية وكأنها »فرصة« او »اجازة قصيرة« من هموم العقائديات والخطابيات والتنظيرات التي كان يتوهم اصحابها انهم سيهزمون بها الاستعمار والامبريالية والصهيونية والرجعية والاقطاع والطائفية، فلم تهزم هذه الكتابات غير القراء، إلا اقلهم الذين ظلوا يقرأون المجلة من صفحتها الاخيرة.
يصعب اختيار واحدة من »لطائف« معروف سويد، لكنني هنا سأقتطف بعض ما كتبه حين تجاوز الثمانين، فتحت عنوان »انه في الواحدة والثمانين وما زال كاتبا عجوزا… ورحالة طيبا« كتب معروف سويد: اخيرا عاد الشقي الى بيته. ولاول مرة في حياته يشعر فعلا بأنه عجوز، لانه اعجز من ان يخرق امر الطبيب بالتزام النقاهة. هذه المرة ألمت به وعكة »فألزمته« الفراش، وكم من مرة ألمت به وعكة »فألزمها« الفراش. ولكنه ايضا رحالة قضى عمره كابن زريق حين وصف نفسه بين حل ومرتحل »كأنه موكل بفضاء الله يذرعه«… ولأنه رحالة، تحامل على نفسه ومشى متثاقلا من غرفة النوم الى غرفة المكتب.
»عند النافذة ينظر في الارض فيجد انه ضرب في ارضها وخاض في بحرها وسبح في جوها، وعاش مع اغلب شعوبها وعاين مختلف حضاراتها. توهم انه طاف بها فعرف بها ما لم يعرفه احد، ولكنه بعد خمسين سنة وجد ان هذه الارض تبدو مثل ثوب قصير تلبسه ماكرة حسناء ترى ما انكشف عنها مثيراً ولكن ما يخفي يبقى اكثر اثارة«.
في زمن الاحزان نفتقد كثيرا من ينجحون في حماية الأمل باستيلاد الابتسامات.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
قرأت اروع رسالة حب. قال الحبيب: لأن حبنا مستحيل سأعطيه عمري. لأن حبنا لن يثمر سأجعل نفسي ثمرته اليتيمة. لأنك مفرد سأكون مفرداً. لأنك الحب سأكون فيك ولن أغادرك. ولأنك الحياة ستكونني حتى في الغياب. أنت هنا وأنا فيك، كيف إذاً لا أكون.

Exit mobile version