طلال سلمان

هوامش

الفاكهة على طريق 1946

أخذتنا ثلاثينية »السفير« إلى كل الذين لا صوت لهم في مختلف أنحاء لبنان، انطلاقاً من العاصمة النوارة بيروت إلى العديد من مدن الساحل والجبل والجنوب والبقاع، الذي »اكتشفنا« مرة أخرى ان العديد من جهاته ما تزال خارج الذاكرة الرسمية، تماماً كما كانت أحوالها يوم صدور »السفير«، في 26 آذار 1974، بل لعلها قد خسرت مع مرور الأيام آمالها بأن تدخل تلك الذاكرة الخَرِبة، وبالتالي ان تحظى بشيء من الاهتمام يعوضها بعض حرمانها الأبدي.
لمحة من ذكريات قديمة:
كنت طفلاً عقله في عينيه حين صحبنا جدي إلى رأس بعلبك، الذي باشر الوالد خدمته كدركي في مخفرها. أذكر اننا وصلناها بالقطار الذي انطلق بنا من محطة رياق، إلى محطتها التي كانت مقراً لكتيبة من الجنود البريطانيين الذين جاؤوا مع »جيش فرنسا الحرة« بقيادة ديغول، لمطاردة الجيش الالماني ومعه جيش حكومة فيشي التي كان نصَّبها في باريس المحتلة.
اليوم لا قطار… والمحطة باتت ثكنة مهجورة تناوبت على »احتلالها« خلال العقدين الماضيين قوى الأمر الواقع، حتى استقر فيها واقع الأمر.
… وكنت شاباً ممتلئاً بالحماسة للتغيير حين قصدت مع مجموعة من رفاق الصبا، منطقة الهرمل لكي نتلاقى مع أمثالنا فيها، الذين أكرمونا فاستضافونا في مياه العاصي وأطعمونا من أسماكه اللذيذة.
ثم أخذتني حرفة الصحافة إلى تلك »المنطقة النائية« مرات عدة: أولاها لأكون إلى جانب »رب عملي« رياض طه في معركته الشرسة ضد »الاقطاع« الذي كان يشبه ببؤسه الحمادي »أرض الشول« التي كان علينا ان نقطعها بين بعلبك والهرمل، والتي يصح فيها القول »حفرا، نفرا، ليس فيها عشبة خضراء«… أما المرات التالية فكي أقدم صورة مقربة عن أولئك الناس الطيبين المتروكين للريح، والذين لم يكونوا يعرفون من دولتهم إلا بندقية الدركي يأتي مرافقاً جباة الضرائب، وإلا القوات المسلحة تطاردهم بتهمة زراعة الممنوعات.
وذات مرة، قصدت المنطقة لأقدم »خريطة الدم« الناتجة عن حوادث الثأر التي تفاقمت مطلع السبعينيات… وليست حوادث الثأر إلا صورة مجسمة لناتج الفقر والجهل والإهمال المتعمد، وكذلك للدور القذر الذي طالما لعبه بعض رجال السلطة في التحريض.
الطريق هي الطريق، باستثناء »جُزر« معدودة، وُسعت جنباتها في بعض المواقع، محاباة لنافذ، أو »رشوة« من وزير بالمصادفة كان يحلم بأن يصيِّره المزيد من نفاق »الولاة« نائباً بالتعيين… الديموقراطي.
قال حسين روفايل بصوته الجهوري الذي يجلجل متهدجاً ومتناسباً مع منكبيه العريضين وجبينه العالي: ما تزال الطريق على حالها منذ ان شقها الانكليز سنة 1946…
وقال أبو محمد شاهين: … أما العاصي فيتحول على أيدي المتحكمين بأمورنا من نعمة إلى نقمة. انهم يشفطون مياهه، وقد تدخل النافذون لتقزيم السد العتيد الذي نسمع عنه ولا نرى له أثراً منذ جيلين أو ثلاثة، فصار في التخطيط الجديد مجرد حاجز لتمكين »الشفاطين« من سرقة المزيد من مياهه شرعاً…
وقال أحد وجهاء القاع: وإذا ما تذكرنا ان أراضينا هنا لا تزال حصصاً شائعة وغير ممسوحة، وان النافذين قد تمكنوا إما بوضع اليد أو بوضع الرِّجل، من الاستيلاء على مساحات واسعة منها »فتملّكوها«، لظهرت الصورة واضحة: ان أرضنا تسرق منا ومياه العاصي تسحب شفطاً فتحرم أصحاب الحق من حقوقهم في أرضهم ثم في الماء الذي منه كل شيء حي…
أما الدكتور إسماعيل سكرية الذي يطبب كل يوم ألف مريض، ويقطع كل أسبوع ألف كيلومتر، وهو يجول على المنسيين والمتروكين للريح في تلك المنطقة، والذي أفاد من بعض الصداقات العربية لكي يبني في »الفاكهة« مدرسة نموذجية تسهم في بناء جيل أفضل للحلم، والذي خاض بكفاءة عالية معركة الدواء، لمحاولة كسر احتكاره وبالتالي خفض أسعاره وتمكين »الضمان الاجتماعي« من أداء دوره الطبيعي في خدمة المضمونين، فيكتفي بأن يهز رأسه مؤمناً على أحاديث هؤلاء الذين اختاروه نائباً ذات يوم، فتم تأديبهم وتأديبه.
وكانوا كمن يئس من دولته فقرر الاعتماد على جهده، في العلم كما في البناء، في التعويض بالعمل الاجتماعي والتعاون عن »المشاريع« التي تعد بها الحكومة ولا تنفذها، في المجال الصحي بالمستوصفات بديلاً من المستشفيات التي تفتتح في مهرجانات مصنوعة ثم متى انفض الجمع المستقدم بالبوسطات، تبين ان تجهيزاتها لم تستكمل بعد…
لم تكن في كلماتهم رنة انكسار: لم يعودوا الآن مدموغين بلوثة الدم والثأر والتعدي الذي يحاول تبرير ما لا يبرر بالطائفية. لم يعودوا تجار ممنوعات.
لكنهم ها هناك قاعدون، يعطون الأرض فلا تعطيهم كفاف عيشهم، ومع ذلك لا يهجرونها ولا يبيعونها ويصبرون… في انتظار عودة القطار إلى سكته!

»السيد« الذي لم تأخذه العمامة بعيداً عن الناس

أسود العمّة، أخضر الفكر، والقلب حديقة ورد.. أما قلمه فرمح سمهري، وأما آراؤه فتتدافع سيلاً من باب الاجتهاد المفتوح على مداه فتحطّم جدران العزلة والانغلاق على المختلفين في الدين أو في المذهب أو في الرأي، لتنشئ أرضاً للحوار الخصب حول المسائل جميعاً، بلا حجْر أو تهيّب من مساءلة المتحجّرين عند النص أو عند الطقوس، حتى وإن رفضها العقل وصنفها بين الخرافات.
محمد حسن الأمين: السيد الذي ولد ليكون قائداً لو ان القرار للناس، سواء في الجامع او في الجامعة، في البيت أو في المنتدى، وفي الشارع أو في الشريعة.
لكن السيد الذي جدّه العشرون رسولُ الله، اندفع في منهج الجد الثاني، الذي أعطى عمره للرسول ثم للرسالة، وقاتل الانحراف في التفسير والتأويل حتى الاستشهاد على ايدي الذين أخذتهم الشدة في الالتزام الى الانتحار ونحر من علّمهم ألا يتهاونوا وألا يقبلوا الوسطية وأنصاف الحلول ولاّدة الأزمات.
لم يدرك أولئك ما ادركه محمد حسن الأمين من ان الشريعة في الاسلام امر إلهي، أما السلطة فهي شأن بشري ويجب ان يُنتجها البشر.
الاجتهاد، الاجتهاد، الاجتهاد… وكيف لا يكون اجتهاد وكل ما نواجهه من معضلات في حياتنا، كأمة، يجيء من خارج النص الديني، ويُرتكب باسم السلطة، والسلطة في هذا العصر للخارج، والخارج خارج على الشريعة، والمقاومة فرض عين، ولكنها علم ومعرفة ودراية بشؤون الدنيا… الدنيا التي غاب عنها آخر الأنبياء منذ خمسة عشر قرنا، فانقطع الوحي فارضاً على العقل ان يحمي الرسالة ومعها الناس والأرض والحياة نفسها؟
يقول السيد: لا يجوز بحجة العداء لسياسة الغرب الامتناع عن معرفته، لأننا بذلك نبتعد عن ينبوع أساسي من ينابيع المعرفة.. فالدين مقدس لكن آراءنا في الدين ليست مقدسة.
وهو يندفع من التحريض على المقاومة، مقاومة الخرافة كما مقاومة المفسدين، ومقاومة الاحتلال كما مقاومة المستعمرين، الى التحريض على »المؤسسة« التي تقول بالتقيّة، او تكتفي بإحالة الامر الى الله، داعية الناس الى الصلاة والمزيد من الصلاة واستمطار اللعنات على الطغاة والمستكبرين.
يقول السيد: إن الحرية في الغرب المسيحي لم تعرف طريقها الى المجتمع والدولة والفرد إلا بعد الانتصار على سلطة الكنيسة وتجريدها من الحق الإلهي المزعوم…
ويقول السيد بحق الاختلاف وبتأصيله في الاجتماع السياسي الإسلامي، مع وعيه بأن ذلك لا يكون إلا بتحرير البنية الفكرية العقائدية التي تنتج نقيضه، وتحرير هذه البنية من فكرة الحق الإلهي، وذلك لا يتحقق الا بتفكيك الالتباس بين البشري والإلهي في ما يعود إلى مسألة السلطة.
»السيد« في المقاومة منذ ولادته، على الأرجح. ومؤكد انه كان وهو يتتلمذ على ايدي اساتذته العلماء في النجف الأشرف لا يكفّ عن طرح الأسئلة الصعبة، وعن المناكفة إذا جاءته الأجوبة ناقصة أو غير مقنعة.
ولأن وجدانه فوّار بالاسئلة وقلبه مفعم بحب الحياة والناس فقد تفجّر فيه الشعر وهو يافع، وما زال حتى اليوم يحاول قمع الشاعر فيه بالمُجادل حتى يتدخل القاضي فيفصل بين الشاعرية والشريعة.
وكل شعر لا يؤكد حضور المرأة هو شعر ناقص.
وكل محاولة لتصوير الشريعة بأنها تنكر حق الإنسان في الاعتراض ورفض الأمر الواقع وإقفال باب الاجتهاد بتسفيه المقاومة، لا يمكن أن تكون إلهية المصدر.
السيد المقاتل ضد التعصّب، المقاوم الاحتلال، الرافض المهادنة والمساومة مع قوى البغي والشر في السلطة وفي المجتمع، هو بالضرورة من خريجي فيء السيد محسن الأمين، ولعله قد أخذ الكثير عن عمّه المجتهد الاكبر وعوّض غياب أبناء عمّه عن منصب قاضي الشرع الذي يضيق به لشدة ما يضيق عليه… ولذلك جعله في خدمة الناس والقضية أكثر مما هو إفتاء في مدلول النص.
تحية إلى »السيد« الذي لم تأخذه العمامة بعيداً عن الناس، بل أكدت للناس أن بين أصحاب العمائم من بقي من الناس وفي الناس وللناس، وهذا لعمري أعظم الإيمان.

ريم التي كبرت في قلب النغم

كبرت الطفلة التي تتغذى بالأنغام وآهات المحبين والشوق الحبيس إلى فرح الحياة والنجوى المرسلة عبر نسيم السحر إلى النجوم وقمر نيسان المثقل بحكايات الناس المغرمين الذين يبثون شكواهم إلى الليل تناديه العين ويناديها ولا لقاء.
كبرت »ريم« التي غنت للحب قبل ان تعرفه، فصار غناؤها مناجاة لأطياف أولئك الأساتذة الكبار الذين أخذت عنهم وتتلمذت على ما بقي في وجدان الناس منهم: الكلمات المغزولة برحيق القلوب الملتاعة بالهجران، وبلهفة انتظار اللقاء الموعود والسهر على شط النيل، أو السفر عبر الحلم إلى الهوى والشباب والأمل المنشود.
للصبا الوجه المورد بالخجل من الكلمات التي طالما هدهدت القلوب، أما العينان المشعتان بالذكاء فتهربان بالمعنى إلى أبيها الواقف كالديدبان على باب اللحن الأصيل، يذب عنه النشاز، ويغطي على الهفوات بترانيمه التي يختلط فيها الأذان بالقداس البيزنطي بالصبا الذي يجعلك تغني شجنك.
غنت ريم حتى ارتحل الجمع إلى مهجع الذكريات الحميمة، وتدفقت الآهات لتغطي المواجع، وعلت المطالبات بالاستعادة لعلها تهدئ الخفقان في الصدور وتطفئ تلك الالتماعة الفضاحة في العيون التي كاد يغشيها الهجران.
تعابثت الصبية التي كبرت في قلب النغم، فإذا بالرجال يهجرون وقارهم إلى النشوة، وإذا بالنسوة اللائذات بالذكريات الحميمة يتنهدن شوقهن إلى حياة في قلب »الآه«.
تضحك ريم، وتغض طرفها حياءً، لتطمئن الساهرين إلى ان أسرارهم في حرز حريز… ثم تباغتهم بأغنية منسية تنكأ الجراح التي توهموا ان الزمن قد شفاها، فيقومون إليها بمزيج من العتاب والاستزادة، ويضطر عبد الكريم الشعار إلى التدخل فيفسد متعة التذكر بسفر جديد في قلب الشجن الذي بات له الآن صوت مدوّ كالنسيان.
احفظوا هذا الاسم: ريم عبد الكريم الشعار… الصوت وراثة، أما الذكاء فهبة إلهية إضافية قد تنير طريق المستقبل أمام هذه الفتاة التي تعرف كيف تدخل القلوب صوتاً وصورة.

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا تأخذني الغيرة حين تطوق نظرات الاعجاب حبيبي، بل أشعر بالزهو لأنني »موضوعها«: لقد اختارني أنا، وهذا يكفيني.
أما حين تنهال عليّ كلمات الإطراء فأسارع إلى حضن حبيبي كأنما لأدل على مصدر جمالي… فلولا حبه لما انتبه إليّ أحد!
حبي هو الأصل في الجمال، والباقي تفاصيل إنسانية.

Exit mobile version