طلال سلمان

هوامش

عن كمال جنبلاط والعروبة والديمقراطية في… غدنا!
كنت يافعاً حين التقيته أول مرة، في دار المختارة، فبهرني بداية بتواضعه: سلوكاً ولباساً وصوتاً خفيضاً وابتسامة تلتمع بداية في عينيه قبل أن تضيء وجهه، ثم بقدرته على الجمع في الاهتمام بين بسطاء الناس المحتشدين في القصر ومن حوله، الذين شدتهم الشعارات المدوية بوعدها المثير: وطن حر لشعب سعيد.. وبين كبار القوم، في الداخل والخارج، من ساسة ومفكرين ودبلوماسيين، يجيئونه للتشاور او للاستنارة برأيه.
كنا نقطع الطريق الى قصر الست شمس، متسلقين درج الدار نفسها لنبلغ مدرسة المعارف الابتدائية الصغيرة تلك التي ألح المعلمون المعدودون فيها على تحدي أنفسهم وتحويلها الى تكميلية، فكافأهم كمال جنبلاط بتقديم القصر ليكون المدرسة.
كنا، نحن الفتية الآتي بعضنا من البعيد الى مدرستها الرسمية، نعبر متسلقين درج القصر، وقد غطته الشعارات التي لها في قلوبنا رنين: وطن حر لشعب سعيد، والعلم الأحمر تتوسطه الكرة الأرضية وقد تقاطع فوقها المعول والقلم.
كان قبو ملحق القصر الذي غدا الآن متحفاً قد تحول الى »سينما الشعب«، وكانت جريدة »الأنباء« أول طريقنا الى القراءة السياسية المباشرة، وكانت بالنسبة اليّ أول منبر يتاح لي أن اكتب بتوقيعي، وفي بريد القراء، بعض الخواطر الوجدانية التي استولدتها الشعارات والأعلام وموقع القلم عليها، خصوصاً أنني لست على علاقة وطيدة بالمعول.
وكنا نسمع ونردد الحكايات عن عادات كمال جنبلاط وتقاليده الثابتة وهو الزعيم، وقد كان آنذاك يعاني صدمة التحول الذي نقل كميل شمعون الذي بات بفضل الجبهة الوطنية الاشتراكية رئيساً للجمهورية من موقع الحليف اللصيق الى موقع الخصم الشرس…
كنا ننتظره عصر كل خميس وهو قادم من بيروت بسيارته المرسيدس السوداء، ونسمع انه مُنع من قيادتها لأن أفكاره قد تشغله عن الطريق.
وكنا نراه في الصباحات المشمسة لأيام الجمعة والسبت أحياناً وهو يضرب أرض الحديقة تحت القصر بمعوله، ووليد الطفل آنذاك يمسك بمعول صغير ويحاول أن يداري الشمس عن عينيه الزرقاوين بكفه اللدنة بينما تطارده مربيته السويسرية بالقبعة.
وكان يأتينا من يهمس في آذاننا أحيانا ان »كمال بيك« قد قصد »كوخه« في أعلى المختاره، تحت بطمه مباشرة، ليختلي بكتبه وأوراقه وأفكاره، يقرأ ويفكر ويكتب، فنحرج من رفع أصواتنا، مهابة، بوهم انها قد تزعجه!
***
من الصعب ان يتحدث جيلي عن كمال جنبلاط، السياسي والمفكر والكاتب والشاعر أحياناً، بلا عاطفة… حتى بين خصومه كان الإعجاب يخالط الاعتراض، وكان التقدير يحفظ للخصومة كرامتها، ذلك ان كمال جنبلاط كان صريحاً في خصومته او معارضته السياسية من دون إسفاف، وكان حاداً في رفض ما لا يقتنع به وقد يقسو على الحكام ممن يرفض مسلكهم او قراراتهم، ولكن اسلحة هجومه كانت دائماً سياسية يتجنب معها الانزلاق الى الطائفية او المذهبية او التشهير الشخصي. وكان كثيراً ما يلجأ الى الكاريكاتور في توصيف خصومه، ولكنه لم يصل ابداً الى رفض الآخرين ولم يخطر بباله ان يلجأ الى غير الكلمة والموقف في حروبه التي نادراً ما هدأت.
ولقد طال الزمن واستطال النقاش واستفاض حتى توقف كمال جنبلاط عن اعتراضه على استخدام السلاح في المواجهة السياسية… وحتى عندما سال الدم غزيراً، حاول اللجوء الى سلاح السياسة فقال »بعزل« حزب الكتائب كعقوبة سياسية، قد تمنع تحول الصدامات المحدودة، حتى يومها، الى حرب أهلية تذهب بالوطن وتضيع الأخوة الفلسطينيين عن طريقهم الى تحرير فلسطين.
في ربيع 1974 وعشية اصدار »السفير« ذهبت الى كمال جنبلاط في منزله أشرح له تصوري للجريدة الجديدة.
قال وقد أخذ بحماستي للعروبة: يا عمي، أقرن العروبة بالديموقراطية. شرط انتصار الفكرة العربية أن تتواكب فتتكامل مع الديموقراطية. إن الأنظمة التي رفعت شعار العروبة قد حكمت غالباً بالقمع فأساءت الى فكرة العروبة وشوهتها ونفرت الناس منها. صارت العروبة تشبه الحاكم الذي يدّعي تجسيدها والناطق باسمها، فنفر منه الناس.
وافقته بطبيعة الحال وذكّرت بتجربة جمال عبد الناصر فقال جنبلاط بشيء من الحسرة:
خسرنا بطلاً عربياً عظيماً، وفي تقديري ان نظامه قد قتله. ان عبد الناصر أرقى من نظامه كثيراً، ولكن نظامه كان لسنوات طويلة أقوى منه. لعله لم يتحرر من قيود النظام القمعي إلا بعد النكسة. لو كان نظام عبد الناصر ديموقراطياً لما توفرت لإسرائيل فرصة ذلك الانتصار الهائل الذي سيفرض علينا القهر لزمن طويل.
بعد صدور »السفير« اتصلت طالباً موعداً فقال: بل انا سأجيء لزيارتكم…
وجاء كمال جنبلاط فسمعنا منه امتداحاً لاتساع »السفير« للآراء المعارضة لنهجها السياسي. قال: هذه نبرة لبنانية تفيد العرب في تحركهم نحو المستقبل، لا تخافوا ممن يخاصمكم، الضعيف لا يخاصمه أحد.
وعلى امتداد السنوات الثلاث بين صدور »السفير« وغياب القائد الكبير كانت صلتنا به مستمرة: نسترشد بأفكاره، ونستمع الى وجعه وهو يندفع مكرهاً الى قبول مبدأ المواجهة بالسلاح مع الذين حاولوا ان يفرضوا سياستهم بالمدافع والسيارات المفخخة والقتل على الهوية.
***
يمكن القول بامتياز إن كمال جنبلاط هو شهيد الديموقراطية بامتياز، كما هو شهيد العروبة بامتياز. بل انه شهيد الغلط الذي أوقع التصادم بين شعار العروبة والديموقراطية.
وها نحن بعد سبعة وعشرين عاماً من الغياب نستمر في دفع ضريبة الدم الباهظة، نتيجة الافتراق بين الشعار العربي الذي رفعه الكثير من الأحزاب والحركات السياسية في ظل حد أدنى من الديموقراطية كانت تتمتع به في بلدانها ذات الأنظمة المدنية شبه الديموقراطية، وبين الممارسة القمعية التي لجأت اليها حين تسلقت الدبابة الى السلطة بذريعة حماية العروبة… في حين أن الدبابة التي حمت السلطة قد سحقت اول ما سحقت العروبة ومعها الديموقراطية بذريعة حماية النظام من أعدائه الذين تحولوا فجأة من حلفاء وأصدقاء بل ورفاق في العقيدة، الى عملاء للاستعمار والإمبريالية والصهيونية.
إن دماء كمال جنبلاط ترسم لنا الطريق الى الغد: فلا مقاومة للاحتلال الإسرائيلي ومشاريع الهيمنة الأميركية التي بات لها الآن عنوان ناصع مكتوب بالنجيع العراقي، إلا بإعادة الاعتبار الى العروبة لتكون حركة بناء الغد…
وإعادة الاعتبار تقضي أول ما تقضي بإنهاء الفصل التعسفي بين الديموقراطية والعروبة.
ان العروبة الآن في المعارضة… معارضة في الشارع لنظم الطغيان، ومعارضة مقاومة للاحتلال الأجنبي، لا فرق بين ان يكون أميركياً او اسرائيلياً.. وليس جديداً الاكتشاف ان الطغيان حليف موضوعي للاحتلال، يمهد له ويحميه، وان الاحتلال حليف موضوعي للطغيان يرعاه ويزينه للناس ويحميه.
وبين المزايا النادرة لهذا النظام اللبناني ان بقية من ديموقراطية فيه، بفضل التنوع، قد وفرت مناخاً صحياً لمقاومة الاحتلال الصهيوني، بالسلاح كما بالعقيدة والصمود الشعبي… وهكذا تضم قوائم الشهداء مجاهدين من حزب الله وحركة امل كما من الحزب الشيوعي والحزب القومي والحزب التقدمي الاشتراكي وحزب البعث وتنظيمات أخرى تؤمن بأرضها وبشعبها.
ان كمال جنبلاط يسكن في الديموقراطية وفي العروبة وفي الشعار الذي استذكره بهياً مكتوباً بالأحمر على مدخل »سينما الشعب« في المختارة التي تعرفت فيها وعبر العلم الذي يتقاطع فيه المعول مع القلم، إلى كل لبنان: وطناً حراً لشعب سعيد.
لنواصل المسيرة نحو كمال جنبلاط الذي ينتظرنا في غدنا، غد العروبة والديموقراطية والتحرر.
(*) كلمة ألقيت في الندوة التي اقامتها حلقة الحوار الثقافي في قاعدة نزار الزين كلية الآداب في الجامعة اللبنانية، إحياء لذكرى كمال جنبلاط

»الفلاح« يعود إلى الحكاية
صار »الفلاح« في بلادنا بطلا اسطوريا يسكن الحكاية، ولا يخرج منها إلا في جلسات السمر التي تستذكر الأجداد.
ما تزال الارض معطاء، ولودا، تمنح خيرها لمن يمنحها عرق الزنود والجباه. لكن »الفلاح« هو الذي غاب. لم ينجب »الفلاح« فلاحين، كما كانت الحال مع آبائه واجداده. لعله قد انجب مهندسين وقضاة ومحامين ومعلمين، لكنه لم يستطع ان يقنع ابناءه بأن الارض هي مصدر الخير الذي بفضله دفع تكاليف تعليمهم.
اختفت من أريافنا صورة ذلك الرجل الخشن الكفين الذي، بنظرة واحدة، يدرك هل الطقس مائل الى الصحو ام ان الخير مقبل مع المطر، والذي كان يعرف طريقه خلال الليل بقراءة النجوم، والذي كان يقدّر من خلال حفنة من التراب أي الزراعات ستنجح هنا وايها لن ترد بذارها.
اندثر ذلك الفلاح الذي كان يملأ كفيه بالبذار، ويمشي وراء »الفدان« ينثر الحب، ومن خلفه زوجته وبعض ابنائه، يساعدونه ويتعرفون على الارض بترابها وحصاها، يعرفون مواقع الماء، وينادون على ابقارهم وكلابهم بأسمائها، ويدللونها ويطعمونها احيانا بأيديهم… فاذا جاء زمن الحصاد هبوا جماعة، يحصدون سنابل الخير وينقلونها الى البيادر، ويتزاحم الصبية على »المورج«، وقد يلعبون مع اترابهم وتكون اكوام غلال الخير هي المخبأ، فتنضح اجسادهم وثيابهم التي لا يملكون غيرها بعطر القمح وشميم الارض.
امس، مات آخر فلاح اعرفه في قريتي. كان وجهه وكفّاه بلون الارض. ولست اذكره الا في الارض ومعها. يغرس بيديه، ويحضن التراب كما يحضن صغاره، ويسقيه من عرق التعب ونور العينين، ثم يستظل شجرة ويغفو برهة، قبل ان يعود الى ارضه يستمد منها معنى العمر وتورّد الخدين وديمومة الشباب.
وفي الاصل كانت اغنية عبد الوهاب »محلاها عيشة الفلاح« مزورة.
أما الآن فقد غاب المعني بالاغنية التي لم يسمعها وان كان قد غنى لارضه الحانا اجمل وسمع منها الحانا جعلت قلبه طافحا بالحب بقدر ما كانت ارضه طافحة بالخير.

تهويمات

قالت العاشقة: حين يأخذني حبيبي بين ذراعيه تعصف بي النشوة وأتمنى لو يعتصرني حتى اذوب فيه فأصبح بعضه..
قالت المعشوقة: أما حين يأخذني عشيقي بين يديه فأكافح حتى احفظ مسافة فاصلة كي لا يأخذ كل ما يطلبه مرة واحدة، ولكي اظل خارجه، اعطيه بمقدار. لو شبع لما رجع.
قالت العاشقة: ليس في الحب حساب.
قالت المعشوقة: أما في العشق فكل شيء بحساب.
قالت العاشقة: اعطيه كي تكتمل ذاتي. ليس لي من غيره اكتمال.
قالت المعشوقة: أما في حالتي فالنقص يولد الحاجة، والاكتمال يعني نهاية اللعبة. اذهبي الى اكتمالك ودعيني العب في الدائرة التي اريدها مفتوحة أبدا ليكون منها مخرج نجاة.

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب مطلق. إنه كالنور، لا يمكن ان تحدده او تحد منه. انه كالهواء، ان حاولت محاصرته تحول الى طاقة هدم.
حبيبي يحاصرني بحريتي.
ما أحبَّ هذا الحصار، ما أقسى هذا الحبيب.

Exit mobile version