طلال سلمان

هوامش

»نظر« اللباد فهتف: »سقى الله أيامهم زمان«!

وحده محي الدين اللباد يستطيع ان ينجز مثل هذا العمل الثقافي المؤسس والحافظ لتاريخ الفن الجميل الذي »يتلاشى« فيترك فراغاً مفزعاً في الصحافة العربية، ولعل بين اسباب غيابه ان حياتنا، بعناوينها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، قد تجاوزت حدود »التنكيت والتبكيت« فصارت لا تثير غير الشجن والشعور المحض بالانسحاق.
وحده الفنان التشكيلي رسام الكاريكاتور المصور المخرج الكاتب محي الدين اللباد يستطيع ان ينجز مثل هذا العمل الذي يحتاج الى كتيبة من الفنانين، بصبر الجِمال ودأب النملة، والاستماتة من اجل انتظام العلاقة بين عين القارئ، وعقله، وتعزيز الوعي بالذات عبر معرفة الآخر (على حقيقته) من دون استصغار شأنه هو، ومن دون الاستنكاف بحجة اننا قد تأخرنا اكثر مما يجب، ولم يتبق علينا الا ان نلتحق بالآخر وبشروطه ومن موقع دوني مهني…
ولانه وحده، ولانه ينفق على عمله الممتاز من عرق جبينه فمن البديهي ان يقدم له بجملة تقول: »مضت سنوات حتى استطعنا تدبير هذا اللقاء الثالث… ارجو منكم قبولاً، وآمل في لقاء رابع«!
اللقاء مع »نظر« وهي مطبوعة غير دورية متخصصة بكل ما يدل عليه اسمها من معان، اختار اللباد ان يكثفها في بيت شعر من قصيدة للاخطل الصغير غناها محمد عبد الوهاب ومن بعده علي الحجار: »ان عشقنا فعذرنا ان في وجهنا نظر«.
في »السفر« الثالث من »نظر« مجموعة هائلة من الموضوعات ذات الاهمية الخاصة بينها على سبيل المثال لا الحصر: اعادة تعريف بالكاريكاتور الاستعماري، بدءا من دور مجلة »بانش« 1841 البريطانية التي صدرت تقليداً لمجلة »شاريغاري« التي اصدرها في باريس رسام الكاريكاتور شارل فيليبون، عدو الملكية اللادود… وقد واكبت »بانش« مراحل التاريخ الاستعماري البريطاني في البلدان العربية والافريقية والهند، واقترنت فيها المهارة والصنعة المحكمة بالكثير من الكراهية والاحتقار والاستهانة والتعالي والمشاعر العنصرية تجاه اهالي المستعمرات.
ولكي يكتمل السياق يعرض اللباد لمنجزات الآلة الاعلامية الاميركية وهي تخوض ضدنا حملات الدعاية المخططة عبر آلاف محطات التلفزيون، اشهرها C.N.N.، هذا قبل ان تبدأ قناة »العربية« عملها في غسل عقول العرب تحديداً لكي يتقبلوا التلازم بين الاحتلال والديموقراطية، وبين نهب بلادهم تحت لافتة اعادة توزيع الثروة بعدالة، وبين الانتخابات والفتنة العرقية والطائفية.
بالمقابل يعرض اللباد للكاريكاتور السوفياتي في نسختيه: المشرقة، مع بداية الثورة، حيث انخرط لينين نفسه في هذا العمل بنفس تبشيري فأنشأ مجلة »كروكوديل« لتكون الى جانب مجموعة من المجلات التي اعطت للثورة وجه فتاة شقراء، قرمزية الشفتين، متوردة الخدين، ذهبية الشعر، تتفجر صحة… قبل ان يقضي عليها ستالين جميعا.
بعد ذلك ينتقل اللباد، بأناة واستقامة، الى تعريفنا بفن الكاريكاتور العربي ورموزه المضيئة، خصوصاً وقد استقر بعضهم في اوروبا (فرنسا خاصة)، في حين رحل بعض الرواد الكبار، وصارت »الاخبار« اكثر مأساوية من ان يعبر عنها بالسخرية.
يعرفنا اللباد الى الجزائر في كاريكاتورها الذي يتميز بحداثة وألمعية ومهارات حرفية ومعرفية متينة لأصول المهنة، بحيث يقتربون من ان يكونوا الجيل الثاني لمدرسة »صباح الخير« التي كان صدورها عن دار »روز اليوسف« في القاهرة سنة 1956 ثورة في عالم الصحافة بالانفتاح على الافكار الشابة والابداعات الشابة والاجيال الشابة.
يحدثنا اللباد عن »الجيل الاول« في الجزائر: سليم، هارون، حنكور، ايدر، ملواح، مازاري، لقمان، ميميد، بندين، ديليم، معمري، حليم وآيت حمودي.
ويتوقف اللباد طويلاً امام »بطله« الكاريكاتوري المفضل »سليم« وامام بطله »بوزيد« الذي ابتدعه كشخصية طريفة لمجلة الاطفال »مفيدش«.
كذلك يكشف لنا ان الرسام »العالمي« المعروف »ماك« هو عربي من الرياض اسمه الكامل محمد احمد خنيفر.
وحين يعود اللباد، بعد جولة واسعة على المبدعين العالميين، فإنه يعرفنا الى »اول من فتح سكة الاحتراف امام الكاريكاتور« في مصر وهو الرسام الاسباني المتمصر خوان سانتيز، وقد باشر في »الكشكول« حملة ضارية على سعد زغلول وحزب الاغلبية (الوفد) لكنه سرعان ما »اهتدى« بعد رحيل سعد فأسس مجلة »جحا« بالفرنسية… وقد واجهته »روز اليوسف« فلما تم تعطيلها اصدرت »الصرخة« لتواصل المواجهة.
بعد ذلك يباشر اللباد مهمته النبيلة في التعريف بالكبار من اقرانه، اساتذة وزملاء:
يروي حكاية جورج البهجوري الذي ولد مرتين: »الاولى في الاقصر والثانية في باريس«، فبعد 15 سنة من العمل الدؤوب في »روز اليوسف« و»صباح الخير« سافر البهجوري الى باريس وبقي فيها »صعلوكا« يواصل الرسم على الورق والكرتون والجدران والابواب، ويحرك يده فيرسم »في خط دائري يكاد يكون متصلا بلا انقطاع، متعرجا وملتفاً ومتموجا بادر الانكسارات والزوايا«… وقد كتب جورج سيرته الذاته: »بهجر في المهجر« و»تيتي الحديد« وهما اسمان لفرعون مصري قديم…
اما »الواد بهجت« فيرسم كاريكاتوره ببساطة آسرة وبخطوط اقتصادية اقرب الى التقشف…
…واما احمد حجازي فقد ترك القاهرة لأصحابها وعاد ليعيش في »وطنه« الاول، طنطا، التي كان تركها منذ نصف قرن، كما ظل طوال الوقت يترك اشياء كثيرة: فرصا واموالا وامتيازات وجوائز واصدقاء وزملاء ونساء وكتبا وكراسي وملابس ومكاتب الخ«…
ويحدثنا اللباد عن ايهاب شاكر الذي رجع الى صباه، فأبدع قصصا مرسومة للاطفال بينها: حكاية الاراجوز، و»سميرة« التي وضعها المجلس العالمي لكتب الاطفال على قائمة الشرف.
يعرفنا على حسن فؤاد الذي »انضم الى كتيبة صباح الخير العام 1956. كان الكوكب صلاح جاهين، ونجومها بهجت وجورج ورجائي، والاربعة قاهريون، ثم انضم اليهم حجازي الطنطاوي«
وقد لعبت هذه »الكتيبة« دورا مميزا في »هجاء البيرقراطية الرجعية التي تولت بناء الاشتراكية، وكشف غياب الحريات، ونقد الذات حتى الايلام بعد هزيمة 1967، ونقد سياسة الانفتاح والفساد في عصر السادات، ثم الصلح مع اسرائيل واتفاقاته الخ…«
يتوقف اللباد في استعراضه التاريخي امام حسين بيكار، الرسام الذي ابدع سندباد مجلة الاولاد في جميع البلاد«.. والرجل الذي سيغير حياة اللباد: »منذ تلقيت رسالة بيكار، صباح الاربعاء الاول من كانون الثاني 1952، لم اعد الشخص الذي كنته قبلها، ولم تعد الحياة ما كانته قبلها.. ولا بد ان رسوم بيكار اسقطت، في ذلك اليوم، لدي ولدى اترابي، استارا كانت تحول بين بصرنا وبصيرتنا وبين الكثير داخل نفوسنا وفي اعماق ذاكرتنا الفردية والجماعية«.
ويصف اللباد حسين بيكار بأنه الرجل الذي حدد له المسار الذي سيختاره لحياته و»شيخي وهو استاذي الفعلي«.
اما عبد الغني ابو العينين »طبّاخ الأسود والابيض والاحمر الماهر« والذي يسميه اللباد »ذو العينين« فله الكأس المعلى: »كم علمتنا وعرفتنا وأدهشتنا وحرضتنا وامتعتنا ب روز اليوسف وصباح الخير في ايامهما الكبرى«.
يقول اللباد عن »ذي العينين«: »أجاد توظيف رسوم صلاح جاهين والبهجوري ورجائي وايهاب، كما ابتكر للصحافة الاسبوعية صفحتي وسط جديدتين، احتل اغلب مساحتهما رسم منبسط للرسام الشاب جمال كامل بالريشة والخبر مصورا قصة او فصلا من رواية لإحسان عبد القدوس.. وبعد ان درس الفنون الجميلة عرج ابو العينين على مدرسة تحسين الخطوط المصرية ليدرس الخط العربي مسجلا بذلك اهمية لم تكن واضحة بعد لدور الخط في التصميم الغرافيكي العربي… وصمم ابو العينين بنفسه كثيرا من اساليب الخط العربي الحديثة ذات الطابع الشخصي المتحرر من القيود السلفية، باقتدار وعلم الخطاط العارف الواثق وبالذوق الرفيع لمثقف ملم بثقافة العالم الصناعي المعاصر في منتصف القرن العشرين«.
»سقاها الله أياما جميلة« هكذا يهتف اللباد وهو يكتب سيرة عبد الفتاح الجمل، الذي أسس جريدة »المساء« وملحقها الادبي والفني الاسبوعي… الذي التقى من حوله جيل ونصف من الشباب والكهول وتعرف كل منهم إلى الآخرين: يحي الطاهر عبدالله، محمد البساطي، امل دنقل، عبد الرحمن الابنودي، سيد حجاب، سيد خميس، جمال الغيطاني، محمد القليوبي، سليمان جميل، عبد الرحيم منصور، ابراهيم اصلان، صلاح عيسى، سامي خشبة، غالي شكري، مختار الجمال، محمد البخاري، احمد فؤاد سليم، الدسوقي فهمي، محمد جاد، خيري شلبي، عبد الحميد سعيد، احمد الحضري، نبيل تاج، محمد عثمان… ومحي الدين اللباد«.
سقاها الله أياما جميلة، يا عم محي الدين..
اما في أيامنا فنقول: لنا الله… ولأن »في وجهنا نظر« فإننا نهرب من بشاعة ما هو امامنا ملتفتين الى الخلف، لكأن مستقبلنا وراءنا، هل هذه هي الطاقة الكبرى، ام علينا ان ننتظر بعد… وهل ضرورية الاشارة الى ان ما اصاب الفن عموما، والكاريكاتور خصوصا، هو أقل بشاعة وتدميرا لما اصاب السياسة والاقتصاد والثقافة؟!

حوار في لغة الماضي

انتبه فجأة الى ذبول اصاب كلمات صديقه الحميم… سأله فلم يرد بل دار بعينين في سماء الغرفة وصمت.ألح عليه، وأكد له انه لن يتركه حتى يفهم.. فنبر الصديق:
لقد شحب المعنى في كل ما يقال بينها وبيني..، وبالتدريج أخذت الهمهمات وهزات من الرأس وبعض الايماءات تكفي بديلا من الحوار. عادت اللغة المشرقة باللهفة الى القمقم المحبوس في قلة الذكريات. لم يعد للحكاية سياق فباتت نتفا من التصورات المطعمة بشيء من التمني. هجعت الكلمات المنداة بالبهجة والفرح. بالمواعد التالي. لا يعيش الحب في الذاكرة، تعيشه او يهرب منك الى القادر على حمله.
ولكنها على سن قلمك فلماذا لا تكتبها؟!
قال: صار القلم قمقما يسكنه الجن. ما ان أمسك به حتى يأخذني الجني الى مداه، مسقطا عن سنه ما كان يهم بأن يقوله صار الحديث عبئا على الجلسة والجليس: أين تلك المرأة التي كانت تقرض الشعر وتنثر العطر وتستولد الآهات في صحراء الشوك والملل واليأس. أينها تلك قيل انها »الف امرأة تزدحم في جلباب يتسع لديوان الجاهلية وللحب المنثور غزيرا لعله يشبع الحمام البري«؟
سأل صاحبه: ألم تعد هي »من تعيد تجميع الرجال حرفا حرفا وتبعثر النساء كلمة كلمة، تنبت زنبقا في البيداء وتزرع البحر فلاً وأشجار ياسمين«؟!
قال بغضب: انت تنكأ جراحي..
قاطعه صاحبه: بكلماتك…
قال: لقد نسيتها، وأسقطت من ذاكرتي لغتها.
ولكنها لغتك..
قال مختتما جلسة التشكي: تستولد المرأة لغة الرجل. امرأتي خرجت من الشعر ولن تعود… فكيف استعيد لغتي؟

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
الحب يعيد »صياغة« الانسان. تذهب الى حبيبك مغضباً فيهدئ بصفائه من سورة غضبك، تذهب اليه يائساً من امكان تغيير الحال البائس الى الافضل فيمدك بالأمل، وتذهب اليه بالشكوى من الناس فتعيد اليك ثقتك بالناس. حبيب واحد يغير العالم… أقله عالمك.

Exit mobile version