طلال سلمان

هوامش

كلوفيس مقصود يجمع أيدي سبأ.. والبديهيات!
تتوالى حفلات تكريم الأحياء من المبرزين في مختلف مجالات العطاء بحيث يثبت في الاذهان ان اللبنانيين شعب من العباقرة والمبدعين.
ويتبادل أهل الكلام المواقع فيقوم الى المنبر بعضهم ليقول في المحتفى به بعض ما يستحقه مشفوعا بجملة من الآراء في السياسة والاقتصاد والفن، مما يؤهله لان يكون في حفل آخر موضوع التكريم والمستمع الأساسي لكلمات التأبين والمواساة السابقة على إعلان.. الوفاة!
قبل حين ارتفعت أصوات تطالب بتكريم كلوفيس مقصود.
تحرك بعض الاصدقاء وبعض الأهل وبوشر بخطوات تمهيدية للاعداد لحفل يتجاوز الخطابة الى الدراسة ومناقشة التجربة.
ثم كان أن سبق »ديوان أهل القلم« الى قاعة الاحتفالات في اليونسكو، ومعه جمهرة من الخطباء بعضهم باسم الصداقة او المعرفة الشخصية الوثيقة، والبعض الآخر بحكم الزمالة والعلاقة المهنية.
وجمعت »المناسبة«، ولو لوقت قصير، بعض الذين كانوا رفاق سلاح او أصدقاء عمر وشركاء في الطموح ثم تفرقوا أيدي سبأ، هذه بطاقة انتساب الى »أيدي سبأ« او الديناصورات الشهود على الزمن الجميل الذي انسحب من دنيانا الى الذكريات.
* * *
في أواخر الخمسينات بدأت أتلمس طريقي الى الصحافة والكتابة وأحاول التعرف الى العوالم المسحورة للافكار العظيمة القابلة للتحول الى عقائد ثم الى تنظيمات وأحزاب تطمح وتسعى الى تغيير الكون بالارادة والعقل والعمل والوعي بحق الانسان في اصطناع غده الافضل.
في تلك الفترة بالذات تعرفت الى كلوفيس مقصود فافترضت انه النموذج للمثقف، بقدرته على إثارة النقاش، ولو هزم فيه، وطرح الافكار السامية ولو بلغة صعب فهمها على جمهور السامعين، وتقبله لآراء الآخرين ولو تبدّت »معادية« تماما لطروحاته.
كان وعينا يتفتح على الافكار العظيمة التي تعيد صياغة الكون، كالاشتراكية بطبعة منقحة عن الشيوعية التي كان الغرب قد نجح في تقزيمها والتشهير بها في أوساط عامة العرب والمسلمين، عن طريق دمغها بالكفر والإلحاد وهدم الأسرة والسماح بأن يتزوج الأخ أخته في مجتمع يعتبر الدين أفيون الشعوب.
وكانت الحيرة تتملكنا ونحن نحاول التوفيق بين القومية وبين الاشتراكية، وخصوصا ان الجيل الذي أخذنا عنه الفكر القومي كان أقرب الى نمط الحياة الغربية وقيم او مفاهيم المجتمع السياسي الغربي، وكان ينظر الى الاشتراكية على أنها ضد الديموقراطية خصوصا والحريات عموما لا سيما حرية الفرد… بينما كانت البيئة الدينية ترى فيها اعتراضا على العزة الالهية، وإعادة غير مغفورة لترتيب الناس على الدرجات.
وقدم كلوفيس مقصود، بشخصه كما بكتاباته ومناقشاته، محاولة للمزاوجة بين هذه التوجهات جميعا، ولعله لهذا وجد في الحزب التقدمي الاشتراكي ملاذه السياسي وفي مؤسس الحزب كمال جنبلاط قائد البدايات.
ولم تكن مصادفة ان تحتل الهند، هند غاندي ونهرو وحزب المؤتمر والاشتراكية الهندية ومدرسة التغيير باللاعنف وبالمقاومة السلبية مكانة متميزة في تفكير جنبلاط وفي عواطفه، ثم في تفكير تلميذه، كلوفيس مقصود.
ثم لم تكن مصادفة ان تشد تجربة جمال عبد الناصر في قيادة حركة الامة العربية نحو الوحدة والتقدم، كمال جنبلاط والكثير من رفاقه وفيهم كلوفيس مقصود، من ضمن الحشد الفخم الذي أيقظته الثورة العربية في مصر فسعى اليها سعيه الى اكتمال اليقين.
كانت دولة الوحدة التي قامت في بدايات العام 1958 قد جسدت الاماني القومية الغاليات في اجتماع العرب في دولة واحدة.
ثم كان أن قيادة هذه الدولة العظيمة الاحلام الفقيرة الامكانيات، الكثيرة البشر، التفتت الى نوع من الاشتراكية بدايته تأميم المصالح الاجنبية الكبرى، وبين محطاته اعادة توزيع الثروة الوطنية التي كانت تحتكرها قلة من ملاك الارض وأصحاب رأس المال على جموع مواطنيها، مع تخصيص العمال والفلاحين بمكانة مميزة في اعادة تركيب المجتمع الجديد.
وكان في هذه التجربة اضافة الى غناها الذاتي كل من وما أحبّه كلوفيس: هند نهرو ويوغسلافيا تيتو وبعض صين شوان لاي وبعض كوبا كاسترو وغيفارا.. كل باندونغ وعدم الانحياز، ثم التجربة العملية وعلى الارض لما سمي الطريق العربي الى الاشتراكية، ومحاولة التوفيق الاكثر جدية بين الاسلام والعروبة والاشتراكية وهكذا انتمى اليها كلوفيس مقصود بالوعي كما بالرغبة والايمان بقيادة جمال عبد الناصر.
وعرفنا في كلوفيس الحزبي حامل رسالة الاشتراكية العربية في بيروت.
وعرفنا الدبلوماسي حامل رسالة الصداقة العربية مع بعض أعرق ديموقراطيات العالم الثالث في الهند.
ثم تعرفنا الى الكاتب والزميل الصحافي في »الاهرام« تحت رئاسة الاستاذ محمد حسنين هيكل في أعقاب هزيمة 1967.
كان في كل الامكنة وفي كل الازمنة لا يتعب من التبشير.
وبقدر ما كانت »الاهرام« في تلك الفترة صوت عبد الناصر بقلم هيكل والداعية الى العروبة والى الاشتراكية والى المقاومة والعودة الى ميدان التحرير، فقد كان بيت كلوفيس مقصود حبة العقد في لقاءات المثقفين العرب والصحافيين الاجانب والدبلوماسيين والخبراء الذين يجيئون ليطمئنوا الى عبث المحاولة فتصدمهم جديتها والاستعداد الفعلي لمعركة استعادة الحقوق المضيعة والكرامة المهدورة.
لقد أخذ كلوفيس مقصود عن اساتذة كبار وتعلم منهم وبشر بالمبادئ التي كانوا يعملون لتحقيقها: من كمال جنبلاط اللبناني الى جواهر لال نهرو الهندي، ومن جوزيب بروزتيتو اليوغسلافي الوحيد الى شوان لاي المليار صيني، ومن احمد سوكارنو الاندونيسي الى موديبو كيتا وأحمد سيكوتوري وباتريس لومومبا بشائر ولادة افريقيا الجديدة.
ورأى كلوفيس مقصود نفسه جنديا تحت قيادة عظماء وبالذات منهم: جمال عبد الناصر ثم بعد غيابه حافظ الأسد، من غير ان ننسى رفاق الدرب أمثال كمال ناصر وأبو يوسف النجار وأبو جهاد الوزير وزكي الارسوزي وقسطنطين زريق وميشال عفلق وجورج حبش وسائر الرواد الشهداء.
فكلوفيس مقصود ملخّص مكثّف لأفضل ما في جيلين او ثلاثة اجيال من المحاولات الرائدة والشجاعة لفتح أفق الغد، بالفكر والايمان والتجربة.
انه بريء الى حد السذاجة، عنيد كالمؤمنين الاوائل، وبرغم انه جاب العالم كله شرقا وغربا، فرافع ودافع وهاجم وتصدى وتراجع بغير ان يرفع الاعلام البيضاء، الا انه لم يسلم وها قلمه بيده يعوض به نور عينيه.
ولقد عرفنا كلوفيس مقصود السفير العربي لدى الاميركيين. يحاول تخطي الوضع الملتبس، ويتجرع مرارات التهالك في الصف العربي، ويحاول التمويه على الاميركيين بأن العرب موحدون، وعلى الاسرائيليين بأن العرب عائدون الى القتال.
وبرغم ان احدا لم يصدقه الا انه ظل يعاند واستمر في المحاولة حتى يومه الاخير في الوظيفة، وها هو مستمر بعدها!
وقد زاده انتصار لبنان بالمقاومة على الاحتلال الاسرائيلي إيمانا فوق ايمانه، ولن نزيد من مكانته اذا أضفنا الى صفاته كلمة »المجاهد« فهو فيها قديم، وإذا لم يكن القتال من اجل القضية الحق كل هذا الدهر جهاداً، فكيف يكون الجهاد؟!
ها هو ذاته بعد أربعين عاما: ابن الشويفات المتحدر من وادي شحرور وبالعكس صهر بيروت وطرابلس، المفكر القومي بين الاشتراكيين، المقاتل بين الدبلوماسيين، الفلسطيني بين العرب، العربي بين الفلسطينيين، المصري الجزائري المغربي، اليمني السوداني التونسي (حتى من قبل ان يعرف صديقنا الكبير الشاذلي القليبي) الخليجي، العراقي السوري واللبناني كأعرق الفينيقيين.
فكلوفيس مقصود هو الصديق الذي يحفظ على البعد الود ويرمي أحقاد الآخرين في المحيطات الواسعة.. وقد اكتمل ديناً ودنيا بالسيدة المناضلة هالة سلام مقصود، اذ كان الداعية وكانت »الفدائي«،
وكان الكاتب، الخطيب، المناقش، الشارح، المحاور، وكانت التظاهرة المقتحمة، المقاتلة بوعي وبمعرفة دقيقة لأصول القتال في بلاد الغربة، وخيمة القضية.
فحيثما حلت هالة كانت التأكيد الحاسم والبهي لحضور المرأة العربية كصاحبة قضية، وارتقاء مستوى الوعي القومي عندها بحيث تعرف أصول القتال لكسب المحايدين ومحاصرة المعادين وإقحام مزوّري التاريخ والمزواجين بالغصب بين الخرافة التوراتية والجغرافيا الانسانية.
… استنفد الخطباء الكلام، وعاد كلوفيس مقصود الى صمت الغربة، يحاول التأسيس لجيل غربي جديد يعرف عنا اكثر ويكرهنا أقل…
اما نحن فصامدون في غربة الصمت والوجع والعجز عن التلاقي!

المرأة تخرج من السيدة
على غير توقع خرجت »المرأة« من ثوب »السيدة« التي اكتشفت، في لحظة نشوة، انه يحبسها ويكاد يطمس أنوثتها فيلغيها.
هي كلمة واحدة من رجل واحد »هبط« على الجلسة التي كان يحتشد فيها جمع من »السادة« الرصينين يباري بعضهم بعضا في إثبات العلاقة بالرجولة عن طريق رواية النكات الجنسية الخارجةعلى الرصانة.
لا هو كان آتيا اليها، ولا هي كانت تطلبه او تبحث عنه.
لكن الليل والنبيذ والضجر وتثاؤب السادة المتعبين وحكايات السيدات التي لا تنتهي برغم انها تبدأ من خارج النص وتنتهي بغير خاتمة، كل ذلك معاً وفّر لهما شرفة للسمر والتشاكي والإلحاح على الحاجة الى رفيق، قلبه في أذنه.
انفضّت الجلسة، لكن كلاً منهما وبتواطؤ شبه مكشوف وجد عذرا للبقاء، مستدرجا »رفيق سفر«، على الأقل، لان ينتظره حتى لا يرجع وحيدا.
تثاءب الوقت، وطاف النعاس بالمكان فامتص رحيق الحكايات الطريفة، ودفع من تبقى من السامرين الى الباب، ثم وزّعهم على سياراتهم عبر العتمة التي سرعان ما بعثرتها أضواء الانطلاق عبر الحكاية الجديدة.
قالت: لا أظنك تحتاج دليلا الى منزلك.
رد محنقاً: ولا إلى منزلك.
قالت وهي تنطلق: نلتقي على حافة الضياع، فان توغّلنا فيه لم نعرف كيف نخرج منه.
حين أغلق على نفسه باب سيارته تلبّث دقائق في قلب العتمة والقلق، ثم أضاء النور ليتبيّن طريقه، وضغط شريطا لأغنية يحبّها، تمنّي النفس بوعد اللقاء بعد انتظار، قبل ان ينطلق في اتجاه الشاطئ. قال لنفسه: البحر مصدر لصفاء الفكر والقلب.
انتبه الى العديد من السيارات عند الرصيف، تلهث فيها الاعترافات الحميمة، فترمي المارة بعبق مندّى بفرح اللقاء خارج المكان والزمان.
تمهّل في سيره وهو يفكر: أتراها تنتظره هنا؟!
أخذته المفاجأة حين لمح، عن بعد، تلك السيارة المفردة، فقدّر انها لها، وانها فيها، وانها سمعت النداء فانتظرت.
قاربها، بلا صوت، كمن يريد ان يباغت صديقا من حيث لا يتوقع، ومد جسمه ليفتح الزجاج المقابل »لسيارتها«، لكن يده لم تكمل المهمة، وإنما ارتدّ كله خائباً واندفع بسيارته بأقصى سرعة حتى لا يسمع شتائم من أفسد عليهما »الخلوة« في ذلك المكان العام الذي يجعله الليل مثوى ومأوى لمغامرة محكومة بأن تنتهي قبل الشعاع الاول لليوم الجديد.. يوم الآخرين.

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
من نعم الله علينا ان الحب يتجاوز الطبقات والطوائف والمناطق والاعراف السائدة. لو انه توقف عند كل من هذه الحواجز لمات الورد، وانتحرت النجوم، وانقلب البشر الى ما دون الحيوان. الحب أعمى؟! بل قل انه أقوى من كل الذين يحاولون إطفاء نور عينيه بأموالهم أو بأحقادهم، ويحفظ لنا انسانيتنا.

Exit mobile version