طلال سلمان

هوامش

عن أشتات صاروا مجتمعاً ومرفأ صار دولة: سنغافورة
قالت لنا »روزي« الهندية الأصل، الآتية من سيريلنكا، والمتزوجة من رجل صيني، والمعتزة بكونها وزوجها مواطنين سنغافوريين: سنتناول الغداء معاً في مطعم قائم في أعلى بناية في هذه الجزيرة، وسيمكنكم منه أن تشاهدوا وتتعرفوا إلى بلادنا كلها، بشرقها وغربها وشمالها والجنوب.
لاحظت دهشتنا فأضافت ضاحكة: .. وستشاهدون، أيضا، وبلا مقابل، أطرافاً من بعض الجزر الأندونيسية وبعضاً من البر الماليزي.
رقينا إلى المطعم الذي يشكل القمة للمبنى الأنيق، وجلنا عبر زواياه نمتع الطرف بتفاصيل الجزيرة التي تغطيها الخضرة حتى توقفها وتبتلع مدى الرؤية زرقة البحر، فتبدو وكأنها مشحة ربيعية في قلب المحيط الممتد حتى تختلط زرقته الرمادية بالرماد الأزرق للفضاء البعيد.
هذه أندونيسيا، قالت »روزي«، وهي تشير بسبابتها إلى »البر الثاني« القريب، في الشمال الشرقي..
كانت أطراف البر الأندونيسي ظاهرة تماما، لا تبعد أكثر من ميل واحد!
عندما انعطفنا وطالعنا »البر الثالث« قالت »روزي«: وهذه ماليزيا، أقصد بعض أطرافها. تعرفون أننا كنا وماليزيا في وحدة سياسية داخل دولة واحدة، لكنها لم تعمّر أكثر من سنتين، فوقع الانفصال وصرنا دولة مستقلة.
مستقلة؟!
هذه الجزيرة التائهة وسط مجموعة من الدول الكبرى، جغرافياً، والتي تتركز فيها مجموعة من المصالح الضخمة لدول عظمى وشركات عملاقة، اتخذت منها مقراً ومنطلقاً ورأس جسر، مفيدة من موقعها الجغرافي الممتاز كنقطة وسط، ومرفأ حديث التجهيز.
كيف يكون الاستقلال يا روزي؟
إننا دولة صغيرة. نحن نعرف حجمنا، ولذا فإننا نهتم بالتجارة والسياحة أكثر من اهتمامنا بالسياسة. لماذا الادعاء الفارغ بدور لا نستطيع الوفاء بالتزاماته ولا تحمّل أعبائه؟!
لماذا لا نعترف بالحقائق… السياسة باتت احتكاراً للأقوياء، والأقوياء قلة قليلة، تكفي لتعدادها بعض الأصابع من يد واحدة!
ما هذه الحكمة، يا روزي؟
ضحكت السيدة الغامقة السمرة، وهي تضيف بشيء من الحبور: إننا تجربة فريدة في بابها، أليس كذلك؟! في بلادكم، حسب ما أسمع، تهتمون كثيراً بالسياسة، ولعل السياسة قد ضيّعتكم! أما نحن فلا أحد يهتم بالسياسة، ولا أحد يريد أن يعمل في حقولها ذات الألغام!
ولكننا نسمع عن انتخاباتكم، وعن الحزب الحاكم في بلادكم، والموجود في السلطة منذ نحو أربعين عاماً…
قال الموظف الدمث المعني بأمور الصحافة والإعلام: لعله باقٍ لأنه لا أحد غيره يريد التورط في العمل السياسي وفي تحمّل المسؤولية كسلطة!
استدرك »ميم« وقد استعاد جديته:
إننا نعاني أزمة عدد في رجال السياسة! إن الكل يفضل »البيزنيس«. لا أحد يريد إضاعة وقته وجهده في »الخدمة العامة«. وعلى سبيل المثال فإن قلة قليلة تقبل على الانتخابات النيابية وترضى بأن تهدر من وقتها ما يحتاجه الاهتمام بشؤون المواطنين أو بالتشريع. لعله موقع سنغافورة، لعلها الفرص المتاحة مع الشركات الأجنبية والصناعات الأجنبية (مكاتب تمثيل، وكالات تجارية، وكالات توزيع، شركات شحن، شركات تأمين) إضافة إلى الخدمات السياحية، (الفنادق والمطاعم والمقاهي) والمتاجر التي يكاد بعضها يكون سوقاً كاملة للأصناف جميعا!
* * *
في البرنامج المقرر للزيارة القصيرة كانت ثمة إشارات واضحة الى »المدينة الصينية« و»الهند الجديدة« و»الحي العربي«.
ذهبنا نجول في تلافيف الدولة المدينة التي لا تزيد مساحتها على خمسمئة كلم2، والتي يزيد عدد سكانها قليلاً على ثلاثة ملايين نسمة، تتحدر غالبيتهم الساحقة (نحو 75$) من أصول صينية، يليهم الهنود والماليزيون وأشتات من شعوب أخرى، معظمهم ممن جاء مع العسكر البريطاني إلى الجزيرة، لا سيما خلال الحرب العالمية الثانية، وبعدما تقاعد قرر أن يبقى في هذه المدينة المفتوحة لكل الأعراق.
لا حساسيات، ولا مداراة، ولا حيرة أو تدقيق في اختيار الألفاظ للتحدث عن التشكيلة السكانية للجزيرة التي سكانها صينيون وكادت تكون جزءاً من ماليزيا، سياسياً، والتي على مرمى حجر من دولة الألفي جزيرة (أندونيسيا)، والتي تقوم محطة للتواصل بين دول المحيط الهندي جميعاً.
ما زال الصيني صينياً، في مسلكه ومأكله ومشربه وعاداته عموماً، ولكنه سنغافوري في »انتمائه«… وكذا الهندي الذي حمل معه تمثالاً لبوذا، أو صوراً لبراهما، أو »الباكستاني« أصلاً، أو الذي قطع مع ماليزيا ليربط مع جزيرة الذهب، كلهم حريص على إشهار انتمائه الأصلي، قومياً أو دينياً، لينتهي بالتأكيد على سنغافوريته!
الصين صين، هنا، والهند هند، لكن »الحي العربي« تسمية مجازية، إذ ليس ثمة »عرب« سنغافوريون، وإن كان بعض ذوي الأصول العربية قد استقروا في الجزيرة لأسباب عملية (تجارية أساساً)، ولكنهم أفراد ولا يشكلون جالية، وما يسمى »الحي العربي« ليس عربيا بقدر ما هو إسلامي، اللهم إلا إذا اعتبرت لغة القرآن الكريم هي الأساس لا القومية.
* * *
على مساحة خمسمئة كيلومتر مربع فقط أقيمت تجربة تستحق الاهتمام: فالأعراق متعددة، وكذلك الأديان، ومن ثم الأشكال والطقوس والبدع… لكن ذلك لم يمنع من إقامة »دولة خدمات« ممتازة، تبيع الآخرين ما يحتاجونه: المطار الهائل الاتساع والذي يشكل نقطة تقاطع ممتازة بين دول الشرقين الأدنى والأقصى، وبينها وبين العالم.. والمرفأ الحسن التجهيز والذي يخدم، هو الآخر، ويستفيد من المنطقة على اتساعها.
ثم إنها دولة سوق: فهي مركز تجاري متميز، دوليا.
لا تحتاج إلى أدلة أو براهين بأن ثمة قرارا دوليا باعتماد سنغافورة كمركز تجاري خدماتي وسياحي… فذلك واضح في »التراث« الاستعماري البريطاني الذي يطبع الجزيرة بطابعه (كما هونغ كونغ) من مقود السيارة إلى اليمين وحتى اللغة السائدة و»الموحدة« بين »الشعوب« السنغافورية!
لكن هذه الدولة ذات الحكم الحازم والذائع الصيت عالمياً بصرامته (العلكة ممنوعة والغرامة على القمامة تعادل راتب شهر الخ)، والتي هي صنيعة اقتصاد السوق وحرية التجارة ودعه يعمل دعه يمر الخ تقوم بمجموعات مهمات اجتماعية تكاد تتجاوز فيها الدول الاشتراكية سابقا! فقد حلت أزمة السكن، على سبيل المثال، بمجموعات من المجمعات السكنية التي تستجيب وتلبي مختلف الاحتياجات (كل وحدة سكنية لها مدارسها وملاعبها ومستوصفها وملاعب للأطفال وصالات للأفراح وسائر المناسبات الاجتماعية..).
الوحدات السكنية تكاد تعادل المباني »الخاصة«، وهي منتشرة في مختلف المناطق والأحياء، وتبنى بقروض طويلة الأجل توفرها الدولة ويسددها المواطنون على امتداد ثلاثين سنة وبفوائد رمزية.
هناك »دولة« بلا سياسة.
وهنا »سياسات« أو »سياسيون« بلا دول!
بل هناك »مجتمع« اصطنع لنفسه، عبر التوازنات الدولية وبفضلها، »دولة« لها علمها وعملتها ومتحفها الخاص (الذي كان ثكنة لجند الاحتلال، بالقرب من مقر الحاكم العسكري العام) ولها »برلمانها« الذي تمّ تجديده ومسحت عنه آثار المندوب السامي البريطاني.
وهنا »دول« اصطنعت لنفسها »مؤسسات« على مقاس حكامها، فكان أن تم تفكيك المجتمعات، وبعثرت منظماتها وتنظيماتها الشعبية وصولاً الى جمعياتها الخيرية، فصارت مجرد تجمعات سكنية متضخمة، تعيش فيها جماعات من البشر الجاهزة للاختلاف على البديهيات، المكبوسة بالخوف من الحرب الأهلية، يمنّيها السلطان بأن يوفر لها الشبع فترضى باللقمة تهيباً من سيفه، وتتلبث منتظرة من الموت وقد فقدت القدرة على الحلم!
* * *
في حديقة الحيوانات الليلية في سنغافورة، »سافاري نايت«، طفنا بين قبائل الوحوش التي استؤنست، بطريقة ما، فحصرت في غابة من دون أسوار ظاهرة. لكل »وحش« من دهره ما تمنى!
للأسود اللحم، وللفيل الأعشاب، وللقرود الموز، وللقطط البرية بعض الطرائد، ولطيور الليل المدى المفتوح في قلب العتمة… ولركاب الحافلة البطيئة متعة النظر والتأمل، وللشبان من السياح الدروب الملتوية نزولاً، والمنعطفات التي يظللها الشجر النائم في الظلام المفتوح على الحكاية، ومدى فسيح من الصمت يتسع لحفيف الملامسة والعناق وانفلات العواطف من قيود الغرائز، ولصدى ذلك الخفوت المنبئ بانتقال الحركة من أعلى إلى أدنى وبالعكس!
انتبه الذئب الى عاشقين متحاضنين، فوقف فوق أعلى صخرة، على حافة دغله، كأنما ليحرسهما. حرام عليه اللحم، هنا، فالنظر يشبع!
في حديقة الطيور الفريدة في بابها، تحت تلك الخيمة الهائلة الارتفاع العظيمة الاتساع والمبنية أقساماً متعددة، بما يتوافق مع أمزجة الطير بأنواعه المتعددة، سرحنا مع النغم الملون والريش المموسق ورفيف الأجنحة المؤهلة لأن تفتح أبواب الجنة.
كانت الببغاوات أشبه بكتبة السلطان ومذيعي التلفزيون الرسمي، وقد انتحى بعضها فاتخذ مواقف وزارية، بينما نفش أكبرها ريشه المزركش وكأنه رئيس الكبراء وزعيم الوزراء وصاحب الأمر.
اندفع الصديق يسمي الطيور بأسماء السياسيين في بلادنا، وكأنها شعرت بالظلم فارتفع النقيق احتجاجاً!
يسحرك إبداع الطبيعة فيأخذك إلى الشعر، وكلما توهمت أنك قد بلغت بشفافية كلماتك ذروة اللون انسكب الريش في عينيك ألوانا جديدة لا تعرف لها توصيفا، وصدح الطير بأنغام جديدة تسحبك الى النشوة وأنت مسحور.
لكنك حين تهم بالمغادرة عائدا إلى الفندق، تسابقك فتسبقك إليه أسئلة تفسد عليك نشوة اللون والنغم:
لماذا ينجح هؤلاء الذين جاؤوا من كل مكان إلى هذا الفج العميق، وامتهنوا خدمة الغير أجيالاً (وما زالوا يمتهنونها)، والذين لا تأخذهم العزة بمجد تليد، أو بثقافة عظيمة في الماضي، والذين لا يتقنون لغة غير أرقام الربح…
لماذا ينجح هؤلاء، بغير تبجح بدور دولي أو ادعاء التنطح لمهمات استراتيجية كتغيير التاريخ، وتفشل شعوب تبدو مؤهلة من حيث المبدأ ومعززة بموارد طبيعية، وبتاريخ مجيد، وبدور مفتوح للقادر على أدائه؟!
تبدأ سياحتك بالسؤال وتنتهي بالسؤال. قاتل الله السياسة.
تتذكر أن الببغاء قد ودعتك بتقليد لصوت الفيل.
هل أنت فيل بصوت غراب، أم أنك مجرد سائح بين الببغاوات؟

شمس إيران
تأخذني العزة بالحق، بالصلابة، بالإرادة المبدعة، كلما قرأت خبراً جديداً عن هذا الإنسان الذي لا يتعب ولا ييأس ولا يهرب من الميدان ولا يكف عن القتال من أجل الصح، واسمه: محمود شمس الواعظين، وقد عرفناه وصادقناه وأحببناه وقدّرنا جهاده باسم »شمس«.
لكأنه شمس إيران، هذا القلم الذي لا يكسر!
لكأنه شمس في قلب الثورة الإسلامية في إيران الخميني، هذا الصحافي الكبير الذي يكتب بأنفاس الشهداء، والذي يغمس قلمه في محبرة الأنبياء والصديقين، والذي يتصدى للتزمت والخطأ ويصر على كسر القوقعة وإطلاق نور الجدل الفكري وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، انتصاراً للثورة ولحقوق الإنسان المسلم في ظل ثورته الإسلامية.
ها هم يقفلون له مجلته أو جريدته الخامسة،
لكنه قد أصدر السادسة… لن يطفئ شمس نور إيمانه، ولن ينجح الخائفون من النهار في وأد الشمس… خصوصا أن الإسلام قد جسّد الانتصار على الظلام الذي كان يحمي نفسه بالجهل والتعصب وضيق الأفق والأصنام التي من تمر!

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
كلما ثقلت عليّ أعباء حياتي استعنت بحبي فأعانني وأضاف إلى عزيمتي شيئاً من قدراته السحرية. لولا الحب لفني الخلق. لولا الحب لضاقت الدنيا ببشرها وأطماعهم والأحقاد صانعة الحروب. حبيبي يريني الدنيا جميلة، وحبي يمدني بالأمل كلما ضعفت. حبيبي يجعلني أقوى من الأباطرة والسفاحين والطغاة والسفلة. أيها المثقلون بهمومهم، تعالوا إلى الحب تكن لكم الحياة.
طلال سلمان

Exit mobile version