طلال سلمان

هوامش

عن رحلة الزميلات اضطراراً إلى الفضاء جهاراً!
كنت حديث الانتساب إلى المهنة حين التقيت في مجلة »الحوادث« الزميلة الأولى، وتمالكت نفسي حتى لا تصعقني المفاجأة: هل في الصحافة مجال ل»الحريم«؟! ذلك ان تجربتي ومشاهداتي، حتى ذلك الحين، كانت تظهر لي الصحف وكأنها أمكنة واضحة الرجولية بحيث يتعذر على النساء دخولها، فكيف بالفتيات؟
ولأن الزميلة الأولى التي عرفت كانت »مطلقة« فقد زيّن لي جهلي ان »الطلاق« شرط لانتساب الفتيات إلى هذه المهنة ذات الشنبات المعقوفة!
]ملحوظة: بعد عشر سنوات من هذا اللقاء الأول، وكنت قد سحت بين عدد من المجلات، في طليعتها »الصياد« و»الأحد«، في بيروت، وتوليت مسؤولية إصدار مجلة »دنيا العروبة« في الكويت، عدت ثانية الى »الحوادث« كمدير للتحرير، لأجد »الصبايا« عضوات طبيعيات في أسرة تحريرها… وأذكر أن الكاتبة الكبيرة غادة السمان، وكانت صديقة قديمة، قد توجهت إليّ ذات يوم وأنا جالس فوق »عرشي« كمدير للتحرير بسؤال طريف مضمونه: لماذا كلكم بشنبات كثة، وبوجوه عابسة، هل ترون ذلك بين شروط الهيبة لمواقعكم المسؤولة؟![
في مجلة »الصياد« التي توليت إدارة التحرير فيها، للمرة الأولى، في العام 1963، أسعدني حظي بالتعرف الى »زميلة« أشعرتني بخطأ تقديري لشروط انتساب النساء إلى مهنة الصحافة: تلك كانت الأديبة الكبيرة الآن إميلي نصر الله، فهي كانت صبية، وخريجة جامعة، ومدرسة، تمشي يحف بها الحياء، بل خفر العذارى، وإذا ما حييتها بكت كما كان يصفها أستاذنا الكبير الراحل سعيد فريحة.
ولأن »الشبكة« كانت تقاسمنا قاعة التحرير في الطابق الرابع من مبنى دار الصياد (القديمة)، فقد تيسر لي أن أتعرف الى بعض الزميلات العاملات في مجال مختلف تماما: المجلات الفنية، وكن قلة قليلة ومن صنف مختلف بحكم طبيعة العمل.
على أن معظم من عرفت من الزميلات العاملات في بعض الصحف والمجلات التي ساهمت في تحريرها، أو دخلت حرمها في زيارات لبعض الأصدقاء، كن ينتسبن إلى أوضاع اجتماعية غير طبيعية، فهن إما مطلقات، وإما عوانس، وإما أرامل، وقل بينهن من جاءت إلى المهنة بالدراسة أو بالرغبة أو بالكفاءة وحدها. فلم تكن بين المنتسبات إلى الصحافة حتى أوائل السبعينيات إلا قلة من خريجات الجامعات، وإلا قلة أقل من الراغبات حقا والمؤهلات فعلا للعمل الصحافي.
ولم تكن حال الزملاء، على وجه العموم، مختلفة جذريا، فمعظمهم جاء إلى المهنة بالهواية أو بالحاجة أو كوظيفة ثانية يمارسها في أوقات الفراغ، ولزيادة الدخل باستغلال لغته الصحيحة!
أما حين تيسر لي ان أباشر مشروع إصدار »السفير« في بدايات العام 1974 فقد وجدتني أغرق في بحيرة عطر سحبتها خلفها مجموعة من الشابات الخريجات حديثا من كلية الاعلام، أساسا، أو كليات العلوم الاجتماعية والتربية والحقوق والآداب (لغات أجنبية).
وصدرت »السفير« والزميلات يشكلن نسبة الثلث تقريبا من أعداد المحررين والعاملين في الأقسام الإدارية المختلفة فيها.
]ملحوظة ثانية: شهدت »السفير« عددا قياسيا من الزيجات بين زملاء وزميلات تلاقوا فيها، ونما بينهم ذلك الشعور المخدر العذب الذي يفتح لك أبواب النعيم: الحب، ثم توغلوا في الحب حتى نهاياته الحتمية! ليرحمهم وليرحمهن الله! وليرحمنا جميعا[.
اليوم، وعبر تجربة العدد المعطر من »السفير« الذي تولت الزميلات إصداره يوم الأربعاء الماضي، تأكيداً لجدارتهن كمهنيات ولاستحقاقهن العيد، كفئة منتجة وليس كقوارير تتطلب الرفق فقط، تبيّن بوضوح ان الصحافيات المنتشرات في مختلف أقسام التحرير في »السفير« يمكن لهن تحمل مسؤولية إصدار الجريدة بالكامل: تحريرا وإشرافا على التنفيذ، وانهن مبتكرات وخلاقات ومنتجات ممتازات إذا توفر لهن الجو الصحي، وشعرن بأنهن »موثوقات« بما يكفي لتحمل مسؤولية تحويل الأفكار والمشكلات ومسائل الحياة اليومية الى موضوعات جذابة.
لقد تخطت المرأة في لبنان خاصة، وفي العديد من البلاد العربية، حاجز امتحان الكفاءة والجدارة والأهلية.
انها الآن في كل مكان وفي كل مجال؛ في إدارات الدولة، حتى الجيش والأجهزة الأمنية، وفي المؤسسات الخاصة بدءا بالمصارف مرورا بالشركات والمؤسسات الخاصة والعامة.
أما في مجالات الإبداع الثقافي، رواية وشعراً وقصة وغناء ورقصاً، رسماً وتصويراً، تجريداً وتقليداً، فأعدادهن في تزايد مستمر.
]ملحوظة: أتذكر أننا جاورنا في السبعينيات أرملة ترك لها زوجها الراحل ابنتين حباهما الله مسحة من جمال الصوت وطرافة المنظر.. وقد اشتدت الحال على هذه الأسرة، وفتح الله على بصيرة السيدة فسمحت لابنتيها بأن تقدما وصلات من الغناء الخفيف والرقص المحتشم كمنولوجيست، بشرطين: ان تتخذ كل منهما لنفسها اسماً مستعاراً، وان ترافقهما والدتهما الى كل الحفلات، فتبعد عنهما الرجال وتعود بهما كل فجر إلى البيت سالمتين، وان جرحتها (هي) النظرات والكلمات الجارحة للرجال المغضبين!
]أما اليوم، وفي عصر الغناء الفضائي فيكاد لا يخلو بيت من مطربة، وصار لطرب »الأورغ« و»الكليب« والغيتار الكهربائي عائلات فنية تتناسل يوميا وتتباهى بإنجاب المزيد من المطربات المتعددات الأساليب والمواهب قداً وخصراً مياداً وعيوناً كحيلة ولهجة خليجية أصيلة[.
* * *
خلاصة القول إن الصحافة في لبنان عرفت هجوماً واسعاً ناعماً وناجحاً مع نهاية الستينيات، سرعان ما تعاظم عشية انفجار الحرب الأهلية، ثم اكتسح الساحة مع الانفجار التلفزيوني الذي شهدناه في السنوات العشر الأخيرة، عندما صار في كل شارع محطة، ثم تدخّل رأس المال وركب القانون ليحصر الإعلام المرئي (على الأرض كما في السماء) بمن يملكون القدرة على شراء الهواء وملء السمع والبصر عند البشر كافة.
بل ان الصحافيات أو بالأحرى الإعلاميات اللبنانيات بتن اليوم عناوين مشعة في معظم الفضائيات العربية، على وجه الخصوص، وتجاوزن المنافسة مع زميلاتهن السابقات اللواتي قدمتهن مصر، بداية، وكانت رائدة في هذا المجال.
ولا شك في ان الهامش الديموقراطي الذي يتمتع به لبنان والذي وسعت إطاره الحرب الأهلية، في مجالات معينة، إضافة الى التنوع الثقافي والاجتماعي ثم هذا الازدحام الهائل للجامعات في بيروت، وبينها الوطنية والعربية والأجنبية، كل ذلك أسهم في مد الصحافة بل الاعلام عموما، بوجوه جديدة مميزة ليس فقط بطلتها وأناقتها والرشاقة إنما كذلك بقدر مقبول نسبيا من الثقافة العامة التي تتغذى بالتجربة والخطأ.
وأهم ما وفره »المناخ اللبناني« للإعلاميات العاملات في الفضائيات عموما، وسواء في الداخل أو على النطاق العربي، هو هذه الروح الاقتحامية والتجرؤ على المناصب السامية، والاعتماد على الشطارة كبديل من المعلومات، واستخدام السلاح السري للنساء في غواية الرجال المهمين للتدفق في ثرثرة تملأ ساعات البث مجانا وان ظل ينقصها وضوح الموضوع وجدية المضمون.
انها صحافة اللقطة، اللحظة، الإشارة، الصورة… وفي هذا المجال تتساوى النساء بالرجال، قطعاً!

لغة القرآن سليمة جزائرياً، أما القرآن…
لم يكن جو الحديث يوحي بأي قدر من المرح، لكنني وفي ما يتجاوز الحزن على ضحايا جنون القتل اليومي في الجزائر لاحظت ما يمكن اعتباره نوعا من التعزية.
كن مجموعات من »النواب« الجزائريات ممن أتين من ضمن حملة التضامن مع المرأة المقاومة في لبنان… وخلافا لتوقعي فقد وجدتهن يعبرن عن أفكارهن بلغة عربية سليمة، وفي حالات قليلة جدا كن يلجأن إلى الفرنسية. واحدة من بينهن فقط اعتذرت عن أن »تهدر بالعربية« لعدم تمكنها منها، وفضلت الصمت مع استعداد للتدخل ببعض الملاحظات بالفرنسية.
إذاً، فلغة القرآن بخير في البلاد التي يذبح فيها المتطرفون إلى حد العمى، تحت الشعار الإسلامي، المسلمين العميقي الإيمان!
لكن القرآن ليس بخير،
إذ يكاد يذهب ضحية الاقتتال، حيث يتنازعه المتعصبون مع المؤمنين، بينما الجزائر تغوص في دماء مجاهديها.
لكن الأخوات عضوات مجلس الشعب الجزائريات متفائلات بالغد: كنا نتظاهر، مئات وآلافا من الجزائريات يتقدمنا الرجال، أزواجنا أو أولادنا أو أبناء عمومتنا… وفي الليل يسقط الرجال ضحايا الاغتيال ذبحا وخنقا وتقطيعا للأوصال. وفي الصباح ندفن موتانا ثم نعود الى الشارع نواجه القتَلة ونؤكد على حقنا بالحياة، حتى هزمناهم ودحرنا الموت!
اللغة سليمة، الإيمان ثابت، اللهجة حازمة… ثم انهن في بيروت لتأييد المقاومة: أي دليل ينقصنا بعد لإثبات أن الجزائر، بإسلامها وعروبتها، أقوى من القتَلة الذين يحاولون بالجهل المتعصب إطفاء الشمس؟!

اعرب: امرأة!
كم امرأة فيك أيتها التي يتخفى اسمك في ثنايا أنوثتك البرية.
تأخذني امرأة منك الى امرأة، وفي الطريق تختطفني امرأة ثم ترميني في بحر من النساء المتشوقات إلى أحزان الرجل الوحيد.
أبحر فيك ورفيقي نورس البشارة بالشاطئ القريب، فيتركني النورس ولا جناح لي ويبحر الشاطئ مبتعدا وتهدهدني أمواجك مستدرة فيض الزبد فأحمله ولا يحملني ويغطيني فيأخذ لوني ولا يعطيني لونه ثم يغور ويبقيني أكافح لأتعلم السباحة وسط الأزرقين البلا ضفاف حيث تتوالد نساؤك بغير انقطاع ويهرول الرجال إليهن فتتفرغين بكليتك لنقصي.
يا امرأة البعد الثلجي، يا رجاء القرب المحرق، لماذا تطلقين عليّ تعددك أنا الضائع في بيداء مفردك؟
يتماوج شعرك فتتهاوى منه ألف حواء، ولكل حواء منك نصيب، وبعدما تنصرف قوافل النساء بأسراهن من الرجال، تلتفتين لاقتناص الرجل العنيد الذي لم تخدعه الفتنة ولا أغوته أوهام الصورة بل ظل لصيق الأصل لا يغادر إلا إليه، ولا يطلبها إلا فيها، ولا ينسحب أو يتركها تنسل خارجة من مدى اليد إلى مدى البصر.
عرفت فيك الثرثارة المغناج، والمتيمة التي تجاوزت الكلام الى ارتعاشات العين، والطروب التي تنده على حبها غناءً وترقص على إيقاع قلوب عشاقها المولهين، وتلك الساهمة التي تقرأ لغة الطير وتسلم سرها إلى الهواء حتى تسري في أنفاس من تحب.
عرفت نتفاً من امرأة وسط طوفان من النساء،
لا المرأة اكتملت لأحبها ولا النساء سمحن لي بالاكتمال.
اعرب: امرأة.
جواب: النصف الأول أمر. النصف الثاني… رجل!
مَن قال إن المرأة قابلة للقسمة. انها قابلة للجمع فقط.

من أقوال »نسمة«

قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
هل هو الغرور أم انه الحبور يصور لي ان قصائد الشعراء جميعا إنما تتخذ من حبي وزنها والقوافي وعبقها ورقتها وموسيقاها الجميلة؟! يطل وجه حبيبي من كل نفحة، وأسمع الأغنية بصوته، وأراني في كل تفعيلة. الحب هو الشعر، والشعر يأخذك إلى الحب. كيف يدّعي الحب ذلك الذي لا يتذوق لغته: الشعر، ولا يطرب لصوت الكروان؟!

Exit mobile version