طلال سلمان

هوامش

عندما تأنسن الحجر فصار أداة للديموقراطية!
لماذا رشق الطلاب في جامعة بيرزيت الفلسطينية رئيس الحكومة الفرنسية ليونيل جوسبان بالحجارة، وهو »ضيفهم« الآتي لمحاورتهم؟!
هل هي شهوة مكبوتة عندهم كما عند كل »الشباب العربي« إلى رشق القادة والزعماء بالحجارة، بل رجمهم، عقاباً لهم على خطاياهم، ولو بطريقة بدائية، أو بالسلاح الوحيد الذي وصلت إليه أيديهم؟!
لا جدال في أن ما تفوه به هذا النموذج الكامل لليساري الأشوه أو للاشتراكي المتأمرك والمتعولم إلى حد التهود، مستفز وجارح وخارج على الأصول ولا يليق برئيس حكومة لبلاد كانت شبه منبوذة وشبه مطرودة من الأرض العربية، فلم يعدها إليها الإسرائيليون كما لم يعدها »اليسار« البندوق ولا »اليمين« الوطني، بل أعادها العرب، آباء هؤلاء المجاهدين في المقاومة أو أعمامهم أو أبناء خؤولتهم، وفي كل حال: شركاء المصير.
ولا جدال في أن رد فعل الطلبة في جامعة بيرزيت جاء خارجاً عن المألوف، خصوصاً مع مسؤول أجنبي كبير جاء لكي »يحاورهم« وكان يمكن أن يواجهوه عبر الحوار بمواقف أقسى وقعاً وأعظم تأثيراً وأنفع لقضيتهم من الحجارة… فيفضحون صورته المزورة بل ان يثقبوا رأسه من الخلف بينما لم يتغير عقله ولا »قيمه«..
لكنه الاحتقان، والكبت، والضغط، والاضطهاد اليومي على أيدي السلطتين المتسلطتين: الاحتلال الإسرائيلي والتحكم تحت عنوان الحكم الذاتي الفلسطيني.
ثم انه الشعور بالمهانة: أيجرؤ هذا الضيف، بعد الذي قاله في ما يعتبره الطلبة، بأكثريتهم، النموذج الأرقى للمقاومة، والمثل الأعلى الذي تعجزهم ظروفهم عن التمثل به والسير على خطاه حتى الاستشهاد، على القدوم إليهم وكأنه يتحداهم في أعز معتقداتهم؟!
بعيدا عن السياسة، بيومياتها المثيرة، والدبلوماسية بلياقاتها ولغتها الجوفاء، وأصول الضيافة بمعناها البدوي، يمكن أن يقال الكثير!
* * *
قبل عام أو يزيد، وفي مصادفة طيبة، التقينا في روما، على هامش ندوة نظمها »اليسار الجديد« في إيطاليا تحت عنوان »حوار الغرب والإسلام«.
تعارفنا فإذا هو وزوجته الوديعة أستاذان يدرّسان الطلبة في جامعة بيرزيت، ويبحثان عمن يحدثناه عن تلك التجربة المهمة، عن تلك الجامعة التي تنمو وتتسع بإمكانات محدودة، إذ يبخل عليها الأثرياء، في الداخل الفلسطيني كما في الخارج العربي، بالدولارات التي تحتاجها لكي تتكامل وتأخذ المكانة التي تليق بها على خارطة الجامعات العربية.
حدثنا هؤلاء الفرنسيان بشغف بالغ عن كل من في الجامعة وما فيها من كليات وأقسام؛ عن مكتبتها، عن مركز الدراسات الناشئ، وأفاضا في الحديث عن هيئة التدريس، وفيها جمع ممتاز من داخل فلسطين أساسا، وبعض الآتين تطوعا من خارجها، ثم انطلقا يتحدثان بحب عظيم عن طلبتها النابهين، والذين يحاولون فيها وعبرها تأكيد الجدارة بمنافسة الإسرائيلي، بل والتفوق عليه.
كان الأستاذان الفرنسيان مشبعين بروح الرسالة، وكانا منتشيين بهواء فلسطين المقدسة، وبين ما يسعدهما انهما تعلما شيئا من العربية فصارا يفهمان »روح فلسطين« أكثر من سائر المدرّسين الأجانب.
أُشفق اليوم على هذين الأستاذين مرتين: مرة بسبب ما اقترفه جوسبان من إساءة الى دور فرنسا وإلى صورتها، بداية، ثم إلى المقاومة في لبنان ممثلة ب»حزب الله«، وثانية بسبب رد الفعل المنفلت من عقاله الذي صدر عن الطلبة متجاوزا الحدود، من دون أن يعني ذلك القبول بوقاحة رئيس الحكومة الفرنسية والنقص في كفاءته السياسية وحرصه على مصالح بلاده، والانتهازية الفاضحة في نفاقه الرخيص للإسرائيليين لكي يحصل على أصوات »مواطنيهم« اليهود في فرنسا وعلى دعم مؤسساتهم النافذة!
* * *
مرة واحدة تأنسن الحجر فاتخذ لنفسه صورة المباركة فلسطين.
مرة واحدة اكتسب الحجر ملامح الوجه الطفولي للفتى الذي صار رجلاً من قبل أن يصير، والذي فُرض عليه أن يهجر اللهو والمرح وأن يرجئ الدراسة إلى ما بعد تحرير النفس بتحرير الأرض من دنس الاحتلال.
مرة واحدة صار الحجر وجه صاحبه.
مرة واحدة صار الحجر أداة تعبير ديموقراطية بعدما صار الورق وصارت الكلمات المكتوبة أداة تزوير لارادة الناس وحقوقهم وسندات ملكيتهم لأجداث موتاهم في قبورهم، ولأنفاس شهدائهم التي تعطر الهواء.
كان الحجر في الشارع. وكانت المدرسة تأخذ الطلاب إلى المجهول. أخذوا الحجر وضربوا به باب الاحتلال فولّدوا من صلب المقاومة ما كان يمكن أن يتشكل منه مستقبلهم المعلوم!
صار الفتى في الشارع، والحجر في يده، قدرا.
لم تعد المدرسة طريقا إلى المستقبل. صار عليه أن يحفر بالحجر طريقه إلى مستقبله.
وكان ان اغتيل الحجر، وعُلِّق الفتى من ذراعيه في الوهم، وأحاط به الجلاوزة إحاطة السوار بل الأساور بالمعصم! (نظراً الى تعدد أجهزة الأمن الفلسطينية المعززة بالأجهزة الإسرائيلية ومن ثم بالسي. آي. اي الأميركية ضمانا للديموقراطية الحديثة).
وكان ان اغتيل الفتى.
وكان ان قُتلت الثورة.
وكان ان سقط الحجر، وسقطت الإرادة، وسقط الحلم، وسقطت العروبة، وسقط الكفاح المسلح، وسقطت القضية، ليمكن ان تقوم السلطة!
في الميدان العام أعدمت السلطة الحجر، وظنت أنها ارتاحت من الفتى الذي ضاع فلم تعرف له هوية ولا هو عرف طريقه الى غده.
ها هو الفتى حاضر بعد.
وها هي أرض فلسطين الولادة تنجب حجارة بعدد الفتيان أو يزيد.
وحجرا حجرا يبني الفتيان وعد الغد الذي لا تقتل فيه السلطة الفتيان والحجارة.

بالقانون: عسكر للبيت المن زجاج!
من أين أتيت بهذا الدأب يا هشام حمدان، بهذا الجلد، بهذا الاهتمام التوثيقي لموضوع تتداخل فيه السياسة الدولية والقانون الذي تعتنقه دول وتكسره دول، وتفرض التحولات في التوازنات العالمية نفسها على الأمم المتحدة فتكاد تلغي دورها أو تحرفه أو تخرجه عن سياقه بحيث تغدو عرضة للاتهام بأنها قد غدت مجرد أداة أميركية بعد أن كانت الملجأ الأهم في وجه طغيان الاستعمار القديم الذي سرعان ما أخلى الساحة للامبريالية الأميركية ونظامها العالمي الجديد؟!
النادر من الدبلوماسيين في لبنان من استفاد من عمله فكتب عن تجربته أو عن المسرح الذي يتابع الأحداث فوقه، فقدم ما يفيد الناس ويزيدهم علما.
على أن الدبلوماسي الشاب القادم من الهواء الطلق والسماء المفتوحة في عبيه إلى البيت المن زجاج في نيويورك، لم يضيّع وقته في المجاملات، مع أنه مجامل عريق، بل عكف على موضوع صعب ومعقد وغير ممتع للقراءة، على فائدته، فكيف بالكتابة فيه وعنه؟!
ربما كان مناخ الحرب التي عصفت ببلادنا الصغيرة، وبالمنطقة الجميلة التي وُلد هشام حمدان في قلب ائتلافها حتى جاءتها ريح السموم الطائفية معززة بالعواصف الإسرائيلية قبل اجتياح 1982 وبعده، فكادت تدمرها بشرا وحجرا، هو الذي أخذ ابن عبيه الى الغرق في موضوع عنوانه »نظام حفظ الأمن والسلم الدوليين خلال الحرب الباردة دراسة في القوات الدولية التابعة للأمم المتحدة«.
عبيه التي تنقلب من على كتف بيروت إلى كتف عاليه وتغتسل خضرتها الدائمة برذاذ البحر، ثم تغتسل مرة أخرى بنور الشمس الآتية من أقصى الأّرض العربية من حيث جاء هؤلاء »المرابطون« لكي يحموا الثغور من الغزاة والمحتلين الأجانب.
هشام حمدان ابن البلدة التي نشأ في أحضانها عدد ملحوظ من مؤسسي الكلية السورية الأميركية في بيروت (الجامعة الأميركية في ما بعد)، وابن البلدة التي بُنيت فيها واحدة من المدارس المؤسسة للتعليم في لبنان (الداوودية)، أضاف الى تراث عبيه كتابا مرجعا، وإلى المكتبة الدبلوماسية كما إلى مكتبات وزارات الخارجية (العربية) مصدرا ممتازا لمعرفة كيف ينظم »فصل القوات« في المنازعات، وكيف تقوم قوات الطوارئ الدولية بواجباتها من دون ان تخرق سيادات الدول الغارقة في حروبها الداخلية والخارجية.
أغنانا الله عن هذا الكتاب، مع تقديرنا لجهد مؤلفه القانوني الممتاز!

ابتسامة تدخلنا الحضانة
يدهمك الحب قبل أن تنمو فوق زغب لسانك الكلمات.
يجيء الحب أولاً، يتدفق عبر العينين اللتين تبحثان بعد عن لونهما، يغسل ملامح الوجه ويمنحها النقاء المشع، ثم يفيض كماء السبيل المشاع.
يصير الحب نهرا عميقا، هادئا، مثل النيل، يسيل فيملأ الفضاء من حولك بصمته الدافئ المثير، فتكاد لا تجد من الكلمات ما يفي بالمعنى لكي ترد على الصمت بحب يوازيه دوياً وامتلاء وعافية دافئة.
يصل الحب منك وإليك قبل أن تتعلم قواعد كتابة الهمزة، وأصول الإنشاء، وكيفية التعبير عما يجول بغير مستقر في الرأس المقفل بعد على أفكار وآراء هي لا بد أغزر من شعرك حتى لو لم تعرف كيف تترجمها.
كل هذا الحب الذي يكفي عالما تختزنه هذه الكتلة الضئيلة من اللحم، فتوزعه عبر النظرات التي قد تحسبها ضحكا وقد تحسبها سخرية وقد تقرأ فيها مطر الأيام الآتية وحزن الأيام الماضية، لكنها تعبر بك إلى السعادة المطلقة والمجانية وتفرش لك دنيا من الطمأنينة والدعة فتهدأ خواطرك وتسافر على جناح راحة غامرة إلى مهجع الأحلام.
أيها الغد الذي تطل عبر هذه الابتسامة الغامضة، المغرية، المستفزة، المهدئة، الواعدة، الناعسة، الذي يتهاطل منها رذاذ الحب حتى تأخذك النشوة عنك ومعك تعرفنا إلى حبنا الأكبر حيث تمتزج الأنا والنحن والآخر، فإذا الحب يتسع للجميع.
طفل واحد بحجم الدنيا، ونلتقي فوق ابتسامته المدهشة بغير احتراب، وندخل صف الحضانة لنتعلم نطق الحرفين الأقدسين: ح، ب.

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
لا مفرد في حياتي. إن تحدثتُ سمع الحضور صوت حبيبي، أو كتبت قرأ الناس اسم حبيبي، أو التفت سعى إليّ الناس وكأنني اثنان، وأحيانا يخاطبونني باسمه. ولا مرة كنت وحدي. وحين يغفو حبيبي أحس بخدر في ذراعي، حتى وهو غائب بعيدا عني، وانتظر أن ينقلب في حضني لكي يرتاح ذراعاي الثملان بعبق رائحة حبيبي الذي لا ينفصل عني حتى إذا غاب.

Exit mobile version