طلال سلمان

هوامش

رحلة بغير طائرة الموت إلى شرم التي بلا شيخ؟
التفت إليّ الرئيس المصري حسني مبارك، وكنت معه والزميل ساطع نور الدين، لإجراء مقابلة صحافية، وسألني بنبرة تطفح بالاعتزاز: هل زرت شرم الشيخ؟!
لفتتني نبرة الاعتزاز، اكثر من المفاجأة بسؤال هو من خارج جدول الاعمال، فقلت بما يشبه الاعتذار: زرتها، مرة، وأنا في الطريق الى نويبع، قبل ثلاث سنوات او يزيد.
قال بلهجة فيها شيء من الحنين: لا، لا، لا… تعال الآن. لقد صارت مدينة جميلة وكبيرة. البعض يقول انها قطعة من الجنة.
ثم التفت الرئيس الى وزير إعلامه الدائم صفوت الشريف وقال له: هات »السفير« معنا، ذات مرة، الى شرم الشيخ، ليروا نموذجاً لما نشتهي ان تكون عليه مصر الغد.
استذكرت هذه الواقعة التي جرت في قصر »الاتحادية« حين لعلعت محطات الاذاعة والفضائيات العربية والاجنبية بخبر سقوط طائرة »الشارتر« المصرية في »خليج نعمة« بعد لحظات من اقلاعها من مطار شرم الشيخ متجهة الى القاهرة، وعلى متنها اكثر من مئة وأربعين سائحاً فرنسياً، قضوا جميعاً ومعهم طاقم الطائرة.
غرقت في موجة من الحزن، لكأن »شرم الشيخ« هي من سقط! بل لكأنها قد استهدفت بما يشبه »محاولة اغتيال«!
فعلى امتداد السنوات العشر الاخيرة كان هذا »المصيف« الأنيق والجميل، والقادر على استقبال السياح على مدار السنة تقريباً، هو العنوان السياحي لمصر.
وثارت في النفس اسئلة كثيرة، خصوصا ان اخبار كارثة الطائرة (الافريقية) كانت ما تزال تسيطر على العقول والافئدة طارحة عشرات الاتهامات حول جرائم القتل الجوية التي يذهب ضحيتها ابناؤنا وسمعتنا.
من المسؤول عن قتل المدن والآمال ومعها السياح او الابناء والآباء الآتون في زيارة شوق الى الوطن وأهله؟!
لنترك القدر وشأنه. لا بد من مسؤول يحاسب عن هذا القتل بالجملة، عبر طائرات خربة كان يجب ان تسحب من الخدمة قبل سنوات.
لا بد من »إعدام« قتلة المدن والمهاجرين والسياح، في سبيل ان يزيدوا أرباحهم حفنة من الدولارات.
***
كنت قد تركت شرم الشيخ قبل يومين فقط من سقوط »الشارتر«… وقد أحزنني وضع مطارها الذي ما زال قيد الانشاء، او قيد التوسيع لتلبية الاحتياجات المتزايدة، اذ تقصده »في الموسم« اكثر من عشرين طائرة يومياً، في رحلات نظامية او »شارتر«.
هنا بعض »اليوميات« عن الرحلة الى »شرم« التي ليس بها أو لها »شيخ«.
***
للرحلة الطويلة محطاتها: الاولى نقطة الخروج من القاهرة. ولكن أين هي هذه النقطة في هذا المدى العمراني الذي يكاد يكون بلا نهايات محددة… لم يعد للقاهرة تخوم، ولولا ثبات النيل في مجراه الأبدي لصعب عليك التعرف على معالم هذه المدينة التي تنتفخ فتتمدد على مدار الساعة، حتى لقد باتت اكبر من مجموعة »دول« لها مقاعد (دائمة) في الجامعة العربية والأمم المتحدة، ولها حكام مذهبون يقوم على حراستهم جند من الانكشارية المستوردين من البعيد البعيد.
لم يعد للقاهرة تخوم. اقتحم الفقراء الصحراء التي تبين فجأة انها قد ملّكت ذات ليل ل»أغنياء السلام« فرهنوها لدى المصارف التي سخت عليهم بقروض المليارات فشح الرغيف وهج الجياع هائمين على وجوههم في اربع رياح الأرض.
لم يعد للقاهرة تخوم. ركب الفقراء جبل المقطم، ثم ركب قمته اغنياء الانفتاح ومدوا ملاعب الغولف متوهجة الخضرة في قلب تلك المنطقة التي كانت، في وحشتها الماضية، ملاذ الهاربين من القانون ومأوى الذئاب وثعالب الصحراء. بات القانون هو الهارب والمطارد الذي لا يجد الآن من يؤويه فيحميه.
ملأت المدن المستنبتة بالتكاثر السكاني المنفلت من اي قيد كل تلك المساحات الهائلة من الرمال الميتة التي كانت ترمي القاهرة بغبارها مع كل هبة ريح. ولم تعد »مصر الجديدة« حدود القاهرة القديمة مع المطار. صار المطار جزيرة تمتد عن شماله وعن يمينه ومن خلفه »المدن« الجديدة المشيدة على عجل علها تسابق التكاثر ولكنها تعجز حتى عن اللحاق به. كذلك لم تعد »الجيزة« ومن بعدها الاهرام حد القاهرة الغربي، فقد نبتت مدن كثيرة على طريق الاسكندرية الصحراوي. الاسماء ليست مشكلة: هناك الأيام التاريخية، 6 اكتوبر، العاشر من رمضان الخ وهناك »المخلدون« مثل »السادات«، وهناك الاسماء ذات العبق الديني »الزهراء«، ثم الأولياء، فإن ضاق المجال فالزهور معين لا ينضب.
وهكذا فإن الطريق الصحراوي الى السويس لم يعد أجرد، بل ان العمران يكاد يتصل بامتداد هذه المئة والعشرين كيلومترا، بالقرى الجديدة والمدن قيد الانشاء و»المستعمرات« السياحية.
المحطة الثانية: نفق الشهيد احمد حمدي. تنزل بك الحافلة تحت قناة السويس لتسلمك عند الضفة الثانية الى صحراء سيناء. لن تعبر في ركام هزيمة 5 حزيران، حيث أجداث الدبابات والمصفحات والمدافع التي وأدها قائدها الفذ بعدما نجا بالمصادفة وعاد من الحرب بالتاكسي… إذن ستلازم شاطئ خليج السويس حتى نهايته حيث يبدأ البحر الاحمر. لا تنبت الصحارى شجراً وعشباً. انها تنبت حكايات واساطير يتداخل فيها المقدس بالمدنس الذي سيخرج ذات يوم من الكتب العتيقة ليصير جيشاً للغزاة الجدد القادمين لاجتياح البلاد التي يفترض اهلها ان واجب حمايتها يقع على الله والاولياء والقادة الملهمين الذين يمنعونهم عنها ويمنعونها عنهم فيعز عليهم الانتماء إليها إلا بالشهادة.
ينساب الطريق مستقيماً تقريباً بموازاة خليج السويس على البحر الذي اعطاه المرجان صفته المميزة، الاحمر، مثيراً بذلك فضول الاطفال وأسئلتهم المنطقية: انه ازرق فلماذا ضحكتم علينا؟
مع اتساع الخليج تبتعد الضفة الاخرى التي نبتت عليها ايضا »المصايف« وأشهرها الغردقة، وقد جذبت اهل الصعيد الجواني حتى حدود النوبة للتعيّش من خدمة اهل بلاد البرد الآتين بطائراتهم او في رحلات سياحية منظمة ورخيصة جداً في طلب الشمس، في فنادق ومجمعات سياحية رخيصة، قياساً الى دخولهم، غالية على اهالي البلاد الذي يطاردون »الجنيه« فيهرب منهم صعوداً مع انخفاض قيمته نزولاً.
يلتوي الطريق، فجأة، مبتعداً عن الشاطئ، متوغلاً داخل ثنايا الجبال التي ستمتد طويلاً وعميقاً، بلونها الوردي الداكن، في سلاسل متتابعة تؤكد استنتاجك البديهي بأنها من مخلفات البراكين والزلازل التي احدثت هذا الفج العميق الذي سيحتله في ادناه خليج العقبة ببوابته الشهيرة عند مضيق »تيران«… ومع هبوط الليل ستلمع الانوار لتثبت حدود الدول التي تتقاسم هذا الخليج الذي لم نعرف كيف نصونه فنحمي به ارضنا: السعودية الى الشرق، والاردن الى الشمال الشرقي، وفي القلب فلسطين التي صيّرها الاحتلال اسرائيل، ونحن على البر المصري في سيناء نقترب من موقع جبل الطور حيث تلقى »كليم الله« موسى، اللوح الذي نقشت عليه الوصايا العشر الخ…
في الاعالي دير سانت كاترين الشهير، الذي منع أقباطه بابا الكاثوليك من زيارته وأداء الصلاة فيه، فالتسامح لا يعني سقوط الحدود المقدسة للمذاهب التي يحفل تاريخها بصراعات اعنف واكثر دموية من تلك التي قامت بين الاديان.
يهبط علينا الليل قبل ان نطل على لؤلؤة ذلك الخليج المغلق: شرم الشيخ.
امتلأ الشاطئ المصري بالمصايف التي لا تفتأ تتوسع أنيقة، نظيفة، منظمة يحميها تنظيم مدني دقيق يخرجها من الدائرة المغلقة للروتين القاتل: راس محمد، ذهب، نويبع (مقابل ينبع السعودية) وعند التخم الفلسطيني »طابا« التي لم يسلم العدو الاسرائيلي لوح زجاج من فندقها اليتيم إلا بعد حرب قانونية امتدت سبع سنوات. الفندق الأشهر غدا الآن ملمحاً حدودياً على طرف مدينة مستنبتة فوق أنقاض الاحتلال.
كان الاحتلال يفترض انه »ابدي«. شق الطريق واستثمر النفط والغاز، وأنشأ بعض المستوطنات، ثم باشر بناء المصايف… لكنه بعد »العبور«، الذي أُجهض فاستولد الصلح المنفرد، اخلى الأرض مشترطاً ألا يعود إليها جندي مصري واحد، وأن تأتي قوة متعددة الجنسية تحت الراية الاميركية والامرة الاسرائيلية (عمليا) لتطمئنه الى ان جيش مصر لم يعد الى ارض مصر، وان اعداد رجال الشرطة المصرية في سيناء لن يزيدوا على بضع مئات، محدد سلاحهم ومحدود.
ما لنا وللسياسة، إنها مفسدة للسياحة…
تمتد »شرم« كما يختصرها المصريون تحبباً على مسافة تقارب ثلاثين كيلومترا، في شريط من المجمعات السياحية والفنادق والكازينوهات تنتهي عند الخليج الذي جعلته كارثة الطائرة الهاوية بركابها الفرنسيين في مياهه يوم السبت الماضي، شهيراً جداً: خليج نعمة، حيث تقوم الاسواق الأنيقة بمقاهيها العديدة ومطاعمها المتنوعة وشوارعها المتراصة الممنوعة على السيارات… وحيث يتجول السياح بما خف من الملابس وقصر، حتى اذا اتعب الرجال التجوال جلسوا يدخنون في انتظار عودة النساء من جولات التسوق التي لا تنتهي.
البحر هو الجنة، خصوصاً لمن هوايته الغطس… أما »أهل البر« فيمكنهم اختلاس شيء من المتعة البحرية عبر جولة في مراكب صغيرة أرضها من زجاج، تتيح لهم ان يجولوا بعيونهم بين غابات الشعب المرجانية ووهاد الاسفنج، متعرفين على مئات الانواع من الاسماك التي تتجول في تلك الشعب، تخرج منها وتدخل إليها في مواكب مزركشة فتشكل مهرجاناً من الألوان قل ان اجتمع في مثل هذه المساحة الضيقة.
المصريون قلة في »مصايف الخواجات« هذه…
اما اهل الارض »الاصليون« منهم ففي الخلف، في قلب الصحراء. انهم بدو لم يحبوا البحر يوماً، بل هم يخافون منه دوماً… يتعيشون في واحاتهم المتناثرة وسط الجبال الجرداء من تربية الجمال وبيع التمور والتهريب. والآن وجدوا مهناً جديدة: أدلاء وسواقين ومرافقين وأصحاب سيارات تاكسي وجمال للإيجار وخيم تقام فيها »المآدب« للسياح على وهج النيران وحكايات الخرافة عن الغيلان والعفاريت و»كاريكاتور« الشاطر حسن وعلي بابا، وكل ما يحب ان يسمعه »الخواجات« لتثبيت الصورة التقليدية عن العرب، لا فرق بين القرون الوسطى والقرن الواحد والعشرين.
هذه شرم، فأين الشيخ؟!
وللرحلة محطات اخرى… لكن الحديث مرجأ الى ما بعد انطفاء مأساة طائرة الموت.

ثرثرة عيون
ضاقت القاعة الأنيقة، على اتساعها، بعيون الفضول والضجر والتطلع الى اقتناص لحظة تدر على صاحبها نطقاً سامياً يسهل تحويله إلى ذهب احمر.
كانت »الادارة« قد بذلت جهوداً جبارة لتنظيف القاعة من صدى زغاريد الافراح ومن بقايا المواويل التي تلطت تحت السجادات التي، لكثافتها، تشعرك بأنك إنما تمشي فوق الموج…
تبقت مشكلة وحيدة: كيف يمكن مسح آثار الدماء التي سفكها السلاطين حين تلاقوا ذات يوم هنا فسلخوا جلد اخيهم الذي لم يمت بعد لكي يقدموه فدية تشغل الوحش عنهم، ولو الى حين؟!
ساد الهدوء مع الاطلالة الملكية، لكن العيون واصلت ثرثرتها وهي تتجول عبر الألقاب التي تقتعد الكراسي فلا تملأها إلا نادراً.
نظر من حوله فتهيب المقام. قال في نفسه: كن المتفرج ولا تكن موضوع الفرجة!
الاضواء باهرة والعدسات تتخاطف الوجوه المنفوخة وكأنها كلاب صيد مدربة على اكتشاف »المطلوبين«.
لمح في الصف الخامس وجهاً أليفاً تشع في قمته عينان حانيتان، فهدأ روعه نوعاً ما.
عند طرف الصف السابع كانت تكمن المفاجأة على شكل ابتسامة عريضة، تمتزج فيها اللهفة بالإشفاق ويكاد يسمع لها صوت يقول: أنا هي، ومن خلفك البحر، فأين المفر؟
نقّل بصره بين الصفوف فتلقى رسائل عديدة، وتزاحمت عليه النظرات الدافئة بالذكريات المختزنة فيها، فنفخ صدره بزهو المعشوق الاعظم: كل النساء مشاعك!
تفجر الكلام بطبقات الصوت جميعا، فانطفأت مصابيح الابتسامات، واحتل العيون نعاس السأم، وهربت الأشواق والعواطف من سلّم الخدم حتى لا تضبطها الأقواس الالكترونية ذات الرنين… وعبر الازدحام، عند الحد الفاصل بين الفرصة وضياعها وجد نفسه وحيدا، فجأة انبثقت وكأنما انشقت عنها الارض فسدّت عليه الطريق! قالت بثقة: طننتك تبحث عني. ها أنذا!
كان الهواء في الخارج بارداً… فعاد يطلب الدفء والامان في حضن الذكريات التي لا تشيخ.

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
حبيبي مثل المطر، يحيي الأرض الموات، ويجلب مواسم الخصب. حبيبي سيل متى رضي، وطوفان متى غضب… لكنني احبه زذاذاً ناعماً يخترق القشرة ويتسلل بهدوء الى اعماق النفس فيرويها. هل عرفتم لماذا احب بدر شاكر السياب؟ انه يعني حبيبي حين يقول ويعيد: مطر، مطر، مطر… لكأنه يعنيني، لكأنه يعنيه، لكأنه يعنينا.

Exit mobile version