طلال سلمان

هوامش

وليد الخالدي الذي تسكنه القدس.. خلف الغياب!

سحقت الخيبات المتلاحقة الأمل فجعلته نثاراً من الأحلام المكسورة… لكن فلسطين التي تملأ القلب والفكر والعين لا تنفك تكبر وتتعاظم وتمتد في شرايين المستقبل، مستولدة من دمها اليقين الذي لا يتزعزع عند وليد الخالدي.
كانت »الغربة« مساحة للدعوة، فصيرتها الهزائم العربية مساحة للاضطهاد والتجريح. صارت الهوية الفلسطينية مصدراً للاتهام الفوري بالارهاب… بل لقد صار توكيد الانتماء العربي يعادل الاعتراف باحتراف الارهاب، فكيف اذا كان »المتهم« فلسطينيا وبالتالي عربيا ومن ثم مسلما؟ (في هذه الحالة فإن الفلسطيني العربي مسلم حنيف حتى لو كان مسيحيا منذ بداية التاريخ..).
ووليد الخالدي، الاكاديمي المتميز والاستاذ الجامعي المعروف، والذي حاول حفظ الذاكرة الوطنية للارض وأهلها عبر مؤلفاته التي صرف فيها بعض عمره ليحمي »بلدانية فلسطين« بمدنها وقراها ودساكرها جميعا، والقدس هي البداية والختام دائما، يسائل نفسه الآن: هل هو يعرف اميركا والاميركيين حقا؟!
لقد عاش داخل المجتمع الاميركي نصف عمره تقريبا، فدرّس في بعض اهم الجامعات، وعرف الكثير عن النخب الاميركية، وتعرف الى الكثير من قادة الرأي بل ومن أهل السياسة ايضا، وبنى صداقات وطيدة على قاعدة من الشرح والإقناع بعدالة قضيته: فلسطين… لكنه الآن يكاد يرى هذه الدولة العظيمة في صورة مغايرة تماما لما عرفه عنها وفيها. انها تمشي مسرعة نحو »الامبراطورية« الامبريالية، وتتصدى لصنع القرار فيها مجموعات من المتعصبين ممن يطلق عليهم تسمية »المحافظين الجدد«، ويساند هؤلاء ويدعمهم قطاع واسع من الاميركيين استدرجوا الى دين جديد هو »المسيحية الصهيونية« فباتوا اكثر تعصبا لاسرائيل من الاسرائيليين انفسهم وأكثر كراهية للعرب (والمسلمين) من أبطال الحروب الصليبية العتيقة.
لكأن اميركا القرن الحادي والعشرين غير اميركا حق تقرير المصير، فالدولة الاعظم هي من يقرر المصائر للدول والشعوب، وهي من يقرر الحقوق لأصناف معينة من البشر وليس لأي انسان.
تنضح المرارة في حديث وليد الخالدي عن هذه »الاميركا« التي يكاد ينكرها، اما الحزن فيغطي فضاء القاعة عندما ننتقل بالحديث الى السياسات العربية، والى حجم »التأثير« العربي على القرار الاميركي، ثم عندما ننتهي الى استعراض الوضع القائم داخل فلسطين، وإلى »حالة« سلطتها.
المقارنة مفجعة بطبيعة الحال بين الاجتياح الاسرائيلي للادارة الاميركية وبين حالة التذلل والتنازل والتردي والاستعطاف والاستسلام التي يمارسها العديد من الانظمة العربية للحصول على »عفو« اميركي اسرائيلي سامٍ، ولو بالتخلي عن الاستقلال والسيادة والكرامة الوطنية وليس فقط عن الحلم بتحرير فلسطين او بدولة ممسوخة لها على أقل من ربع مساحتها الاصلية!
نسأل وليد الخالدي: ألم تذهب الى فلسطين بعد إقامة »السلطة« فيها؟! يجيب من خلال مرارته: الى أين اذهب، وإلى من اذهب؟! كانوا في الخارج في ثياب الثورة والكفاح من اجل التحرير. وحين دخلوا صاروا »سلطة« هي موضوعيا في خدمة الاحتلال.
ولم تزر حتى القدس؟!
ثمة سحابة من الأسى في عينيه وهو يقول: آخر مرة ذهبت الى القدس كانت في العام 1965، قبل سقوطها في هزيمة 5 حزيران بعامين.
ولكن القدس تسكن وليد الخالدي… لا هي تغادره ولا هو ينسى أدق التفاصيل فيها. انها ليست مدينته فحسب. انها بيته ومحجته وملعب طفولته ومثوى اجداده. انها ماضيه وحاضره ومستقبله المسفوح دمه على عتباتها.
»لكي لا ننسى…«
لا يمكن ان ننسى. لكنني لم استطع ان اقبل نفسي فيها وهي تحت الاحتلال الاسرائيلي. ابنائي يذهبون ويعودون اليّ بأخبار تقطيعها وتفتيتها بالمصادرة او بالتملك القهري. الحزن لا يحتاج الى الطائرات. انه يعبر السموات ويصلك حيثما كنت. بل انت تحمله في قلبك ولا يأتيك من الخارج. الهزيمة في صدرك فكيف تتخلص منها طالما عز الانتصار. المهم الا تستسلم لليأس. المهم الا تقر بالهزيمة وكأنها مصيرك اليوم وغدا وإلى الأبد. المهم الا ننسى… ولهذا كتبنا ونكتب وننقل الوديعة من صدورنا الى صدور الابناء والاحفاد حتى لا يضيع منهم الطريق.
الوطنية لا تحتاج الى الخطابة بصوت متهدج وكلمات مدوية بسبب فراغها من المعنى.
الوطنية العمل. الوطنية حماية الذاكرة. الوطنية الا ينسى الانسان اسمه وأرضه، وألا يعتبر »التحرير« مهمة غيره، حتى لو عجز عن انجازه.
الوطنية ان تتقدم بالعلم والكفاءة والاجتهاد والتضحية والتنظيم على الطريق نحو فردوسك المفقود والذي عليك أن تحرره فتستعيده ولو بعد حين: فلسطين!

اعتذار متأخر للشيخ الذي أضحكنا على السياسيين!

أعترف معتذرا انني قد تسرعت فحكمت على »الشكل«، بمعنى القيافة، فظلمت نفسي اكثر مما ظلمت عبد الله الصالح العثيمين…. وهكذا فقد تجنبت في اكثر من لقاء مصادفة ان اتعرف الى هذا الذي رأيته »عجوزا« يخب داخل دشداشته التي تبدو رخيصة، خصوصا انها لا تبرز ختم صانعها الاجنبي، والكوفية التي ليست من حرير، والعقال العادي، والعباءة المطوية تحت يمناه، وليست حواشيها مطرزة بالذهب…
ومع ان نظرات هذا »الشيخ« كانت تشع سخرية، فقد كان يبدو دائما وكأنه »يتفرج« على المؤتمرين المحتشدين في مهرجانات الشعر او النثر او الفكر المنثور دولارات، اكثر مما يشارك في »اعمالهم«.
ثم كان ان وصلني ديوان لعبد الله الصالح العثيمين بعنوان »دمشق وقصائد اخرى«، فتصفحته بداية بدافع الفضول، لكنني سرعان ما غرقت في قراءة قصائده اللطيفة حتى انهيته في جلسة واحدة، يشدني الاعجاب بلغته المتينة، ثم تأخذني سخريته الهادئة الى نوبات من الضحك.
»يشرح« عبد الله العثيمين، على سبيل المثال، »العولمة« بنوع من الرجز:
»أن تحكم الدنيا عصابات ابتزاز مجرمة/ تفعل ما يحلو لها/ باطشة مهدّمة/ لأنها في العالمين/ الخصم والمحكمة«
اما »صدى بيان القمة« فيباشره الشيخ عبد الله بديباجة جاء فيها:
»باسمك اللهم/ يا من/ دبر الكون وسوّى/ ما شاء وقدر واصطفانا/ قادة في ظلنا/ تغفو وتصحو/ خير أمة/ كلما حلت بها اطياف غمة/ وجدتنا موئل الشكوى لتحقيق الأرب/ أولسنا نحن سادات العرب؟؟« هذه الجلسة من اعمالنا مسك الختام/ غير أنّا قد فطنّا أن للقول حدودا/ فتركنا اللوم واخترنا كما اعتدنا المرونة/ فعتاب الدولة العظمى رعونه/ ربما ادى الى قطع المعونة/ اولسنا نحن سادات العرب«.
لكم تمتلئ نفس هذا العربي الذي من »اصالة نجد« بالمرارة… اما قلبه فأخضر ينبض بحب هذه الارض وناسها، ولها في لحظة اسم دمشق، وفي لحظة اخرى اسم »الجزائر.. انشودة المجد«، وفي لحظة ثالثة اسم عواصم بلاده من جزيرتها الى المغرب الاقصى.
ويبدو ان منظره، الذي يبدو وكأنه يتقصده، يوحي لمن يراه بأنه فعلا »شيخ«، وعلى هذا فغالبا ما تسميه الوفود »شيخها«، وذات مرة رد على هذه »الفرية« شعرا فقال:
»قالوا بأني شاعر/ آتٍ يزف جوى الصحاري
شيطانه انثى اذا نزلت بفتنتها تماري/
ظلموا شويخ الوفد/ ما نزلت ولا مرت بداري
بعدُي عن الأشعار بعدُ المال عن خَلدَ الغفاري«
من زمان نفتقد الى مثل هذا النفس الساخر في شعر »أصلي« لا يكتب بالزلفى او بالطلب او سعيا وراء الدينار القهار.

قهوجيات… أركيله الحلم العربي

يتسلى غازي قهوجي بالكتابة أحيانا… وهو يرسم المشاهد والوجوه والمواقف كاريكاتوريا بالكلمات. انه يوصّف الخيبات السياسية بالنكات والتشنيعات، ويصوّر الكثير من العادات الاجتماعية الطارئة والوافدة مع تقليد الاجنبي، والمناقشات الفكرية بين مثقفي المقاهي بأسلوب ساخر يليق »بأبطاله«.
ان صفحات الكتاب أشبه بمسرح يلعب على خشبته بعض من نعرف، بالصورة او بالصوت او بكليهما، وبالكلمة مكتوبة او مسموعة او بكلتيهما، ادوارهم التي عرفوا بها فأخذتهم الى الشهرة وصنفتهم »مبدعين« في مختلف المجالات من الرسم الى النحت، ومن التمثيل الى الغناء. آه الغناء، هنا يصول قلم غازي قهوجي، ويجول فينتف ذقون المطربات قبل المطربين الذين اقتحموا »الفن« من باب الإثارة الجنسية او الواسطة السياسية او الغريزة الطائفية، أو كل ذلك معا.
ويتوقف غازي قهوجي امام ظاهرة »النارجيلة« التي باتت طقسا شبابيا في لبنان الازمة الاقتصادية المفتوحة والازمة السياسية المغلقة على اقطابها والازمة الاجتماعية التي تأخذ الجميع نحو جحيم الصراع الطبقي مغلفا بأطواق من الطوائفيات والمذهبيات التي تحوّل مطلب العدالة الى حرب اهلية.
كتاب غازي قهوجي ممتع… وكان سيكون امتع لو اختصر »اللقطات« الى نصف حجمها، احيانا.

أسماك ملونة للطائر محروق الجناح

مع الغروب يتمدد البحر شرقاً وتذوب أمواجه الزرقاء في رمال الصحراء فتستنبت فيها ورد الغياب ليلكيا كثوب الوداع.
شاسع هو الشوق، يمتد الى ما خلف الرمل والموج، ويفرش بساطاً أخضر للطريق الذي ضيّع التيه أصحابه عنه، ويعيد اللون الى صور اللقاءات التي كاد يمسحها النسيان، ويسترجع موسيقى الضحكات التي كانت تتفجر بها ثرثرات النميمة بموضوعاتها جميعا: حكايات زواج المتزوجين وطلاق المطلقين، أسعار الثياب، التي يشتريها محبو العري جزئيا أو كليا، وأسرار الفنادق، والقراءة المتأخرة لما كان مكتوبا فوق وجوه الساهرين وفي حدقات عيون المارة.
في الأرياف تأخذ النميمة الى الشجار، أما في المدينة فالنميمة تصير سياسة، وقد ترفع من يتقنها الى المناصب العليا، وقد تحول الرجال الى نساء، وقد تنجح بعض النساء عبرها في اصطناع رجال لم يكن لهم قبل الحكاية هوية او عنوان سكن معروف.
عند آخر الموج وأول الزبد يقف الصيادون بوجوههم التي تسكنها الشمس في انتظار ان يعتق البحر الصحراء من إسار الموت، فيرويها حتى تنبت كل حبة رمل وردة حمراء.. وعندها يطرحون شباكهم العتيقة ويغنون الحب بأصواتهم الجشة للأسماك الملونة فتأتيهم وتملأ سلالهم بحدائق يحملونها الى الحبيبات اللواتي يساهرن الليل على الوجه الشاحب لقمر الخريف.
الليل والصحراء والبحر وآخر القمر: من أين سيعبر شبح النسيان وكل الخطوط مشغولة بالسمر الذي يتجدد كل يوم بين الطائر محروق الجناح بنار الرمل الميت للصحراء البلا حدود، وبين السمكة مفتوحة العين على الفراغ والموج الذي لا يبلغ ذروة متعته إلا بالتكسر على الصخور، تاركا السمكة رزقا موعودا للطائر الذي سيأتي به العطش بعد ليل الغربة الطويل.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
الحب ليس أن تحب نفسك في حبيبك وأن تخاف عليه من الناس فتكره الناس، وتعزله عنهم. الحب ليس سجناً. الحب حرية، لأنه اختيار. ومن سجن الحب قتله وقتل نفسه. الحب حرية، فمارس حريتك بأن تحب كل الناس في حبيبك الذي تراه الأبهى ولكنه لا يغني عنهم ولا يلغيهم… كن إنساناً تكن كل الناس، ويكن لك كل الحب.

Exit mobile version