طلال سلمان

هوامش

أعمدة التزييف في إعلام شركات السلاطين… مع الاحتلال

أ بين »الأقلام« من يتخذ صورة صاحبه، وبينها من يتخذ صورة »موضوعه« فإن رقّ رقّ وإن منح منح وإن أعطى أعطى وإن بخل توسل وإن تجاهله تبعه فرقص وغنى وهرج وأنشد مادحاً واسترضاه متذللاً حتى يرضى فيرضيه بما يتجاوز رضا الله والوالدين.
وفي أحوال الدعة والسعة والهدأة لا لوم على مثل هؤلاء »الأقلام« ولا تثريب.. فمن بدء الخليقة كان ثمة مادح وممدوح، وكان ثمة بلاط وشاعر بلاط قد يرتفع بشعره فوق سلطانه وقد ينحدر فيغدو مجرد ماسح أو ممسحة للبلاط.
أما حين تفتقد الأوطان سيوفها وأقلامها فإن المتخلف أو الصامت من هؤلاء الأقلام يضع نفسه في موقع المشتبه به… والصمت مقبرة الجبناء، والشبهة في زمن المواجهة قاتلة.
هل من جدال في أن أوطاننا في محنة، وأنه زمان الرجال؟
* * *
ب لا جدال في أن الإعلام هو إحدى أخطر ساحات المواجهة في الحرب لتأكيد الذات ولتأكيد الجدارة بالحاضر وبالمستقبل.
وبديهي أن »الإعلام« في طوره الحديث يتطلب ثروات طائلة لكي يستطيع أن يواكب الأحداث بالخبر والصورة والتعليق والتحليل والخلفيات مع تقديم للشخصيات المؤثرة واستعادة لحركة الصراع التي تفسر الحادث اليوم بخلفياته التاريخية.
قبل التوسع في الشرح علينا تحديد الموضوع: فثمة إعلام رسمي أو حكومي أو »شبه« رسمي، وهو ببغائي، بليد، أعشى البصيرة والبصر، لا يرى إلا »سيده«، الحاكم بسلطته والمتحكّم بماله… وثمة »إعلام خاص« كان يملكه في الماضي أفراد، وقد تطور أمر ملكيته فدخلته الرساميل وملكه أصحاب الرساميل الذين غالباً ما يكونون هم هم أصحاب السلطة والمتحكّمين بمالها مالهم مال الناس.
صارت الشركات محددة الهوية: التمويل عربي، اللغة عربية، والخط أميركي، والانتشار دولي، وفوق الواجهة الملونة مساحة للراقصين من »الأقلام« الذين يكتبون أحياناً بالطلب وغالباً بتمثل رغبة الحاكم، ومن موقع عبد الرغبة وحسن تقدير ما في نفس السلطان!
* * *
ج في عديد من الاحتفالات بالإنجازات الباهرة التي حققها إعلام الشركات الحكومات مؤخراً وهو ينسحب من إرث »تخلفه القومي« الذي يشده إلى ماضي الهزيمة ملتحقاً بركب التحضير والديموقراطية بالاحتلال العسكري الأميركي (بعد الإسرائيلي)، برزت مواهب عدد من المهرجين بأقلامهم والراقصين بألسنتهم قبل إقدامهم على قبر مهنتهم التي كانت تتشرّف بدورها في النهضة الجديدة وفي رعاية الآمال بالتحرر والتقدم.
كان أصحاب السلطان يتصدرون الاحتفالات بألقابهم الإلهية و»جهلهم« الذهبي وعدائهم للثقافة، يحاضرون في العزة وهم يروّجون للاحتلال، ويفاخرون بتسامحهم مع رعاياهم بينما جلاوزتهم يطاردون »العصاة« منهم في الشوارع ويعتقلونهم لأنهم حلموا بحق التعبير عن الرأي في الهواء الطلق!
وكان طابور من »الهتيفة« يستغل لحظات الاستراحة بين نطق سام وآخر أسمى منه ليطلق عقيرته منشداً تحية لديموقراطية السلطان قبل كرمه، وتقدميته قبل نبله، وعصريته التي اكتشفت في الدين الحنيف سبقه لعصره.
أما حين يفرغ السلاطين من إطلاق الدر، كلاماً وذهباً منثوراً، فإن هؤلاء »الهتيفة« يندفعون إلى الحلبة ليرقصوا وكأنهم وصلوا للتو من مسرح البولشوي، مطلقين قصائدهم بأصواتهم الشجية وكأنهم جوقة حساسين مهاجرة وجدت أخيراً المأوى والملاذ الآمن والخير العميم، في حماية السلطان الذي أخذه بُعد نظره إلى أميركا قبل أن تكتشف الإدارة الأميركية القارة العربية بنفطها وثرواتها الطبيعية العظيمة.
* * *
د .. ولو أن الاحتفال كان بعيد ميلاد السلطان لهان الأمر.
ولو أن الابتهاج كان بازدهار الإعلام العربي في أدائه لواجبه القومي في خدمة أمته لكان ذلك أمراً مشروعاً ومرغوباً ومطلوباً.
أما الرقص والابتهاج وإطلاق الزغاريد في أعمدة طوال في مأتم الإعلام العربي فتلك جريمة يصعب احتمال وقوعها فكيف بغفرانها.
ذلك أنه تحت ظلال القصف المدفعي الثقيل الذي يمهّد لاحتلال الأرض العربية، من فلسطين وما قبلها إلى العراق وما بعده، يجري بهدوء مريب، شطب الهوية الوطنية أو القومية للإعلام العربي.. لتحل محله الشركات المذهبة لإعلام السلاطين.
فليس من التجني أن نعتبر بعض المطبوعات الصادرة باللغة العربية في »أخبارها« عموماً و»التحليلات الإخبارية« أو »التقارير الخاصة« بالذات، إنما هي مقتبسات مترجمة عن النشرات الخاصة الصادرة عن وكالة المخابرات المركزية الأميركية أو أجهزة الدعاية في البنتاغون.
كذلك ليس من التجني أن »نتهم« بعض محطات التلفزيون »العربية« وفيها »الأرضية« و»الفضائية« بأنها إنما تعبر بوعي وبقصد مقصود وليس عن طريق الخطأ أو الغفلة ونقص الانتباه عن »رأي« دوائر التوجيه في قوات الاحتلال الأميركية (وأحياناً الإسرائيلية، إن كان بعد ثمة فارق بين الاحتلالين).
* * *
ه ليس تهوراً أن يقال: أيها العرب احذروا إعلامكم الذي كان حكومياً أبكم فصار أميركياً ناطقاً بالعربية وإن كان مضمونها عبرياً في بعض الأحيان!
أيها العرب: احذروا أعمدة التزييف.. الملونة بصور الأقلام الراقصة بأجر مقتطع من رغيف أهلها!

ممدوح عدوان يرافع ضد »حيونة الإنسان«!

… وكان لا بد أن ننسى المرض، وأن نتجاوز التحرج من أن تبدو الكتابة عن الكتاب الجديد لممدوح عدوان »حيونة الإنسان«، وكأنها مجاملة يمليها واجب تعزيز مقاومته للداء الخبيث أكثر مما تفرضها أهمية النتاج الجديد لهذا المبدع متعدد المواهب، وأبرز مواهبه جديته التي تجعله يتجاوز وجعه (العام والخاص) إلى السخرية المستفزة من الأحوال والرجال وسوء المآل.
أما الكتاب فهو مرافعة تاريخية ضد الطغاة وحكام الظلام وأنظمة قمعهم التي تجرد الإنسان من آدميته وتحوله في سياق استمراريتهم الممتدة بلا نهاية واضحة إلى »حيوان«، بمعنى تجريده من كل مميزاته كإنسان: أي من عقله وأفكاره وطموحاته ومشاعره الطبيعية وبالتالي من إحساسه بالحاجة إلى التغيير ومن حقه في طلبه والسعي إليه.
يأخذنا ممدوح عدوان في رحلة عبر وقائع حياتنا الراهنة، كشعوب عربية، ليفضح مسؤولية »الناس« عن دكتاتورية الطاغية الذي تغويه استكانة الرعية أو عجزها فيندفع الى ذروة التحكم بهؤلاء المسحوقين الذين يزدادون انسحاقاً كلما انتبهوا إلى عمق الهوة الفاصلة بين جبروته وضعفهم، وبالتالي فقد يسبقون إلى الاستسلام يأساً من أنفسهم قبل أن يكون تعظيماً لألوهية الحاكم.
وهكذا تستمر المعادلة المكسورة: يفقد الإنسان إحساسه بإنسانيته بقدر يتعزز في الحاكم إحساسه بألوهيته.
إن التدجين بالإرهاب المفتوح، سجناً واعتقالاً ونفياً ومطاردة في الرزق وإذلالاً وامتهاناً حتى السحق، يحطم في الإنسان المجوَّع والمفقر والمذل والممتهنة كرامته والمعرّضة أسرته (زوجته، أخته، ابنته، أمه، أطفاله) للانتقام اغتصاباً أو اعتقالاً أو قتلاً، ويعطي ثماره المرة في خاتمة المطاف: يندثر »الإنسان« في المحكوم فيصير حطاماً يحمل المبخرة ويسعى خلف الطاغية يشكر له سماحته وعفوه، مثل كلب هرم فقد مخالبه وأنيابه وصار همّه الوحيد أن يمن عليه »صاحبه« بعظمة… في حين يستقر في نفس الحاكم ذلك الشعور بالاحتقار لشعبه العظيم الذي ألغى نفسه تماماً ليصيِّر الطاغية إلهاً يحيي ويميت، يمنح ويمنع، هو المنتقم الجبار وهو الرحمن الرحيم.
لقد أفرغ ممدوح عدوان في كتابه الجديد بعض الشحنة المتفجرة من الغيظ والقهر واليأس من تغيير الواقع العربي.
ولقد تقصّد أن يكون العنوان مستفزاً لهذا الإنسان العربي الذي »ارتضى« بالتعوّد أن يتحول إلى حيوان بينما هو لا يفتأ يباهي العالم بتلك الآية الكريمة التي جاءت في القرآن الكريم ولو بصيغة الماضي »كنتم خير أمة أخرجت للناس«.
ومن حق ممدوح عدوان أن نشهد له أنه طالما قرع باب المعتقل بقلمه،
.. وأنه طالما سعى إلى السجن بشعره أو بنثره أو بمسرحياته أو بمترجماته أو بها جميعاً.
فممدوح قد جرّب كل فنون الكتابة ونجح فيها جميعاً، وإن اختلف الناس على أي »ممدوح« هو الأفضل: الشاعر أم الكاتب المسرحي أم المترجم أم الكاتب السياسي، أم الناقد… وفي كل »ممدوح« من هؤلاء مزيج من الشاعر وصاحب الرؤية والفارس الذي تأخذه السذاجة الى شيء من الدون كيشوتية..
إنه مبدع متطلب: يكاد يطالبك بأن تتفرغ لقراءة إنتاجه، فهو متعدد المواهب، يعيش لقلمه ومن قلمه وبقلمه… ويمكن أن نضيف الآن: إنه يعيش »بألمه«، ويكتب بألمه متعجلاً يريد أن يفرغ من واجب القول قبل أن يسقط قلمه في جب الصمت الأبدي.
في كتابه الجديد يرافع ممدوح عدوان الذي عاش وعرف وسمع ورأى عن كرامة الإنسان، فيحرّض بغضب، ويعنّف بحب، ويستثير في الإنسان قدرته على الرفض والإصرار على حقوقه… لكنه يوصّف من دون أن يسمي، ويرسم الجلادين بغير وجوه تاركاً لكل منهم أن يقول: الملعون! لقد أفلت من قبضتي! فهو يدعي إن أمسكناه الآن أنه إنما يقصد غيري، بل اننا إن قبضنا عليه وفرنا له الدليل أننا المقصودون! اتركوه الآن، ورتبوا له قضية مخدرات، مثلاً أو اعتداءً على قاصر، أو إعطاء شيك بلا رصيد لمن يشتري منه طعامه!
في أي حال، فإن رمي الإنسان بوصف »حيوان« لم يعد جريمة أو تهمة تحقيرية، بل يكاد يكون عند خدم الطاغية »اسم الدلع« المحبب، في حين يستخدمونه هم مع »المشبوهين« باعتباره »وظيفتهم« إضافة إلى كونه »اسمهم الحقيقي« قبل أن يتنكروا بأسماء سادتهم العظام في الماضي أو في الحاضر..

السنونو الأخيرة تشطّر القصيدة

تعب الشوق من رصد حركة الريح التي تجتاح خيمة العشق مخترقة حدود الصبر في اتجاه نفق الذكريات.
ليس للصحراء أجنحة، وليس لعصافير الحب عش في أوراق الخريف التي كلما هزتها طلائع الخريف المتحدرة من جبال الثلج البعيدة تقصفت أضلاعها الدقيقة وتطايرت وهي تطلق ألحان الوداع الشجية.
ما أقصر المسافة بين غصن الحياة وقاع العدم: تكفي رفة جناح حتى تتهاوى الأوراق التي أعطت رواءها للعاشقين المحتمين بظلها الندي، وتتساقط بصمت يليق بمن منح عمره لغيره مرتين: الأولى حين لونت العيون برواء الربيع اليانع، والثانية حين قررت أن تذوب في أمها الأرض لعلها تبعث من جديد.
تتناثر الأوراق على سجادة العشب التي يحفظ الري خضرتها ولو باهتة، مشكلة شطوراً لأبيات شعر منسية، من عصر الحب… وهي تحمل في بعض الحالات ملامح من الوجوه التي تداخلت فتوحدت عند البوابة الظليلة لجحيم القبل!
الطائرة تعبر الأفق ملقية ظل الصحراء العطشى للحب، فوق أوراق الشجر التي تهاوت مثقلة بحكايات العشق التي لا تريد أن تنساها.
ويظل الشوق معلقاً عند سجاف خيمة العشق في انتظار أن ترحل السنونو الأخيرة تاركة خلفها الإذن بالامتلاء.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ألا تلاحظ أن وجهك يكتسب، مع الأيام، بعض ملامح وجه حبيبك وأنه »يستعير« منك بعض سماتك. ومع مرور الأيام يتزايد تشابه الحبيبين شكلاً ومعنى، وتتقارب اللغة والمنطق عندهما ويتوحد الرأي والمنطق وإن ظل التنافس قائماً: أنا أحبك أكثر، بل أنا أحبك أكثر!

Exit mobile version