طلال سلمان

هوامش

جائزة صنع الله ابراهيم!
لم يفاجئني صنع الله ابراهيم بموقفه الذي طالما تمنينا ان نشهد مثله، حين وقف في ختام »الملتقى الروائي العربي الثاني« في القاهرة، وامام حشد من »الرسميين« الذين يصبغون الثقافة بألوان كالتي يصبغ واحدهم بها شعره، ليعلن رفضه جائزة الرواية لأنها »صادرة عن حكومة لا تملك مصداقية منحها«. فاجأني، بالأحرى، قرار اللجنة، إذ أكد لي ولغيري أنها لا تعرف صنع الله ابراهيم، بالمرة، أو أنها تعرفه قليلا وتقدر انه تغير كثيرا بحيث يقبل اليوم بضغط اليأس ما لم يكن يقبله امس، بقوة الامل في التغيير فيه.
وتخيلت هذا »الصعلوك« الشريف وقد جاءته اللحظة القدرية: ان يقف في حفل رسمي مهيب، شكلا، ليقول رأيه كاملا، في الانظمة العربية عموما، وفي »أحوال مصر« خاصة، التي لا يستطيع أحد ان يخرجها من عنوان عروبتها، في فلسطين، كما لا تستطيع اتفاقات الاذعان والصلح المنفرد ان »تزرع« فيها النبتة الاسرائيلية الشيطانية.
اليوم أشعر باعتزاز وأنا أعرِّف نفسي بأنني: صديق قديم لهذا الكاتب المجيد، الذي قد تختلف معه في بعض آرائه، وقد تكون لك نظرتك الخاصة الى أدبه، ولكنك لا تستطيع الا ان تحترم صدقه والتزامه بما يؤمن به.
وافترض ان »الوزير« الذي صدمه رفض »الأديب« الجائزة، ولكنه استدرك فاعتبر الرفض شهادة للحريات في نظامه، يردد الآن »مرافعة« صنع الله ابراهيم ذاته في »التبرؤ« من اسمه… فهو كان كلما صدم الناس بالنقص في وسامته، يبادر فيقول: أبويا، الله يرحمه، كان بعيد النظر، ولذلك فقد تبرأ من المسؤولية عن شكلي، واعطاني الاسم الذي يحدد »المسؤول« فاعتبرني »صنع الله« وحده لا شريك له.
ولقد عاش صنع الله ابراهيم حياته منسجما مع أفكاره، فلم يدخل في لعبة »نفّع واستنفع«، وقرر ان يعيش من قلمه فلم يرهنه لحكومة او لأمير، وحمى بذلك حرية رأيه، وان كلفه ذلك السجن مرارا، وقد دفع الثمن راضيا وما بدل تبديلا.
على ان صنع الله لم يكتف بتسجيل موقفه السياسي للتاريخ، ولكنه قام بما هو أخطر بالمعنى الاخلاقي، اذ اعلن ان »هناك من هو أحق مني بالجائزة، بعضهم أموات مثل غالب هلسا وعبد الحكيم قاسم ومطيع زياد دماج وعبد العزيز مشري والبعض الآخر من الاحياء …
وهذه لفتة لم نعرفها الا نادرا ولذلك لم نألفها: ان يعترف الأديب بالأدباء الآخرين، وان يقدمهم على ذاته، وان يشهد لهم بالكفاءة… اللهم الا في الرثاء!
صنع الله ابراهيم: اليوم صارت الجائزة من »صنعك« ومن سينالها بعد اليوم سيكون مدينا لك. لقد جعلتها جائزة للموقف باعتباره سبب الابداع وليس باعتبارها مكافأة الانحراف!

من الحوار عبر الجامعات إلى الحوار… بمارينز الاحتلال!

بعد أقل من سنة على الغياب، يتبدى البديل من رسالة هالة سلام مقصود مفجعا للاميركيين كما لنا نحن العرب، والفلسطينيون منا في الطليعة: ها هو الحوار العربي الاميركي الذي لم يكن أبدا متكافئا ولم يتصل سويا بحيث يحقق النتائج الطيبة المرجوة منه، أي الفهم المتبادل لمطامح الطرفين ومصالحهما المشروعة، يتفجر دمويا مفتتحا مرحلة شديدة التعقيد وعظيمة الآلام وخطيرة التأثير على العلاقات بين العرب، بمجموعهم، والاميركيين بقيادتهم التي تكتسب اكثر فأكثر ملامح اسرائيلية في العين العربية.
ها هم الاميركيون فوق أرضنا بثياب الحرب علينا، يتماهون شكلا ومنطقا مع أبشع رمز للعنصرية الصهيونية: أرييل شارون، يحمون جداره للفصل العنصري علنا وبغير خجل، ويكملون غاراته الارهابية بالنار، بقوانين إرهابية للعقوبات تستهدف التدمير السياسي الشامل.
والمفارقة بين لقائنا هنا، في هذا الصرح الثقافي الأميركي بالتأسيس، وبين الذي يجري غير بعيد منا، جنوبا في فلسطين، او شرقا في العراق، وبينهما لبنان وسوريا، مفزعة، خصوصا ان الفاصل بين التمنيات والوقائع خنادق من دم.
لقد اختلف الزمان، واختلفت المواقع، واختلفت السياسات، وسقطت الشعارات البراقة لحقوق الشعوب في تقرير مصيرها… ومع ذلك لم تيأس هالة سلام مقصود ورفاقها الذين آمنوا بفلسطين، قضية الانسان، كل انسان، وحقوقه، كل حقوقه، وعملوا معها، وما زالوا يعملون بعدها، وروحها معهم على محاولة الاقناع بالبديهيات في زمن الرؤساء المرسلين!
والمسافة هائلة الاتساع بين هذا الصرح الذي أشادته على الارض اللبنانية طلائع المبشرين ورسل التقدم العلمي من الاميركيين، فكان على مدى مئة عام او يزيد، منارة عالية أسهمت في بث الثقافة والوعي في الأفق العربي الذي كان مسدودا بالاستعباد والتخلف والجهل، وبين »الدور« الحالي للاميركيين الذين جاءوا هذه المرة غزاة بثياب المارينز، يتلطون خلف دباباتهم وسياراتهم المصفحة، تحرسهم حوامات الاباشي ومن فوقها طائرات ب 52، وفي البعيد تتحفز صواريخ كروز، في انتظار تحديد الهدف العربي التالي… بينما الفيتو الاميركي في مجلس الامن يتربص بحق الفلسطيني في الحياة، فيطارده حتى يسلم للاحتلال الاسرائيلي بكامل أرضه، فارغة منه!
نكاد نبدي ارتياحنا لغيابك، يا هالة، فقد وفر الغروب المبكر آلاما مبرحة تنهك الروح بأكثر مما أنهك جسدك المرض الخبيث.
ثم ان لا شيء يدل او يشير الى اختلاف المناخ السائد، في المدى المنظور.. وهو مناخ موبوء يبدو انه يسود اكثر فأكثر في دائرة القرار الاميركي فيصهينه ويغذي بالمقابل التطرف والنزعة الانتحارية في أوساط جماعات عربية وإسلامية…
وفي ظل مثل هذا المناخ الموبوء، من الطبيعي ان يتعطل حوار الحضارات وأن تسقط الدعوة الى نصرة حقوق الشعوب المظلومة، وفلسطين هي عنوانهم المتوهج بالدم، وقد شكلت هالة مقصود وغيرها من الشهداء الاحياء، بعض رموزها، ليخلو الجو لدعاة التصادم بين الحضارات من المروجين للامبريالية الاميركية الجديدة على قاعدة: الحياة للأقوى بالسلاح، أما الحق الضعيف فإلى اندثار!
***
وحدهم شهداء القضية العادلة، الناجحون في إسقاط جدار الغربة والعزلة بين الناس، المؤمنون بالحوار بين الشعوب والتعاون والتبادل الثقافي المفتوح، يستطيعون ان يجمعوا في حياتهم مثل هذا الحشد من المتعارضين والمتمايزين في السياسات والمواقف الى حد التناقض بل والتصادم أحيانا.
وحدها فلسطين القضية تجمعنا وفي القلب منا هالة.
فلقد ارتفعت هالة سلام مقصود، كداعية، الى مستوى الشهادة، إيمانا منها بعدالة قضيتها واندفاعا في النضال من اجلها حتى الرمق الأخير، ولهذا ظلت قادرة حتى بعد غيابها على جمع هؤلاء كلهم، ليس لتأبينها وطي الصفحة التي ملأتها حتى النفس الأخير، بل ليقولوا انهم سيحاولون تعويض الغياب، والمساهمة في إكمال الرسالة… وهذه، كما تعرفون، مهمة جليلة استحقت أعمارا من الجهد الدؤوب، والصبر، والاصرار، وقهر اليأس، وتحمل الإهانات والتجريح احيانا.
بل لقد استحقت هذه المهمة ان تعطيها هالة سلام وشريك نضالها كلوفيس مقصود بدل العمر الواحد عمرين، مع الدعاء بطول البقاء لهذا المقاتل العنيد، يقظ الفكر، المقاوم المحترف، المبتدع الآمال كما يبتدع التعابير التي تحمل دمغته: كلوفيس مقصود.
هل تسمحين ايتها السيدة النبيلة حتى لتكادي تكونين شهيدة باعتراف: ان المعركة القاسية وغير المتكافئة في المال والرجال والنساء والسلاح التي خضت غمارها هناك بالأمس هي اسهل بكثير من الحروب الهائلة التي تفرضها علينا الهزيمة في ديارنا اليوم… خصوصا وقد سد »المحافظون الجدد« و»المسيحية الصهيونية« والبطر الامبريالي الابواب هناك، كما سد الخوف والعجز ونقص الايمان بالشعوب، الأبواب هنا.
وهي حرب متعددة الجبهات، ولكن أخطرها تجري داخل نفوسنا، وهي تدور اساسا حول الاولويات: هل نقاتل الاحتلال على أرضنا أم نقاتل الاسباب والذرائع والأخطاء والخطايا التي يستخدمها مزورة ليفرض علينا الوصاية الديمقراطية بعسكر احتلاله؟! ام ان علينا ان نخوض المعارك جميعها معا ونحن نكاد نكون بغير سلاح؟!
…وليس من سهرة مع محمود درويش نتركك لنذهب إليها، مع كلوفيس، يا هالة.. لنتسلى!
لقد مضى زمن السمر والسلوى… علينا الآن ان نذهب لنكمل ما كنت بصدد إنجازه، وهو أصعب ألف مرة، بحيث يليق بالشهداء.
وستبقين خيمتنا، يا هالة، كما كنت خيمة للقضية التي باتت شهيدة كما أهلها المنذورون للشهادة.
سلاما على الشهادة والشهيد.
(كلمة ألقيت في ذكرى هالة مقصود في قاعة اسمبلي هول في الجامعة الاميركية ببيروت)

البنتاغون… المثل والمثال!

المصادفات جلابة الفرح، أحيانا… وبين المصادفات أن مناسبة إعلامية مهرجانية جمعتنا بالمناضل العربي، عزمي بشارة، في دبي، لنسمع منه فنستفيد ويسمع منا فيحزن أكثر!
انتحينا عزمي بشارة وأنا، ركنا منزويا في »نادي رجال الاعمال« بالفندق، وهو للخاصة وليس للدهماء من النزلاء… وطفقنا نتبادل الهموم: يحكي لي عن الازمة الوجودية في فلسطين 1948، فأحكي له معتذرا عن ازمة الانفصام بين اللبنانيين، ويحكي لي عن المصير الضائع او المضيّع لفلسطين ما بعد 1967، فأحكي له عن الضياع العربي العام، مشرقا ومغربا، وعن تحول فلسطين من »مثال نضالي« مجيد الى مأساة ومندبة مفتوحة تمهد للتسليم بالعجز وكأنه قدر، ويحكي عن افتقاد الجماهير الى قيادة مؤهلة وذات صدقية، فأحكي له روايات مسلية عن قيادات المصادفات التي تسلينا عن احزاننا في اوقات الفراغ من النضال…
فجأة اقتحم علينا الخلوة عراقي أميركي مهجن كمن حطه السيل من علٍ!
قال بسرعة البث الإذاعي: أنا (فلان الفلاني) عراقي المولد، أهلي في بغداد، وقد سافرت الى أميركا للدراسة، وهناك صرت أميركيا.. وعشية غزو العراق تقدمت الى البنتاغون بطلب أن يفيدوا من معرفتي بالعراق. قلت: لعلني أرشّد قرارهم، فأصحح الخاطئ من معلوماتهم، وهكذا أخدم بلادي..
إلتفت عزمي إليّ، والتفت الى عزمي، ثم التفتنا معاً الى البنتاغوني، فأكمل: أنا الآن أشبه بضابط ارتباط مع القائد العام الاميركي في الشرق الأوسط، وهو للمناسبة لبناني، وهو طيب ومخلص، ومن حسن حظ العراق أنه تولى القيادة في هذه المرحلة! ثم أنه يعرف اللغة العربية، وهو يتكلم بها بطلاقة نسبية… أهله جاءوا الى أميركا قبل مئة وخمسين سنة، لكنه ما زال يحب العرب…
(استذكرت مثلاً ريفياً يقول: سكاكيننا في خواصرنا… أما عزمي فقد تمتم هامساً: طمنتنا!)
قال البنتاغوني: لعلكم شهدتم كيف منعوني من المشاركة في النقاش حول مستقبل العراق في ندوة اصطنعت على عجل.. مع أنه حقي الديمقراطي.
إبتسم عزمي: ولكنك في البنتاغون، ورأي البنتاغون معروف..
نعم عيني.. بس آني من أصل عراقي، ثم إنني بحكم عملي أعرف الكثير، وكنت سأغني النقاش بمعلوماتي ثم برأيي..
قال عزمي: الاحتلال لا يحتاج الى شروح لتبيان طبيعته ومآثره. بالنسبة إلينا فإن إنجازاته باهرة، وليس ثمة احتلال جيد واحتلال رديء. الاحتلال قهر وإذلال ومصادرة لحقوق الانسان في أرضه وفي حياته.
ولم يقتنع الضيف البنتاغوني وأصر على ان يقول فينا ما لم يتمكن من اعلانه من آراء حول ديمقراطية الاحتلال وشرعيته وربما انسانيته، لكن اعتذارنا بمواعيد السفر خلصنا من هذا المبشر بأمركة العراق كأقصر طريق الى الحرية، مقدما من نفسه المثل والمثال! … وكانت صورة »العراقي الجديد« كما يراد لنا ان نقبلها مسخا بكل المعايير!

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
تعلمت من حبيبي قراءة العيون. قلب المحب في عينيه. أنظر حبيبي فيذهب قلقي وقد ألمح أحيانا طيف إعجاب بغيري، فأشاركه اعجابه، وتستعيد العيون صفاءها. تقدير الجمال ليس انتقاصا من الحب، وعين المحب تكتشف مكامن الجمال في كل الناس. أليس المحب عنوان كل الناس!

Exit mobile version