طلال سلمان

هوامش

الاحتلال واحد… الأمة كثيرة الأعلام!
تداخلت الصور المتشابهة فأسقطت الحدود موحدة بين الضحايا في جانب، وبين القتلة في الجانب الآخر:
النساء هنا يعولن، يرفعن ايديهن بدعاء العجز الى القادر طلبا لقدرته معينا، والاطفال يجمعون الحجارة ويسعون خلف الدبابات التي تبدو في لحظة كأنها تهرب من غضبهم، والفتية يرفعون سباباتهم تدليلا على الايمان بالواحد الأحد، بينما اخوتهم الكبار يرفعون الانقاض ويحملون الجرحى مندفعين بهم فوق حمالات الأمل نحو المستشفيات الاعجز من ان ترد الحياة الى الشهداء، وفي الشارع المزركش بالدم ونثار لحم الممزقة اجسادهم بالقذائف، تتهادى المواكب بجثامين الابطال نحو المقابر التي لا تعرف الامتلاء!
في الطرف الآخر من الصورة جنود من فولاذ يزنرون بيتا بجبال من الديناميت، او يقتحمون بمدافع دباباتهم ابواب النوم في البيوت الفقيرة، او يلحقون بطائراتهم التي تخترق عيون قذائفها استار الليل وسقوف البيوت الفقيرة فتهدمها على احلام الاطفال وصور الزفاف وتنهدات التحسر على انعدام وسائل المقاومة والاستسلام للموت بهدوء لا يليق بكرامة الوطن.
أين تنتهي فلسطين ويبدأ العراق؟
أين تنتهي طوابير جيش الاحتلال الاسرائيلي، وتبدأ طوابير جيش الاحتلال الاميركي؟
لا حدود للاحتلال الذي يريد مع النفط المسجد الاقصى، ومع نابلس وطولكرم والخليل البصرة والنجف وكركوك وبغداد، ومع غابات النخيل في ارض الرافدين بساتين البرتقال في ارض الزيتون المبارك.
الاحتلال واحد بآلته العسكرية كما بمشروعه السياسي، بأطماعه المعلنة في احتكار الثروة الطبيعية كما بمخططاته المعلنة لاستكمال السيطرة على مقادير الشعوب ودولها المتهالكة تحت اثقال سلاطينها المذهبين.
أين يبدأ العراق؟ في غزة، ام في رفح، ام خلف تلك الصحراء التي منحها الجنود المتروكون لشمس حزيران حيواتهم فأضاعتها السياسة هباءً؟!
أين تبدأ فلسطين؟! في حلبجة، ام عند شط العرب المزروع الآن بالمدمرات البريطانية وناقلات النفط الاميركية؟
أين تبدأ العروبة؟ حيث ينتهي العرب!
أين يبدأ الاحتلال؟ حيث تنتهي العروبة!
أين تبدأ الفتنة؟ حيث تنتهي مقاومة الاحتلال!
الوجوه هي الوجوه بسمرتها الغامقة وأخاديد الحزن العميقة التي تشبه مجاري الانهار التي نضبت فيها المياه وقبعت تنتظر المطر!
حتى الملابس تكاد تكون هي الملابس: المرأة بالقفطان المفتوح عند أعلى العنق، والأكمام التي لا تبقي الا الايدي ظاهرة لعيون الغير، والذي تجرجر ذيله القدمان لكي يغسلهما التراب.
الاختلاف »العقائدي« الوحيد يتمثل في العقال ، اذ هو كثيف السواد، سميك في العراق، بينما يتضاءل فيصبح رقيقاً كلما انحدرت جنوباً نحو البحر.. اما الكوفيات فحمراء تقطعها الخطوط السوداء مربعات مربعات، كما ستغدو الضفة الغربية بعد إنجاز جدار الفصل العنصري بين الارض وأصحابها اليوم ومن قبل ومن بعد إلى يوم الدين.
أين تبدأ الارض العربية؟! من حيث ينتهي الاحتلال!
أين يبدأ الاحتلال؟! حيث تنتهي الارادة العربية.
الاحتلال واحد بعلمين مختلفين وخطة واحدة.
والأمة واحدة بأعلام كثيرة، بقيادات كثيرة، بجيوش كثيرة، بأوهام كثيرة، ولا سياسة… اذن فهي مساحة هائلة الامتداد تتسع لأكثر من احتلال.

الناي والغناء في مذكرات الحرف لسمير الصايغ
كل سر جاوز »الحرفين« شاع، فكان على سمير الصايغ أن يخرج على الناس بقصة عشقه التي أثقل حملها على الحروف جميعا حتى اصطنعت لذاتها لغتها الشفافة الملغية للكلام.
لم يكتب سمير الصايغ »مذكرات الحروف« بل ترك الشعر يسري على الورق ليروي الحكاية التي بدأ بها الزمان والتي تتواصل في الوجدان بلا انقطاع، جيلا إثر جيل، واهبة إنسان هذه الارض ملامحه والمعنى.
نبدأ من البداية، من سيدنا ومولانا الذي علمنا السحر: ابن عربي…
»ان الحروف أمة من الأمم/ مخاطبون ومكلفون
وفيهم رسل من جنسهم/ ولهم أسماء من حيث هم
وعالم الحروف أفصح العالم لسانا
وأوضحه بيانا«…
سمير الصايغ انتمى الى هذه »الأمة«، واتخذ له منها اسماً ومنهجاً، فكشفت له الحجاب وخاطبته وأودعته سرها العميق:
»سمعت يا معلمي/ عن نبات إذا جف التراب
يشرب من ماء الهواء
أسألك/ أتستعير الحروف من دمع العين حبراً
عندما يغص القصب؟«
ولسمير صايغ انكشف السر وتوالت الاعترافات. نبر »الألِف«:
»ويستحيل علي أن أزني/ فأنا العاشق والمعشوق معاً
»أنا اثنان الواحد/ وواحد الاثنين
أنا الناي والغناء«…
ولأن لحرف اللام علاقة مريبة مع الألف، فقد اعترف حين جاء أوان الاعتراف:
»متى رأيته أتذكره/ وارتبك
إن كنت أتوالد أم أتعرى..«
ثم ذهب الى أبعد من ذلك.. الى التوحد:
»لا بد إذن من الاقتراب منك/ كي يتم الابتعاد ويكتمل التوحد«.
أما »الياء« فحكايته أكثر تعقيداً:
»وحيد/ واحد/ لأن الحروف كلها خرجت منه«
ويرد عليه »الألف«:
»ما عرفت اسمي/ الكل يعرفني ويسميني باسمه
لا اسم لي ولي كل الأسماء.
ومن أسمائي جرح الغياب«.
لطالما هتكت السياسة أستار الحب واغتالته. لطالما نحرت اللغة! وفي حوار مع »الألف« تتهاطل الاعترافات:
» لكنك دخلت الأندلس/ منتصراً..
لم أكن في غرناطة لأشهد للانتصار/ ولا للغلبة
كنت لأشهد لي
يحلو لي أن أخدع الحمام وباقي الطير«
لم يستقم الألف، لأنه حين يستقيم يغيب.. و»ذلك ما حدث في ذلك الليل الطويل«!
فأما الهمزة فتبوح متباهية:
»أقف على رأس الألف كتنهيدة الصباح
وأمر فوق الواو كالرنين
وحين يشتد الشوق أجلس على كرسي الياء/ كالاعتلاء..«
للجيم الاشفاق لأن الاتصال يشطّره وهو بالانفصال يتوحد، وأما الواو فيتجلى في المسجد الجامع في هيئة قامة إنسان شغلته الصلاة.
سمير الصايغ جعل من الخط شعراً ومن الحرف سحراً وما زال لم يقل كل عشقه العظيم.

لحظات تأمل لعينين مغلقتين بكثافة الأفكار…
تقدمت من »اللفافة« متهيبا، يطاردني همس الوصايا التي أحفظها غيباً بتسلسل سياقها الثابت: حاذر ان توقظه! دعه يستكمل إغفاءته. لا تزعجه بحبك الآن. النوم اجدى له من متعتك. اخفض صوتك (وأنا لم انبس ببنت شفة، بعد…) لا تدع انفاسك تحرق خديه. اصابعك خشنة، لا تقربها من شعره المرشح للسقوط. هذا اقرب الى الوبر، الشعر سينبت في ما بعد. ثم انك قد تنقل إليه عدوى الزكام (… ولست مزكوما!)… انظره من حيث أنت.
ولكنني احب ان اتحقق من لون عينيه…
لونهما الآن مؤقت. عليك ان تنتظر أياماً قبل ان تكشف العينان سرهما. لا اظنه سيأخذ منك جمال العينين!
لا بد من خاتمة: انتم الرجال لا تعرفون شيئا! الهم كله علينا! آلام الحمل، منغصات الوحام، اوجاع الولادة، مشكلات الرضاعة وملاءمة حليب الأم لطفلها… ثم تجيئون فتفسدون بتدخلكم الفظ كل جهدنا في تربية أطفالنا!
يزوغ. يتظاهر بأنه قد التزم بتعليماتها فانصرف، ثم يغافلها ويعود إليه: يتفحصه بقلبه عن بعد. يتأمل تلك الملامح الدقيقة وهي في نسختها الاولى التي ستتكامل مقتربة به من الآخرين بغير ان يصير مثل اي منهم.
يفتح الطفل عينيه فجأة. يرفع يديه الصغيرتين فيدعك بهما العينين اللتين تنتظران اللون ووضوح الرؤية.
يقرأ في غموض العينين ديوانا من الشعر، وحكايات عن العشق، ومعادلات رياضية، وتتداخل اللغات فيعجز عن فك الرموز، ويقف مشدوها يتابع التماعات الصور فوق تلك العدسة البلورية التي تختزن عالما من الأسرار.
فجأة، يلمح طيف ابتسامة على شفتي الطفل الذي لا يعرف الكلام ولا يستطيع ان يميز من الناس غير انفاس والديه: اتراه فهم ما يشغلني فابتسم لسذاجتي، ام انه اشفق عليّ فابتسم ليواسيني؟
وانصرف قبل ان يضبطه الملاك الحارس متلبسا بجريمة محاورة طفل نفترض انه لا يعرف قراءة الافكار.

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب لا يغير الملامح. انه يغير العيون فترى ما لم تكن تراه. ويغير الحواس المتبلدة فتنتبه الى ما كانت غافلة عنه. هل سمعت قصيدة من جلاد؟! هل انتبه سمسار الى عطر الوردة وهو يدلل على عمارة يريد بيعها بينما حديقتها تنادي إليها الطير والفراشات وتغتسل بضوء القمر؟! الحب يستولد في الانسان إنسانه.

Exit mobile version