طلال سلمان

هوامش

شارون أمام غاندي: الوحش يقتل »النبي« مرة أخرى!
… وفي التاسع من أيلول 2003، وفي قلب نيودلهي عاصمة القارة الهندية التي كانت منهوبة، مقهورة، مقتتلة قومياتها، متصارعة طبقاتها، مهانة في كرامتها، لتستحق أن تكون »درة التاج البريطاني«، وليكون لها »نائب ملك« إنكليزي أشقر، يحكمها ويتحكّم بشعوبها وينظم الفتنة فيها لتخلص خيراتها لشركة الهند الشرقية.
في التاسع من أيلول 2003، في قلب نيودلهي، ووسط احتفال رسمي مهيب، تمّ اغتيال »أبي الهند« المهاتما غاندي، للمرة الثانية!
لم يكن هذا »النبي« الذي حرّر الإنسان في بلاده من خوف القاهر الأجنبي والظالم المحلي، قادراً هذه المرة على النظر إلى من جاء لاغتياله في عينيه، كما قبل خمسة وخمسين عاماً ورفع صوته الواهن طالباً له المغفرة، ناهياً الجماهير الملتهبة غضباً عن قتله.
كان المهاتما غاندي قد مات فعلاً، وإلا لما تجرأ أرييل شارون على التقدم في اتجاه ضريحه بإكليل الورود، والوقوف لدقيقة صامتاً… بالشماتة!
ليس من صورة أخرى يمكن أن تشتمل هذا القدر من المفارقات دفعة واحدة:
السفاح، قاتل النسوة والأطفال، قاتل البيوت المزدحمة بأنفاس التاريخ، قاتل الزيتون والبرتقال والورد والفراشات الملونة، يقف في حضرة من قال »كل ما أنشد تثليم السيف في يد الطاغية«.
بطل مجزرة صبرا وشاتيلا، في بيروت، قبل إحدى وعشرين سنة، يقف بين يدي القائل »العنف هو ناموس الوحوش«!
باني جدار الفصل العنصري في قلب فلسطين ليحاصر من تبقى من شعبها في »معازل« لا تتصل مدينة بضواحيها، ولا تتصل قرية بجيرانها، وليسلب الفلاحين أراضيهم فيزرعها بالمستعمرين الجدد المستقدمين من آخر بقاع الأرض، يأتي كالفاتح ليقيم مع الهنود الذين قاتل فيهم غاندي العنصرية، حلفاً له الطابع العنصري المعادي للعرب والمسلمين، تحت راية إدارة جورج بوش التي دمغها »المحافظون الجدد« بطابع صهيوني… هذا »الوحش« يقف كأنما لينتقم من ذلك »الرسول« الذي قال من قبل أن يولد شارون: »ومع أن العنف غير جائز شرعاً، إلا أنه عندما يعتمد لصيانة النفس أو في موقف الدفاع أو دفاعاً عن العاجزين فهو عمل بطولي يسمو كثيراً على خضوع الجبناء، فهذا الأخير لا يفيد رجلاً ولا امرأة. إنني أفضل أن أجازف بالعنف ألف مرة على أن أعقم سلالة برمتها… ولولا الطمع لما كان من حاجة إلى السلاح«.
… وها هو شارون يعقم سلالة كاملة!
أي حوار يمكن أن ينتظم بين القديس والوحش؟!
إن شرط »الحوار« أن يكون النبي ميتاً، بل مقتولاً، وإلا لما استطاع السفاح شارون أن يطأ تلك الأرض المطهّرة بدماء المهاتما غاندي، والتي قادها بالإرادة وبالدعوة وبالمثل العليا إلى الحرية.
من الطبيعي أن يعتبر »السفاح« منطق »النبي« فلسطينياً: »من ذاد عن نفسه انتصر ولو تألب عليه المعمور«!
ولسوف تثبت »فلسطينية« غاندي في ذهن شارون كلما سمع المزيد من كلماته: »العنف هو ناموس الوحوش. الروح في الوحش كامنة، فهو لا يعرف ناموساً إلا القوة الجسدية أو بالمدفعية أو بالطيران! وكرامة الإنسان تستدعي الخضوع لناموس أرفع هو قوة الروح«.
* * *
لماذا خسرنا الهند؟
هناك أسئلة كثيرة يجب أن نطرحها على أنفسنا كعرب قبل مساءلة الأصدقاء القدامى في الهند الذين نسيناهم ونسونا، على ما يبدو، حتى اتسعت الفجوة بيننا بما يتسع لاجتياح أرييل شارون؟!
عبر التاريخ العربي الإسلامي الطويل كانت النظرة إلى الهنود أنهم من أقرب أصدقاء العرب إليهم، وأن مصالح دائمة كانت تشد العرب إلى هذه القارة فضلاً عن العواطف وعن صلات القربى وعن التأثر الثقافي المتبادل الذي بين ذراه »كليلة ودمنة«.
وفي التاريخ الحديث كان العرب بمجموعهم أقرب إلى الهند منهم إلى باكستان الإسلامية… كانت رابطة الموقف السياسي في مواجهة القوى الاستعمارية ومحاولاتها لتجديد السيطرة على هذا الشرق جميعاً، تتقدم على رابطة الدين.
إن حجم التحولات التي وقعت على الضفتين، العربية والهندية، تفسر هذا التحول الخطير الذي فتح أبواب هذه الدولة، التي كنا ننزلها في قلوبنا منزلة خاصة، للعدو الإسرائيلي بأبشع رموزه، أرييل شارون، الذي لا شك في أنه وقف أمام ضريح غاندي »شامتاً«، وهي وقفة تذكّر بكلمة الجنرال أللنبي حين وقف أمام ضريح صلاح الدين الأيوبي في دمشق فخاطبه قائلاً: »ها قد عدنا يا صلاح الدين«!
لقد خسر العرب أنفسهم، فمن الطبيعي أن يخسروا أصدقاءهم.
تهاوت الجدران التي كانت تتجاور عليها صور جمال عبد الناصر وجواهر لال نهرو وجوزيب بروز تيتو وشوان لاي ونكروما ولومومبا وسيكوتوري وفيديل كاسترو، وغيرهم من اقطاب حركة عدم الانحياز، الذين حلموا وعملوا لعالم جديد، عالم الشعوب التي كانت مقهورة فتحررت، وكانت محرومة من ثرواتها فاستعادتها، وكانت ممنوعة من القرار فتمكنت من أن تستعيد القدرة على اتخاذه في ضوء مصالحها.
انفرط عقد قادة النضال التحرري ورحلوا آخذين معهم تجربتهم الفذة في الطموح لبناء عالم الإنسان.
لم يكونوا يعرفون كيف يمكن ان يبنوه، بل لعلهم حاولوا ان ينوبوا، أحياناً، عن ناسه في بنائه لهم… ولعل بعضهم قد ألغى الانسان بذريعة التعجيل في بناء العالم الجديد، أو لعلهم أرجأوا تمكين الانسان من حقوقه ريثما ينجز البناء الذي لن ينجز أبداً.
… ومن أسف أن معظم »ورثتهم« قد أخذوا عنهم الحكم وتخلوا عن الحلم، تعلقوا بالسلطة، و»علقوا« الانسان على بابها، في حين اندفعوا بها في الاتجاه المضاد.
اندثر عرب النضال. رحل عبد الناصر وجاء السادات فأخذ مصر إلى الصلح المنفرد. ورحل تيتو فتمزقت يوغسلافيا بالمذابح العنصرية ارباً. ورحل نهرو وذريته من بعده فإذا العنصرية تجتاح الهند. أما أفريقيا فأعادها الحكام الجهلة والمرتشون الذين مكن لهم الاستعمار الجديد إلى عصر»جاهليتها«.
اتسعت المساحة أمام شارون حتى بات يشعر انه بالتواطؤ مع الإدارة الأميركية وبرعايتها ملك الكون: صار أخطر سفاح أكبر تاجر لسلاح القتل في العالم، وأهم بائع مروج للتكنولوجيا الأميركية المتطورة (رقائق الكومبيوتر) وأهم خبير في الزراعة والري بالتنقيط الخ!
السفاح متقدم جداً في صناعة اداة الموت وفي استخدامها ضد »أهل البلاد الاصليين« وفي الاتجار بها أيضاً. والسفاح قد أكمل انتصاره على »جيرانه« العرب.
السفاح العنصري هنا شريك للصهيوني المسيحي في واشنطن وللعنصري الهندي الذي بذريعة كشمير والعداء التاريخي لتوأمه الباكستاني بات عدواً للإرهاب الدولي ممثلاً بالمسلمين وحليفاً موضوعياً لإسرائيل.
الطريف أن التحالف الجديد الذي يضم الحكم العنصري في الهند إلى رسول العناية الإلهية وراعي المسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة الأميركية والسفاح أرييل شارون في إسرائيل، يرفع راية »الشراكة في الديمقراطية«.
مع ذلك تبقى كلمات »النبي« غاندي صحيحة: »الحقيقة المجردة لا فائدة منها ما لم تتجسّد في كائنات بشرية تتمثل فيهم إذ يثبتون استعدادهم للموت من أجلها«.
الحلف الصهيوني العنصري قوي بمقدار ما يغيب الاستعداد لمواجهته حيث يجب.

حكاية إمراة لا تريد أن تكون غبية!
كانت متعجلة لأن توضح موقفها، لذلك باشرت كلامها قبل أن يستقر بهن المقام الى طاولة منعزلة في المقهى الأنيق. قالت: أعرف أنكما تلومانني، وأنكما تفترضان أنني قد أضعت نفسي فخسرت بيتي وزوجي. لكن الحقيقة أنني قررت أن أعيش، كما أرغب وأشتهي! لكما أن تقولا إنني قررت أن أفتح على حسابي، كما تشنع عليّ بعض ألسنة السوء.
نظرت الصديقة الأولى إليها في عينيها، بغير أن تقول شيئاً، بينما قالت الثانية بشيء من التردد: بل إننا خفنا عليك. دهمنا إحساس بأنك تنزلقين إلى حيث لا تريدين.. فلم نعرف عنك التساهل في كل ما له اتصال بالأخلاق والسلوك الحسن.
وردت بغضب: السلوك الحسن! مؤكد أنك لا تقصدين…
تدخلت الأولى مهدئة: إنما تحاول أن تنقل إليك بعض ما تتناوله ألسنة السوء من تصرفاتك وتصرفات أصدقائك الجدد!
لم يهدأ غضبها تماماً، نبرت: وأين كان هؤلاء حين كان زوجي يضطهدني فلا أشكو، ويوجه إليّ الإهانات فأعض على جرحي وأرفعه على رأسي… أما حين تجاوز حدوده وأرادني أن »أرفه« عن بعض ذوي النفوذ حتى »نمشي مصالحنا« كما كان يقول، فقد جاملته بحدود، ثم حين اكتشفت أنه »باعني« منهم لعنت أباه وآباءهم… هذا الوغد!
بعد فنجان القهوة الأول، واللفافة الرابعة، كانت قد هدأت قليلاً… وحين جاء النادل بالفنجان الثاني كانت قد حوّلتها إلى جلسة سخرية سوداء، قالت:
كنا في البداية نلتقي أزواجاً… ثم صرنا نلتقي رجالاً ونساءً، لكن في غيبة العديد من الأزواج… وفي مرة وجدنا أننا الزوجان الوحيدان والباقون فرادى، مع أن الكل يعرف الكل، زوجات وأزواجاً. وتطلّب الأمر مني بعض الوقت حتى فهمت، فامتنعت عن مصاحبته إلى مثل هذه الحفلات.. وبدأنا نختلف، ثم أخذنا تحت ضغط إصراره نتعارك، حتى جاءت القطيعة. كان يقول لي إنني غبية، متخلفة، لا أعرف البلد ولا ناسها! وأن لا أحد يطرح مثل أسئلتي الساذجة، فالمصلحة هي أساس التلاقي أو الافتراق، أما الأخلاق فمسألة نسبية.
صمتت لحظة، ثم أضافت كأنما لتنهي الحديث:
ها أنا الآن حرة! لي بيتي المستقل، أستقبل فيه من أشاء، أخرج متى أشاء، وأرجع متى أشاء. ولست طفلة، ولست غبية. ثم إنني أفهم في »المصالح« فلا تخفى عليّ! أما حكاية السمعة فهيّنة… اسألوني عن أي من صديقاتنا اللامعات أخبركن ما يشيب لهوله الأطفال! هيا دعنني أطلب لكنّ كأساً!

كما لفَّ منقاريهما غَرٍدان
مع أول خيط شمس أيقظه الهديل: كان زوجان من الحمام يتقافزان على سور الشرفة بمرح طفولي. قام يتابعهما من خلف النافذة وهو يكاد يكتم أنفاسه حتى لا تصدر عنه حركة تنفرهما.
خمن بحدسه من بينهما الذكر من خلال مشية الزهو الاستعراضية، أما الانثى فقد عرفت بها الثقة بالنفس التي جعلتها ترمق ذكرها بشوق بينما هو يدور من حولها فوق السور الضيق للشرفة العالية.
هدل فهدلت. هدلت فهدل.. ثم ضاقت المساحة فلم تعد تتسع لأكثر من مشهد يجسد شطراً من بيت لقيس بن الملوح: »كما لف منقاريهما غردان«!
الى أين يطير الهديل حاملا معه كل هذا الشجن المكثف؟!
كان البحر ساكنا كصحراء زرقاء وقد تكاثفت فوقه طبقة من أبخرة الرطوبة وفساد الهواء في المدينة ذات العماد!
الصحراء: ثمة من يتلقى الهديل في ذلك الفراغ الفسيح الذي لا يمتلئ إلا بالحب الذي يأخذ الى الجنون.
فكر: هل الجنون من نصيب الذكر وحده؟
التفت الى الشرفة. كان ذكر الحمام يدور حول نفسه وحيدا، كمن أصيب بجنون المحبين في الصحراء التي يخضرها الوجد.

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
يمازحني حبيبي فيتهمني، كلما أظهرت شيئاً من الغيرة، بأنني »إرهابية«. يقول حبيبي إن الغيرة إرهاب حقيقي، فهي تستعدي الآخرين، وتجر إلى مخاصمة أصدقاء، وتفسد الود بين رفاق عمر! ويقول حبيبي إن الغيرة اختراع صهيوني لتسميم البشر! أشهد أنني سأحب كل الناس، كل الوقت وبكل قلبي… في شخص حبيبي! أشهد أنني سأحب حتى الاستشهاد!

Exit mobile version