من فضلكم، اسمحوا للميت بأن يموت
(إلى ن.م.أ. بعد رحيله)
حين كتب الروائي الإيطالي الكبير ألبيرتو مورافيا قصته القصيرة »موت غريب في فندق« بأسلوب الكوميديا السوداء، لم يكن يعرف شيئاً عن رحلة العذاب التي ستلي ذلك الموت، والتي ستجعل من الموت بحد ذاته حادثاً قدرياً عارضاً أمام وجع الانتظار والدمع المعلق في المآقي، قبل أن تسمح السلطات المعنية للميت بأن يموت فعلاً فيرتاح (أخيراً) ويريح أهله.
فبعد أن تصعد الروح إلى بارئها يتحوّل الجسد الذي كانت تسكنه إلى مجموعة من الإجراءات المعقدة، ويكون على الأقرب إليه من أهله أن يكبت عاطفته ويرجئ حزنه وأن ينقلب إلى معقب معاملات في مجموعة من الدوائر الرسمية تشمل وزارة الصحة (المستشفى، البراد، الطبيب الشرعي، المشرحة..) والكهرباء والهاتف والعمل والجوازات والهجرة والتأمين، فضلاً عن رب العمل والكفيل ثم مكتب الشحن في شركة الطيران إلخ…
تختفي صورة الإنسان الذي كان فياضاً بحب الحياة عاشقاً للفرح والموسيقى والأطفال، ويتوجب على أهله أن يتعاطوا مع »الموت« بوصفه مجموعة من الإجراءات البيروقراطية والتعقيدات الإدارية والأوراق الرسمية التي إن أنت لم تنجزها جميعاً لم يُعترف لميتك بموته ولم يسمح لك بنقله إلى مثواه الأخير.
في لحظة، تكتشف أن »الحياة« مجموعة من الأوراق والأختام والطوابع والتواقيع والروتين والدوام الرسمي الذي متى انتهى أضاف إليك يوماً آخر من العذاب، وسحب عن وجه فقيدك ملامحه المحبّبة وذكرياتك الظريفة معه… الورق أهم من الحي فكيف بالميت؟!
لا يكفي أن تغادر الروح الجسد، وأن يغادرنا الفقيد الذي كان يشكّل بعض ملامح حياتنا، بل لا بد من استكمال الإجراءات حتى يتم اعتراف الأحياء بأن واحداً منهم قد غاب إلى الأبد.
لا يكفي »اعتراف« الراحل بأنه قد مات. المهم اعتراف أصحاب الحق في إثبات موته بتواقيعهم وأختامهم التي وحدها تحدد لك الموعد المناسب لإعلان حزنك وإطلاق سراح دموعك الملجومة بالأمر!
لا بد من تصفية كل آثارك في الحياة، لكي تبرأ ذمة الحياة من وجودك فيها.
لا تكفي الجثة شاهداً. لا تكفي إفادة الطبيب الشرعي. الأختام أهم من الحي، هي التي تشهد له بحقوقه في حياته، فكيف بعد رحيله؟! لا بد من التثبت من تصفية كل آثارك في الحياة ليسمح بموتك!
لكأنما الأحياء في تعاملهم مع من غادرهم أقسى عليه وعلى خاصته من الموت…
ثم يبرّرون ذلك كله بالقول: أما الميت فقد ارتاح حين ارتحل إلى دار البقاء وأما الذين تركهم خلفه فهم الذين تتوجب إراحتهم بتأكيد انطفاء من غادرهم انطفاءً مطلقاً.. لا عودة بعده، ولا إشكالات مع القانون!
اليوم تنتهي الرحلة التي استطالت لمدة ثمانية أيام من الدمع الجاف حزناً على »الغريب الذي مات في فندق«… ابتداءً من اليوم بات الحزن مشاعاً… وبالقانون!
عن الدعوات الملكية إلى الحوار مع الرعايا
من مشارق الأرض العربية إلى مغاربها تدوي الآن كلمة سحرية واحدة: الحوار! الحوار! لا حل إلا بالحوار! أيها الناس هلموا إلى الحوار!
الطريف أن الحكام هم يطلقون هذه الدعوة وكأنهم اكتشفوا الوجه الثالث للقمر! كأنما كانت »الشعوب«، التي اكتشفوا الآن فقط وجودها، هي التي ترفض الحوار وتقفل كل الأبواب أمام سلاطينهم فلا يسمحون لهم بالكلام!
في الإذاعات الرسمية، في الفضائيات »شبه« الرسمية، في الصحف الرسمية »تقريباً«، تتردد هذه الكلمة السحرية على مدار الساعة… بل لقد رفعتها »الظروف الحرجة التي يمر بها وطننا« الى الشفاه الملكية التي طالما أغنتها الإشارة عن الكلام فأحيت بها أو أماتت، وأعطت بها بغير حساب أو منعت بغير تبرير.
ارتفع الرعايا إلى مرتبة »المواطنين«، فجأة وبغير سابق إنذار… وتم الاعتراف بهم أصحاب حق في الكلام، هم الذين كانوا إذا ما تكلموا سجنوا في دهاليز تحت الأرض أو أرسلوا إلى سجون في قلب الصحراء، فإذا ما واصلوا الكلام (ولو في سرهم) قتلوا بتهمة التجديف على العزة.. الملكية!
»من المبكر جداً أن يعطوا حق المشاركة في القرار. لكن لا بأس بأن يأتوا إلى قاعات مكيفة ومزودة بالتقنيات الحديثة في مجال الصوت والصورة (وبالألوان)، وأن يحركوا ألسنتهم فيقولوا ما أمكنهم أن يقولوه بعد هذا التكريم والتشريف بأن يتحولوا من مجرد مستمعين إلى الأوامر والنواهي والتعليمات الجازمة الى »مشاركين« ولو بالقول!
»لقد أمر السادة الأميركيون بالديموقراطية، بل لقد هددونا بها! فلنحاول دفع الشر الأكبر بالشر الأصغر! لنأت بهؤلاء الذين ملأوا الفضاء ضجيجاً ومطالبات بحقوقهم المشروعة، فنسمح لهم بالكلام في حضورنا. إنهم لا بد سيتهيّبون، ولا بد سيعدلون في لهجتهم فيتواضعون في مطالبهم، وقد ينشق بعضهم على بعض ويصطرعون، فإن لم ينشقوا شققناهم، إن في الذهب لسحراً، وإن في المناصب لسحراً. ثم إنهم يحتاجون الى وقت طويل لكي يتخففوا من حرج الكلام في حضرتنا. ان للألقاب المستعارة من خالق السماوات والأرض هيبتها! من يجرؤ على مناكفة أصحاب الصفات التي ظلت من حق الإله الواحد الأحد الفرد الصمد، حتى جئنا فأخذناها منه، وبفضلها وسعنا المسافة بيننا وبينهم؟! من سيقول ما في نفسه بعد تلك المقدمة الطويلة التي تفرضها الجلالة أو السمو أو السيادة أو العظمة؟! فليأت الجميع إذن، وليكن حوار لا سابق له في التاريخ بين ظل الله على الأرض والرجال الذين قتلوا ظلالهم لشدة خوفهم من ظلالهم«!!
* * *
منذ دهور والشعوب العربية تحاول أن تحمي أوطانها (وحكامهم) فيمنع عليهم هذا الشرف، ويفرض عليهم الصمت لتقبل طاعتهم وليقبل منهم ولاؤهم.
قالت الشعوب لحكامها: نحن معكم ضد الأجنبي، فاسمحوا لنا بأن نحميكم من أطماعه! فكانت تلك مقتلة الشعوب!
قالت الشعوب لحكامها: نحن معكم ضد إسرائيل وأطماعها في أرضنا وثرواتنا، فتكرموا علينا بإذن القتال والموت دفاعاً عنكم وعن بلادنا وأطفالنا وحقهم في مستقبل يليق بكرامة الإنسان! فكانت تلك الخطيئة التي لا تغتفر، وكان أن أُعمل السيف في القائلين أو في من يضمر مثل هذا القول!
قالت الشعوب لحكامها: نحن معكم ضد الخطأ والإهمال والهدر والإسراف والفسق. لكم الحكم بلا منازع إذا ما راعيتكم حق الله فينا وحفظتم لنا كرامتنا بأن تحفظوا فيكم أهليتكم لشرف حكمنا!.. فكانت تلك ثالثة الأثافي!
* * *
مع ذلك، وبرغم ذلك، فإن مجرد اضطرار الحكام إلى فتح باب الحوار، يظل خطوة أولى على طريق طويل.
ولكن من شروط النجاح أن يكون للحوار هدف محدد هو فتح الباب أمام الشعوب المقهورة للمشاركة في مصيرها، ولو.. بالموت!
إن الحوار ليس هدفاً بذاته. إنه وسيلة من أجل تمكين الشعوب من أن تقول رأيها في أحوال دنياها (ودينها)، وفي أن تشارك في القرار، فلا يظل »النطق السامي« هو الأساس في العلاقة، ولا تكون »الإرادة الملكية« فوق الإرادة الإلهية، وبالطبع فوق إرادة الناس.
إن الحوار لا يكون إلا بين طرفين متساويين، متكافئين، لا فضل لأحدهما على الآخر، ولا ميزة، ولا جلالة ولا سمو ولا سيادة ولا عظمة. فالخلق كلهم عيال الله.
ومع أن الدعوة إلى الحوار جاءت متأخرة كثيراً عن موعدها الطبيعي، وجاءت اضطراراً، وبالأمر… فلا بأس، بشرط أن تكون جدية ومخلصة وتأخذ في الاعتبار أن الشعب هو مصدر الضمانة ومصدر الحماية للعروش وأصحابها، وليس الأجنبي. وأن الإنسان لا يحمي ما ليس له ومنه.
للمناسبة: هل يدخل الاعتراف بالمرأة ككائن بشري في ثنايا الدعوة الى الحوار أم ستظل »عورة«؟!
حكاية: صيادة العتمة وحامل مفاتيح الليل
قالت المرأة الممتلئة شهوة للرجل الذي اجلسته المصادفة الى جانب من لا يعرف اسمها: هل في طبعك الخجل؟! هيا اقترب مني، لا أحب ان يكون جاري الفراغ.
بوغت الرجل الذي دفعه ضيق الصدر الى اختراق الليل في هذه النقطة الساخنة، وقبل ان يرد »التحية«، سمع من يقول لجارته التي كانت تتأرجح على حبال السكر: لا تتصرفي كصيادة في العتمة!
زأرت المرأة: لو أنني صيادة عتمة لوقعت عليك…
لم يعد ثمة من منقذ إلا »المغني«، فاندفع صاحبنا نحوه يحييه ويقف الى جانبه، لعل »الصوت« يشغله عن التفكير بأثقاله النهارية.
تشاغل بالتحديق في وجوه الساهرين والساهرات، ثم انتبه الى صوتها يخترق سمعه: ألا يعجبك رقصي؟
تمايلت طرباً، وانثنى جذعها تحت وطأة نشوتها، وكادت في لحظات تنبطح أرضاً، قبل ان تستدرج شاباً من البعيد ليراقصها، فيقيل عثراتها وهي تنافس ظلها على الحائط في التثني.
قال حامل مفاتيح الليل: مسكينة، عبثاً تحاول ان تنسى الزمن فلا ينساها عمرها.
انتبه العمر الى صاحبه، وانتبه الليل الى صاحبه، فسكت المغني والعود، وعادت »الصيادة« الى عتمتها وهي تتصبب عرقاً وغيظاَ.
وكان لا بد للخارجين الى مصابيح الشارع من »اول«، فتهادى رجل المصادفة عائداً الى »أفكاره« التي لم يتعتعها السكر ولم تفقد طريقها إليه.
ومن بعيد جاءه صوتها يقول: أين هرب الجميع! دائماً يكون عليّ ان احمل الليل وحدي.
بعد حين، رد عليها حامل مفاتيح الليل بكثير من التعاطف: هذا اخف من اثقال الآخرين. هيا احملك الى بيتك!
من قلب الصمت ترامت اصداء وقع الاقدام الموغلة في قلب الوحدة!
افتحوا الأبواب لأطفال الجنة
توهج السندس في تلافيف الزنبق قبل أن يتقطر الفرح دموعاً من لجين: لقد آن للوجع أن يغادر وجه الشمس! لقد آن للابتسامة أن تعرف طريقها إلى الجبين الذي سكنته الغضون وأقام فيه الخوف خيمة لا يغادرها إلا ليعود إليها فيكاد يطفئ فيها النور!
الحياة أوسع من الأحلام، فكيف بأن نعطي فيها أكثر مما نأخذ منها. يجب أن يستحق الأحياء حياتهم. هي تعطيهم بقدر ما يقبلون عليها. عليك أن تستحق حياتك فلا تستهين بها ولا تفرط بها، وأن تقدرها فتشرك بنعمتها من يستحقها.
وحدهم الأطفال يعرفون الباب المسحور للبهجة.
وحدهم الأطفال يصطنعون لنا جنتنا ويعيدون صياغة حياتنا إذ يحققون لنا أحلامنا فيها.
افتحوا الأبواب لأطفال الجنة الذين يأتون إلينا لتتكامل فينا إنسانيتنا.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
الرجال كثير. لكن واحداً منهم يختصرهم. هو بالتأكيد ليس أغناهم. وهو بالتأكيد ليس أعظمهم وسامة. وهو بالتأكيد ليس أقواهم عضلات. وهو بالتأكيد ليس أرجحهم عقلاً. لكنه يفضلهم جميعاً. يقولون إن الحب أعمى! وحده مَن يبصر بقلبه هو من يهتدي إلى حبيبه، أما الباقون فليأكلوا الذهب وليشربوا العقل! حبيبي هو مَن يمنحني حق الاختيار، وأعظم ما في الحب أنك بفضله تختار حياتك ومن دونه يختارها لك غيرك!