طلال سلمان

هوامش

لغة الماضي و»دول« المستقبل.. العربي!
لكل زمان لغته، وليس فقط دولة ورجال!
فاللغة، بالشعارات والأفكار والمطالب، انما تعبّر عن الحالة السياسية السائدة والطموحات الشعبية بقدر ما تعبر عن حال التبدل في منظومة القيم الاجتماعية.
وأنت اليوم تستطيع ان تحدد طبيعة كل مرحلة من المراحل التي قطعها وطن صغير، كلبنان، أو أمة كبيرة كالأمة العربية، من خلال اللغة التي كانت مستخدمة في حينها، وما طرأ عليها من تبدلات وتحولات.
الكلمات هي الكلمات، لكن الدلالات تختلف باختلاف الأزمنة،
على سبيل المثال لا الحصر فإن كلمة »النهضة« التي استخدمت في مطلع القرن الماضي كانت لها الدلالة ذاتها التي أسبغت على كلمة »الثورة« بعد ذلك بعقود، وكلمة »العروبة« سرعان ما ارتدت لباسها السياسي فصارت »القومية العربية« من بعد، وتعبير »الاشتراكية«، الذي أدخل على اللغة السياسية مترجماً في البداية، سرعان ما تحول الى مجموعة من الاحزاب والحركات السياسية لكل منها مفهومها الخاص لهذا التعبير الذي وجد البعض أنه بحاجة الى استكمال أو توضيح، فعرفنا »الاشتراكية العلمية« و»الاشتراكية الديمقراطية« بل حتى »الاشتراكية الاسلامية« الخ..
أما كلمة »الاسلام« فقد عرفت من الاضافات والتعريفات والتحديدات النافية لما عداها ما لا يقع تحت عصر: من »الاسلام الثوري« الى »الاسلام السلفي« ومن »الاسلام الاشتراكي« الى »إسلام الاعتدال« الخ… وها هو الاسلام يتعرض الآن الى حملة دولية ضارية تستهدف شعائره ومضمونه (وهو قابل لتفسيرات شتى) وحتى كتابه المقدس، فتصوره وكأنه الارهاب مجسماً أو أنه يقول به ويحرض عليه عبر دعوته الى »الجهاد«!
الجديد أنه سيفرض علينا، في ما يبدو، التخلي عن المعاني المحددة لكلمات أو تسميات كانت على امتداد التاريخ تشكل ثوابت اليقين في وجداننا ومرتكزات الايمان بالذات بل هي مصدر الهوية ومنبع مكوناتها المميزة.
سقطت تعابير »سياسية« من نوع »الأمة العربية« أو »الوطن العربي« و»القومية العربية«، ومعها بالطبع، »الوحدة العربية« ولو كهدف بعيد المنال.
وها نحن نشهد سقوط أوطان عربية وتحولها الى مزق وأشلاء ونثار من مكونات تلك المناطق في عصر ما قبل الدولة.
مع فلسطين كانت كلمة »القضية« تعوّض غياب »الدولة«، وكانت »الثورة« بشعارات الكفاح المسلح تجسد العمل لإقامة أو لاستعادة الكيان السياسي بالقرار الوطني المستقل.
أما الاطار الجامع للقضية و»الثورة« ومشروع الكيان السياسي والقرار الوطني المستقل فكانت منظمة التحرير الفلسطينية.
مع اتفاق أوسلو العام 1993 استولدت »السلطة« بعملية خداع قيصرية فأحيلت »المنظمة« الى التقاعد من دون إعلان وفاتها، رسميا. وصار للسلطة مجلسها التشريعي، وشيّع جثمان »المجلس الوطني«، كما سحبت من التداول كلمات صارت »نابية« مثل »الثورة« و»الكفاح المسلح« وإشارة النصر بالسبابة والاصبع الوسطى. صار الثوار شرطة ومخابرات واستخبارات وقوة مكافحة الشغب… أما »القياديون« و»السماسرة« و»رجال الاتصالات السريّة« مع »العدو الاسرائيلي سابقا« فقد صاروا وزراء ومديرين وقادة أجهزة ورؤساء مؤسسات، بعضها لا تعرف لها مهمة، دون ان يمنع ذلك بعضهم من الاستمرار في ممارسة »البيزنس« أو »الاعمال الحرة«، لإثبات النظرية القائلة بأن »السلطة« تدر أكثر من »أغنى ثورة في التاريخ«.
على أن هذا ليس هو الموضوع، الموضوع ان فلسطين التي كنا نعرفها أو نتخيلها أو نناضل من أجل تحريرها، أو من أجل دولتها المستقلة بحدود 4 حزيران 1967 وبعاصمة لها في القدس (الشرقية) قد غابت عن الصورة، التي تشابكت فوقها الصراعات والمناورات والمؤامرات والاعتداءات، حتى هبطت »الرؤيا« على الرجل الذي يعتبر نفسه مندوب العناية الإلهية، فإذا به يخرج على الفلسطينيين ببدعة خريطة الطريق الى حلم »الدولة« التي رآها مجردة من كل ما يؤذيها كالسيادة والجيش والسلاح والحدود الواضحة… أو بتشبيه أدق كجرو صغير في جيب الكنغارو الاميركي المتوحش: جورج بوش!
ثم.. كان لا بد »للسلطة« من »حكومة« تطوي مرحلة المتحدرين من صلب »الثورة«، وهكذا عيّن ارييل شارون عبر البيت الأبيض محمود عباس رئيسا للحكومة: جرو آخر في جيب الكنغارو الاسرائيلي المتوحش: ارييل شارون!
بقيت خطوة إسرائيلية أميركية أخيرة يتوجب على محمود عباس المعزز بالجنرال دحلان ان يقطعها لتكتمل الرؤيا بحرب أهلية لا تبقي من فلسطين ما يستوجب النضال من أجله، فيستتب الأمر لأرييل شارون فوق كامل الارض التاريخية لفلسطين، ويتحقق حلم »العودة« لآخر »مهاجر« طامح بأن يكون مواطناً في »أرض الميعاد«.
أما مع المثال الثاني، العراق فالأمر مختلف: لا مجال هنا لاستبدال »الشعب« بشعب يتم استيراده بذريعة الخرافة الدينية، و»توطينه« في أرض الرافدين بطرد بضعة وعشرين مليونا من أهله الذين لا يعرفون غيره.
ما الحل، إذن؟
الحل أن يعاد شعب العراق الى »مواده الأولية« المكونة، أي الى الأعراق والاثنيات: العرب غير الكرد، والتركمان غير الكلدان… ومن ثم يستعيد العرب أنسابهم الاولى كعشائر وقبائل لكل منها بطون وأفخاد ومشايخ ونسابة وعرافون، ثم هناك الفلاحون والعامة والدهماء والزراع والصناع الخ. بعد ذلك يرجع كل عراقي الى دينه، ومن ثم الى مذهبه. فالسني غير الشيعي، بين العرب كما بين الكرد أو التركمان. والكلداني الكاثوليكي غير الآشوري الذي ربما انحرف الى الارثوذكسية، والصابئة غير اليزيدية الخ..
الحكم للاحتلال الاميركي العسكري وإن كان الحاكم العام مدنياً.. أما »مجلس الحكم الانتقالي« الذي عينه هذا الحاكم فيجب أن يكون صورة عن واقع العراق، بمواده الأولية، أي بأعراقه واثنياته وأديانه وطوائفه ومذاهبه… أوليست هذه أقصر الطرق الى تظهير الواقع العراقي بصورته الأصلية.
وغداً عند تشكيل الحكومة ستعتمد القاعدة ذاتها فتكون الرئاسة الاولى للعرب (مع الاعداد لاشتباك بين شيعتهم وسنتهم) والثانية للكرد، مثلا، والثالثة للتركمان، والخارجية للآشوريين والتربية للصابئة والثقافة لليزيديين، وقد تحجز المالية لليهود الذين على عكس الفلسطينيين سينالون حق العودة والتعويض معا.
وهكذا لا يبقى من العراق إلا الاسم التاريخي ومن العراقيين إلا حزنهم الأبدي!

بدر البقاع ينتظر من قلوبهم أوسع منه مدى..

يسري خدر خفيف في أنامل اليد اليمنى كمقدمة لانطلاق طابور من النمل مصعِّدا في الشرايين الدقيقة عبر الذراع نحو الكتف. في الحكايات ان الألم يغادر الجسم متى حان وقت الشفاء عبر الأنامل. يسهل الاستنتاج، اذن، ان الألم انما يتوغل صعودا كأنما ليستقر ويبقى.
ترى ما الصلة بين النمل والأنامل؟ انها، هنا، تكتسب معنى إضافيا يتعدى الاشتقاقات اللغوية.. لماذا تخطر على البال، الآن، صلة التعارض أو التواؤم أو المطابقة أو الجناس بين لفظتي الألم والأمل؟ لا بأس من شيء من التفقه في علوم اللغة التي يراها البعض مهددة بالانقراض وينادون بهجرها لأنها لغة عاقر لا تتواءم مع العصر الشاروني!
يتردد صدى الفراغ في تجاويف الرأس مستولداً ذلك الدوي الأخرس للقلق. ينتبه الى المفارقات التي تبتدع لغة مختلفة: هل للفراغ صدى؟ وهل يكون الدوي صامتاً حتى الخرس؟ لا بأس من شيء من التفكه اللغوي طالما ان المعنى ترف!
النمل لا يطيق البطالة. اذن فهو يؤدي مهمة ما. تخيل، للحظة، ان كل نملة تحمل شيئاً من نثار أفكاره، وتذهب بها الى وكرها. ولكن.. بماذا تنفع الافكار، لو افترضنا فيها الجدة أو الطرافة، هذا النمل الذي لا يهدر وقته أو طاقته عبثاً. هل سيأكل الافكار في ليالي الشتاء الطويلة، وهي معروضة تحت شمس النهار ولا تجد من يشتريها أو من يرتزق منها! اذن، لا بد ان طوابير النمل تؤدي مهمة اخرى يصعب عليه تحديدها.
الآن يحس بدبيب النمل في تلافيف الدماغ، أو هكذا يقدر. يستطيع ان يتصور الطوابير، المنضبطة كما الجيش الامبراطوري، غادية راجعة بانتظام كامل، وبلا تصادمات.. ولكن، ماذا تراها تنقل في الذهاب، أو في الاياب؟! فتافيت القلق؟! حبيبات الصبر؟! هل يتغذى النمل بالوجع؟!
هل رن الهاتف؟ لكأنه سمع رنينه… لكن الرنين متصل، برغم انه رفع السماعة وسمع ذلك الصوت المتصل للفراغ، والذي يشبه العويل أو صافرة سيارة الاسعاف التي تنذر بالويل! هذه ايضا مجانسة بين الويل والعويل!.. اذن، فلا بد ان الرنين يصدر من داخله لا من هذه الكتلة الصماء ذات الازرار التي تغدو، متى أضاءها الرنين، كالاشارات الضوئية لسيارات النجدة! من أين تأتي النجدة والهاتف صامت؟!
انتبه الآن الى ان طوابير النمل تندفع داخل شرايينه، وصولا الى تلافيف دماغه، ولكن بلا صافرات تنبه الى مرورها فتفتح لها الطرقات، من دون ان يعرف منطلق الحركة أو خاتمتها. كأن النمل يجري في سباق التتابع في حلقة مقفلة ليس لها أول وليس لها آخر، يبدأ الدورة من حيث انتهى أو ينتهي من حيث بدأ.
القلق ولود، والخواطر أمواج ترفعها الريح من بحر الظلمات وتصفع بها جنبات القلب والوجدان فتذرو العقل نثارا، تاركة المجال فسيحاً أمام الخرافة والتميمة والدعاء والنذور التي تتوالى كالرشى قبل إعلان التسليم بالقدر.
يطل الألم بوجهه البهي الذي صار له الآن، والذي لم يكن مرة بمثل هذا الإشراق.
لم يكن للألم أبدا عينان من الزمرد المطعَّم بالسندس، تشرقان بحب الحياة والناس والطيور والورد والبدر الذي ينصب أرجوحة الحب بين السلسلتين العملاقتين وينادي أولئك الذين قلوبهم أوسع منه مدى لكي يسمر معهم فيغنوه حبهم بأصواتهم التي أذابها الحنين.
… وحين تغسل العينان الوجع بماء الحياة، يستعيد الوجه ملامح الاطفال الذين يسكنون القلب ويسكنهم فيحملهم على شغافه الى مهجع الأمل.
غلب الأمل الألم الآن.. وها هي الأنامل تستعيد رهافتها، لتخلد طوابير النمل الى النوم.
الحياة قرار. الحياة إرادة الحياة الحب. خذ حياتك بيديك. خذ حبك بيديك. خذ الدنيا بيديك، لا أحد يستحقها أكثر منك. والبدر معلق في سماء البقاع في انتظار من يستحق أرجوحة الوسن التي لا يدخلها الا عشاق الحياة الذين نسجوها بأحلام الاطفال التي ستكون أيامهم الفضلى هي الغد.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
الحب زمن مفتوح. يقول لي حبيبي إنه عرفني من قبل ان نلتقي فانتظرني حتى وصلت! قلت في نفسي: تلك خرافة… ثم لاحظت انني معه أستعيد طفولتي فلا يفاجأ بأي تفصيل فيها، فصدقته. ها أنا الآن أعرف انني ولدت من أجل هذا الذي ولد من أجلي وأننا معا نعطي الحياة بعض إشراقها!

Exit mobile version