طلال سلمان

هوامش

أسئلة الغائب عبد الله الأحمد

(مقتطف من كلمة قيلت في تأبين عبد الله الأحمد
الذي غادرنا قبل عام)
الحزن الشخصي ترف، يا أبا علي، والرثاء انكسار، ولو أنك وقفت موقفي لصرخت بالناس: دعوا الموتى للموت والتفتوا إلى الحياة يا أبناء الحياة!
لنكمل الحوار، إذن، من حيث أوقفه قبل ان نتمه، غيابك المباغت أيها الهارب من الميدان في زمن الحرب!
الصمت مقبرة الجبناء في هذه اللحظة التي تفرض مواجهة مع الذات بالاسئلة الصعبة التي طالما تهرب غيرك من طرحها، او أننا تواطأنا جماعة فأرجأنا او تحايلنا على الاجابة متوهمين أننا نخدع العدو ونمكر به فلم نخدع غير انفسنا، ثم استفقنا على العدو يحتل محاجر العيون وينسل الى صدورنا مع أنفاسنا المبهورة بالمباغتة… مع ان قدومه إلينا بطائراته وصواريخه العابرة القارات ودباباته الخارقة للعتمة كان مجلجلا بقدر ما كان محتما!
ولكن، لنبدأ من البداية…
بين حين وآخر، كان »أبو علي« يهبط علينا في »السفير«، وكأنه قادم من كوكب فضائي وقد تأبط كمية جديدة من الافكار المتفجرة.
يقول بغير مقدمات: أعرف انك لن تقرني على ما توصلت إليه من توقعات او تقديرات او استنتاجات، وان غيرك قد يرى فيها ما يؤكد عنده نظرته إليّ كمتهور يأخذه تطرفه الى الجنون او كساذج تأخذه بساطته الى نقض المسلمات البديهية… مع ذلك اريد ان يناقشني احد فيقنعني بالخطأ في تقديري او في استنتاجي. البعض، بل الاكثرية، يمتنعون عن النقاش خوفا والبعض يهربون منه وهم يدعون لي بالشفاء العاجل، وثمة من ينافقني لينهي الجلسة بأسرع ما يمكن وبأقل الاضرار… لماذا الخوف من مواجهة المختلف؟! لماذا يخاف الجميع من الحوار. الضعيف وحده يهرب من الحوار لأنه لا يمتلك الحجة.
ومع أنني كنت قد ألفت غاراته الحوارية، إلا أنني كنت أفاجأ كل مرة، بأنه يتوغل اكثر فأكثر داخل ما كان عامة الناس يعتبرونها »مناطق محظورة« لا يجوز ان تطرح للنقاش، إما لأنهم يرون انها تهدد النظام، وإما لأنها تكشفنا امام العدو وتزوده بذخيرة اضافية، وإما لأنهم لا يملكون ترفا في الوقت مثله او لا يتمتعون بمثل حصانته النابعة من اسمه ومكانته وتاريخه الحزبي العريق.
اعترف بأنه كثيرا ما أثار غيرتي او استفز فيّ شجاعتي وجعلني أواجه نفسي: صحيح، لماذا نداري فنسكت عن الخطأ؟ لماذا ننافق بتجميل الانحراف؟! لماذا نترك الوقائع للخصوم ونرد بالشعارات التي أفرغها الاستخدام الدائم، لمناسبة او لغير مناسبة، من اي مضمون؟!
لقد طرح عبد الله الأحمد، منذ سنوات، وبإلحاح شديد، اسئلة جدية لا تجد من يعالجها بجدية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
الخلل في العلاقات اللبنانية السورية، ليس على مستوى السلطة فحسب، بل على المستوى الشعبي. كان يسأل دائما: لماذا هذا الشعب الواحد في دولتين يلاقي في علاقاته اليومية كل هذا العنت من الدولتين؟! لماذا تحور الممارسات الشعار إلى دولة واحدة لشعوب شتى؟! لماذا لم تعالج ازمة العلاقة مع اهل »النظام القديم« والمعارضين والمعترضين على احتكار السلطة في »النظام الجديد«. فظلت مصدرا لخلل سياسي فاضح لا تنفع في علاجه كفاءة الاجهزة الأمنية؟ لماذا تفرض هذه المواجهة غير المقبولة بين العروبة والمسيحيين وهم بين روادها وبناتها كفكرة وحركة تخرجنا من ماضي الأوهام والخرافات الى أمل بمستقبل على ارضنا؟!
وكان يسأل ويعيد السؤال بلا تعب: لماذا هذا الخلل الفاضح في العلاقة بين الحركة القومية والحركة الاسلامية بتلاوينها المختلفة، بما في ذلك من جنح بهم التطرف إلى الارهاب؟!
الأخطر انه كان يقيس الحالة السياسية بمدى التقدم الاجتماعي عموما والعلمي خصوصا فيصل الى حافة اليأس من امكان الانتصار في المعركة: كيف نهزم اسرائيل وفيها كل هذه المراكز الجدية للدراسات، وكل هذه المعاهد للبحث العلمي، وهي تنافس أرقى الدول وأعظمها تقدما؟! ثم كيف نهزمها ونظامها قد نجحت ديمقراطيته حتى في استيعاب اعدائها الحقيقيين من ابناء الشعب الفلسطيني بينما انظمتنا يضيق صدرها حتى بالمؤمنين بها من اهلها؟!
ومن هنا حاول احتضان المخترعين في سوريا وسائر البلاد العربية فأنشأ »جمعية المخترعين السوريين« ثم طورها الى »اتحاد المؤرخين العرب« وجعلها تحت خيمة جامعة الدول العربية لعل وعسى…
كانت فلسطين تشغله في كل حالاته: كيف يصمد هذا الشعب المتروك للريح، شبه الأعزل، والذي لا يملك غير دمه، في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي الجبار، وتتهاوى انظمة دول عربية كبرى فتعترف بالعدو وتتبادل معه التمثيل الدبلوماسي والعلاقات التجارية بل والثقافية، ولا تجد من يحاسبها.
أمامنا الآن »خريطة الطريق« الى فلسطين ما، يا أبا علي، تلغي فلسطين التاريخية والجغرافية والبشرية، فلسطين القضية، وتذيبها داخل الكيان الصهيوني، بل تجعلها »حرس حدود« اضافيا مهمته الاشتباك الدائم مع أهلها في الداخل وفصلها عن اهلها من حولها.
وكان عبد الله الأحمد مسكونا بهمّ العراق.
لقد ذهب العراق، يا أبا علي… وصار الجار الشرقي لسوريا جيش الاحتلال الاميركي لأرض السواد حتى إشعار آخر.
لا ينفع الندم والتحسر على ما فات، لكن النظام الذي جعل نفسه فوق شعبه، وبديلا من شعبه، وفرض على شعب العراق وريثه بعدما أنهكه بالحروب الغلط في الزمان والمكان والهدف، فلما جاءت الحرب الصح الوحيدة، تهاوى النظام واندثر تاركا لشعبه المهيض الجناح، الممزق الروابط، المكسور من داخله بالقمع والقتل اليومي والارهاب المفتوح، ان يواجه حتى مستعمرا قادرا على تحدي الشرعية الدولية باختراقها، وتحدي الأمة العربية بغيابها.
لقد وقع ما كنت وكنا نخاف منه:
عندما جاء العدوان، المتوقع والمنتظر والمعروف موعده للعالم كله، افتقد الناس الجيش والحرس الجمهوري والحزب، فلم يجدوا أحدا، لأن الحاكم اختصر بشخصه كل هؤلاء. أما الشعب فها هو كما جعله النظام: أشتات من الطوائف والمذاهب، أقليات وأعراق دينية وإثنية، عشائر وقبائل وأعيان، ومقابر جماعية ودهاليز اعتقالات تنفي الدولة والشعب، وتزكي الاحتلال الآتي تحت شعار الديمقراطية لشعب العراق!
وليس سقوط بغداد هو وحده مصدر الحزن، المحزن ان بغداد لم تجد من يقاتل او من يُسمح له بالقتال دفاعا عنها.
لا يقاتل المقتول، يا أبا علي، لا يقاوم المذل بقهر يشمل كرامته وخبزه وحياة أبنائه.
لا يقاتل الا الأحرار، كما كنت تقول يا أبا علي، ولا يحمي الأوطان إلا مواطنوها المتمتعون بحقوقهم فيها، حق التعبير عن الرأي، وحق الانتخاب، وحق التفكير، وحق المعارضة وحق الاختلاف مع الحاكم متى أخطأ.

بالروح، بالدم، نفديك يا هولش كان!

يقول لي العائد من بغداد مثقلاً بالقليل القليل من احزانها اليعقوبية:
فقدت الكلمات المعنى. صارت حطبا، صارت حجارة. صار للكلمة معانٍ لا تدل الا على نقيض ما تقصد. علينا ابتداع لغة جديدة. التهم الطغيان اللغة. نواجه الآن الاحتلال بلا لغة. نوصّف الحال بما كنا نعرف وليس بما هي عليه… لذلك يفترق الواقع عن التوصيف افتراقا مفزعاً.
سأضرب لك مثلاً. اتعرف بماذا يهتف الآن الفتية في اسواق بغداد؟!
تخرج التظاهرة من الزقاق، وفي مقدمها فتى غليظ الصوت يهتف فيردون: »بالروح، بالدم، نفديك يا هولش كان«!
لم افهم فترجم لي العبارة: بالروح، بالدم، نفديك يا اياً كان!
ثم شرح: لقد سقط الجميع! ولم يعد الناس يعرفون من يحكمهم، وهم في اي حال لم يكن لهم رأي في من يحكمهم، وليس لهم رأي اليوم، ويائسون من ان يكون لهم رأي غدا في حاكمهم! لكنهم يريدون ان يأمنوا شر ذلك الحاكم الذي لا يتوقعون منه الخير، على هذا فلتبق مساحة الاسم فارغة.
»بالروح، بالدم، نفديك هولش كان«! شعار العصر العربي المقبل!

أنثى خضراء في أرجوحة مفضضة

تمدد سهل البقاع انثى خضراء البطن في فراش الضياء الشاحب المولد للظلال والشبهات والشبق: كان البدر يختال في ارجوحته الفضية بين الجبلين المتشحين ببقايا من الثلج تتوزع ببياضها في ثنايا المنعرجات كعيون الحرس المكلف بالسهر على راحة العشق والعاشقين.
الطريق تمتد وسط اخيلة كل اولئك الذين اتخذوا من البدر موعداً، يتلاقون في فيئه ولا يغادرون إلا وقد غزل لهم من احلامهم قصائد يترنمون بها في الفاصل بين بدرين.
كانت نصوب الكرز مثقلة بالحبيبات التي ستمنحها الشمس، غداً، رحيقاً أحمر يماثل ما ينتثر فوق خدود المراهقات المتلهفات الى بدرهن الاول، أما شجيرات الورد فكانت مثقلة بأزرارها التي تنتظر الندى لكي تتفتح أكمامها بملامحك المحفورة على جدار الليل.
… وأنت تتقافزين بنسخك الكثيرة بين العيون المسهّدة: تكورين بعض الثلج في كفيك الصغيرتين لترشقي البدر في ظله، ثم تمسكين بخيطين من نوره لتتدلي من حالق تبحثين عمن غيّبه زمن البرد، والذي آن ان يجيئك بالدفء فتطعميه الكرز وتهيلي عليه أزرار الورد التي خبأت فيها اسمه.
بدر البقاع فضاح، يكاد يعلن كل ما ساررته به يكاد يقرأ للناس مكنوناتك. يكاد يغزلنا من ضيائه حكاية لسهرات موعده الثاني.
لا تسلم اسرارك للبدر الآتي. انه متى وصل إلى تلك الانثى الخضراء فسوف ينسى مواعيده جميعاً، ويذهب الى تلك التي تريده نهاراً ويريدها زمناً مفتوحاً لأرجوحته الفضية.

تهويمات

* تساءل حين رآها، اول مرة: ماذا يمكن ان تفعل هذه المرأة في الفاصل بين سريرين؟ اين تراها تهدر جسدها؟!
أما المرأة فكانت تقول بغير ان تنطق: لن اترك منه ما ينفع غيري!
* قال لصديقه بلهجة الشكوى: انها مفترسة! كلما جاءت إلي احسست انها تغتصبني! بل لعلها لا تأتي إلا لكي تستمتع بالتهامي!
ورد الصديق ضاحكاً: لم اجدك أسعد حالاً منك اليوم! انك تعيش ذروة إحساسك برجولتك!
* حاول ان يحصي النساء فيها فما استطاع.
قال لصاحبه: مع كل لفتة كانت تطل منها عشرات النساء تصور انني لا استطيع تمييز لون عينيها!
* ضاق بهما المكان فاضطر »ابليس اللعين« إلى الانسحاب حانقاً وهو يقول: ابناء الخطيئة الاصلية باتوا يستولدون الشياطين!

من اقوال بسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
لا تنتظر ان يطلب منك حبيبك شيئاً. الانتظار يعذبك ويشعره بشيء من المهانة. أعط فتغمرك السعادة بالشراكة. الحب كرامة ايضاً، ليس فيه ذل السؤال وليس فيه منة المتصدق… مع انني اتشوق إلى مزيد من الصدقة!

Exit mobile version