طلال سلمان

هوامش

دعوة إلى المناقشة: ماتت العروبة، عاش الاحتلال!
قد تكون الدعوة الى مناقشة هادئة لواقعة الاحتلال الاميركي للعراق، مبكرة نوعا ما، فالدماء ما تزال تسفح فتغطي أرض الرافدين، برغم السقوط المدوي لصدام حسين ونظامه.
وقد تجيء مثل هذه المناقشة متوترة نوعا، فالحدث جلل وتداعياته مفجعة، ثم إن الخلافات سابقة على الفعل العسكري ونتائجه السياسية المنظورة أو المقدرة، وهي خلافات تتجاوز الموقف من صدام وطبيعة نظامه لتلامس بعض أساسيات العمل السياسي العربي.
مع ذلك فالمناقشة ضرورية حتى لو شابها شيء من الحدة، فنحن نأتي الى التلاقي من البعيد: بعضنا من خلف جيوش الاحتلال بأوهام انه شريك في »النصر«، وبعضنا الآخر من أمام جيوش الاحتلال وبتصور انه سيكون بمعزل عن رأيه في صدام حسين ونظامه الهدف التالي للعدوان الذي لا يمكن إخفاء العلامات الاسرائيلية عن خطته الاصلية كما عن نتائجها المنطقية… بل انها تكاد تعلن عن وجودها جهارا نهارا.
بداية لا بد من حسم مجموعة من الاشكالات اللغوية سعيا الى توحيد المفاهيم حول معنى »النصر«، مثلا، او »الهزيمة«، »الاحتلال« مثلا، او »التحرير« انتهاءً بتحديد الفارق بين »النظام« كائنة ما كانت طبيعته وهو في حالة العراق فردي، دكتاتوري، ظالم وقاس الى حد الوحشية وبين »الوطن« وشعبه المقهور والمقموع والضحية، والذي لا يجوز في أي حال ان يعاقب بنظامه الطاغية لثلث قرن او يزيد قليلاً، ثم يعاقب مرة أخرى باحتلال أجنبي لإرادته ولأرضه ثم يراد منه ان يرحب بهذا الاحتلال او ان يقبله باعتباره طريقه الى الحرية والديمقراطية والوحدة الوطنية وحق تقرير المصير!
ثم لا بد من التنبيه بل من التحذير من ان الاختلاف في توصيف الحالة العراقية في هذه اللحظة قد يستولد مجموعة من الأخطاء التي تنذر بمخاطر انشقاق أهلي داخل هذا البلد الخارج من أسر نظامه منهكاً، ممزق الأوصال، والذي لن يتوحد بالاحتلال، بل قد تكون مقاومة الاحتلال الشرط الجوهري لوحدته الوطنية… وبالتالي فليس مما يساعد على توحيده التعامل مع شعبه كمجاميع من الطوائف والمذاهب والأقليات العرقية المتناحرة.
ان انقسام العرب بين »خليجيين« كانوا مهددين من »صدام« فأزاح الاحتلال الاميركي عن صدورهم هذا الكابوس، وبين »مشارقة« فقراء حسدوا ويحسدون »أخاهم الغني« في الخليج، الى حد التواطؤ عليه مع الطاغية الطامع في أرضه وخيراته، وهم الآن يقفون ضد الاميركيين ليس بدافع من موقفهم الوطني البديهي بل كامتداد لموقفهم الدائم من »الخليجيين«.
ان مثل هذا الانقسام »العاطفي« يمهد بل ويؤسس لانشقاق سياسي عربي مريع من شأنه إذا ما استشرى ان يتسبب بتدمير ما تبقى من الصلات بين العرب فيبعثرهم أيدي سبأ، ويمكن للمشروع الصهيوني الكامن في طيات الاحتلال الاميركي للعراق أن يحقق أهدافه الكاملة في كل الارض العربية، بدءا بأقصى الخليج جنوبا وصولا الى نقطة التلاقي في أقصى المغرب بين البحر المتوسط والمحيط الاطلسي.
ولسوف يصيب الانشقاق، إذا ما حصل، بعض مكونات الوجدان العربي، وبعض مرتكزات العمل السياسي العربي، فضلا عن جوهر كل ما هو مشترك بين العرب من اللغة الى الثقافة، الى منظومة القيم الاجتماعية وصولا الى الهوية ذاتها.
من ذلك ان »العروبة« باتت الآن »تهمة«، وكأنها تعني آليا التعصب القومي، او الخروج عن الاسلام، او الدكتاتورية او احتكار السلطة باسم حزب أوحد سرعان ما يذوب في زعيم أوحد..
يتصل بذلك ان »الاسلام« لم يعد واحدا… ففضلا عن الخلافات »التقليدية« بين »اسلام مستنير« و»اسلام سلفي« بكل ما استولده من »أصوليات« دمغت بالتخلف والظلامية وصولا الى الارهاب، فإن الاسلام مهدد الآن بشقه مجددا الى سنة وشيعة، وبالاستطراد الى طوائف ومذاهب ونحل أخرى، وإن ظل الجهد من الخارج كما من الداخل يتركز على إحياء تراث »الفتنة الكبرى« بين السنة والشيعة.
وفي الصراع المفتعل (مجددا) بين العروبة والاسلام تضيع أولاً فلسطين.
في أجواء هذا الصراع تتحرك أيضاً مختلف أنواع الحساسيات العرقية والطائفية والمذهبية بذريعة انها، وقد افتقدت الأمان في ظل وحدة وطنية متعذرة التحقق، من حقها أن تبحث لنفسها عن »ضمانات« ولو في ظل الأجنبي، بصيغة الاحتلال العسكري موفراً بذلك »الحماية« للخائف من »دكتاتورية« الاكثرية، ولو تمثلت بفرد طاغية يسحق أول ما يسحق »الاكثرية« التي يفترض انه يحكم باسمها.
وكل هذا يمهد لإضفاء »شرعية« واقعية على الكيان الصهيوني، ويستعيد النموذج الاسرائيلي شيئاً من »الاعتبار الواقع« كتجربة أقلوية نجحت في فرض نفسها بالقوة الذاتية تحت غطاء أجنبي أمبريالي…
هذه »الشرعية« المكتسبة بقوة السلاح كما بقوة الأمر السياسي الواقع إنما تخصم من فلسطين حقوقها لتعطي إسرائيل ما لا تستحق، وهكذا يخسر العرب مرتين.
على أن الأخطر أن العرب يفقدون في سياق الخسائر المتوالية وتراكمها، نوعاً وكماً، أهم نقاط الارتكاز السياسي لمشروعهم القومي التحرري ولترابطهم حول قضية جامعة تكاد تتجمع فيها بالضرورة بقايا مطامحهم الى الوحدة او التعاون او حتى التضامن، والى التحرر من الهيمنة الاجنبية والى بناء غدهم وفق مصالحهم وآمالهم وحصيلة نضالهم من أجل التقدم والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
* * *
كمدخل لا بد منه لمثل المناقشة المطلوبة، يمكن إيراد مجموعة من »المبادئ الحاكمة« للسياق، ومنها:
؟ إن صدام حسين لم يكن الممثل الشرعي للقومية العربية، للفكرة ولحركتها السياسية، لكي يعتبر سقوطه سقوطاً لها.
صحيح أنه كان يموّه حكمه الطاغية بشعارات حزب البعث العربي الاشتراكي، ولكن الكل يعلم أن »الحزب« كمؤسسة سياسية، ذات منهج ولو مرتبك، لم يكن له من الحكم إلا الشعار الذي يغطي دكتاتورية الحاكم وطغيانه.
لقد كان الشعار ضرورياً في مرحلة ما لإضفاء شرعية شعبية على الحكم ولإعطائه هوية سياسية اجتماعية محددة، ولكنه تحول في ما بعد الى عبء على الحاكم الفرد فكان طبيعياً ان تقتل السلطة أباها الشرعي، محتفظة بغلالة من شعاراته للتمويه.
؟ يمكن ان يقال، في هذا المجال، ان صدام حسين كان »منتحل صفة«، فهو قد صادر الحزب وطوّعه لخدمته، مفيداً من ان رصيد هذه المؤسسة السياسية التي لعبت ذات الدور البارز في التحولات التي شهدها المشرق العربي (سوريا والعراق تحديداً، وفلسطين والاردن بحدود معينة، ولبنان ولو بدرجة اقل) على امتداد الستين عاماً الاخيرة.
»مات« حزب البعث في العراق قبل ان يموت مؤسسه ميشال عفلق في بغداد وهو أشبه بوضع »اللاجئ السياسي«، مسلّماً بعجزه عن منع عملية التزوير التي تمت بحضوره، والتي لم يكن يملك ان يوقفها، معزياً نفسه بأن »الحاكم« متحدر من اصول بعثية، وهذه مصيبة أخف وقعاً من ان يحتكر »العسكر« الحكم باسم حزب صار شعاره أشبه بسلّم يرتقيه كل »جبار« حتى إذا ما بلغ القمة كسره حتى لا يستخدمه آخرون.
وبين ضحايا صدام حسين، وعددهم هائل، نخبة من المناضلين البعثيين الذين كان من الطبيعي ان يتخلص منهم حتى لا يظلوا شهوداً على انحرافه في اتجاه احتكار السلطة بشخصه (وعائلته) مع الحفاظ على شعار الحزب.
انتهى الشهود شهداء، وانتهى الحزب »اجهزة« تطارد اكثر ما تطارد المناضلين الحزبيين.
؟ لا جدال في ان الفكرة القومية قد تلقت صدمات عنيفة، ومنيت بنكسات خطيرة، وأصابها الكثير من التشوه حين رفع رايتها إما من هم اضعف من أن يمثلوها، وإما من استقووا بالحكم عليها، فخطفوا الشعار لتمويه الحكم الدكتاتوري ثم نفذوا على الارض النقيض بالمطلق لكل ما يدل عليه الشعار، وإذ »لا وحدة« و »لا حرية« و »لا اشتراكية«… أما الامة العربية فليس لها الا »الخلود«، مع انها لم تعرف قبله الحياة!
؟ تقضي الامانة هنا ان نستذكر جملة من الوقائع المتصلة بتعظيم صدام حسين ونفخه بحيث صار »البطل العربي« »حارس البوابة الشرقية«.
ان الذين عظموه وكبروه هم إجمالاً اعداء حزب البعث، سياسياً، بل لعلهم أعداء الحزبية عموما، فكيف اذا كان الشعار »وحدة، حرية، اشتراكية«؟!
لم يولد صدام حسين كبيراً، بل هو وجد من رعاه ونماه وساعده في الوصول الى احتكار السلطة، وتستر على طغيانه بكل ما نتج عن هذا الطغيان من مآس ومجازر وبؤس جعل شعب العراق اليوم، في سنة 2003، اكثر فقراً مما كان قبل خمسين عاماً، وجعل أنحاء العراق شمالاً وجنوباً وغرباً وشرقاً ووسطاً، اسوأ حالاً مما كانت قبل تسلم هذا الدكتاتور سدة الرئاسة.
على امتداد الثمانينيات، أسهم العديد من المسؤولين العرب، والخليجيين على وجه الخصوص، في تعظيم شأن صدام حسين الى حد انهم اعتبروه »فارسهم« و»حاميهم« من خطر الثورة الاسلامية في إيران. بل إن هؤلاء قد »صدّروا« صدام حسين »البطل الى فلسطين المحتلة وسائر المشرق!
أغدقوا عليه المساعدات، وتجاوزوا تحفظاتهم على الدول الشيوعية الملحدة، فاشتروا له السلاح منها، واستقبلوا بواخرها »الكافرة« في موانئهم، و»توسطوا« له لدى الاميركيين ليوفروا له المدد والتغطية السياسية… فكانوا كمن يبشر مؤمنين!
… أما حين انتهى من حربه الاميركية لحسابهم، وعلى حسابهم، فقد أنكروه الخ…
***
يمكن الاستطراد الى ما لا نهاية، فالملف ضخم وموضوعاته متعددة، ولكننا هنا إنما نحاول إثبات مجموعة من العناوين للتفكير وإطلاق المناقشة، ليس إلا.. على ان الضروري التأكيد عليه، وبغض النظر عن نتائج المناقشة، بعض المبادئ او المنطلقات الاساسية وأبرزها:
1 انه لا يجوز ان يعاقب العراق، بشعبه، على جرائم صدام حسين… هذا الشعب العظيم كان الضحية على امتداد ثلث قرن او يزيد، وقد آن ان نساعده على ان يستعيد توازنه ووعيه بما جرى له وبما يدور حوله، وبما يدبر له… ومن ثم للعرب جميعاً، عبر العراق.
2 انه لا يجوز ان يكافأ المحتل بالتعامل معه كمحرر ورسول تحضير وديمقراطية. ان في ذلك، لو تم، اهانة اضافية لشعب العراق، ومن بعد للأمة العربية جميعاً.
3 ان النكبة عامة، شاملة، ساحقة، لا أحد خارجها، من الدول والشعوب العربية، بغض النظر عن الاوهام.
والخسارة في العراق تصيب فلسطين اولاً، لكن اقطار الخليج لن تكون بين الرابحين… ولا بالطبع سائر أقطار المشرق العربي وصولاً الى المغرب الاقصى.
حكاية آه من بغداد

في ليل بغداد القديمة، سرينا ذات سهرة، بين أطياف الذين اسكنونا فيها قبل أن نعرفها.
كنا نقصد بيتاً فيه بقية من انفاس ابي نواس. وكان دليلنا الشعر المشطر فوق صفحة دجلة.
اتخذنا من صدى الايقاع هادياً، فبتنا نوقع خطواتنا على النغم الذي يغزل للسحر عباءته التي من ضباب. وحين بلغنا الباب شدتنا آهات من سبقنا من الصحاب الى النشوة.
قالت: تأخرتم، لم يتبق مني الكثير…
ورد من يحبها: إنما اتينا الى قليلك. لا طاقة لنا على كمالك.
قالت: إنما اغني لمن احب. أتعبني الغناء لأصدقاء صوتي.
قال صديق طارئ: اما انا فقد اتخذت على البعد من صوتك سكني.. إنما منيت نفسي انني، انا الآتي من زمن البرد، في صحراء الصمت، سأزود روحي بدفء يعينني في رحلتي الطويلة الى الصعب.
والتفتت تتأمل الوافد الجديد، قبل ان تقول: صرنا جماعة. سيقصر الطريق! نبر صاحب العود غاضباً: كنت استطيع ان اوفر عليكم هذه المجادلة بنقرتين.. وشدهم النغم، فأدخلهم ليل بغداد الذي يحتسب بالآهات!

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أشفق على من ضل الطريق الى الحب، فعاش وحيداً. في زمن الاحزان لا مصدر للقوة إلا الحب. كل صباح يزوّدني حبيبي بأمل يستولده من عشقه للحياة. من لا يحب يستسلم يائساً. أليس المحبون أعظم المقاتلين من اجل الحرية. حبيبي يأخذني بصموده الى الشعر.

Exit mobile version