طلال سلمان

هوامش

أوراق بيضاء من رحلة قديمة إلى أرض السواد.. (2)

… وذات رحلة صيفية، في العام 1970، اتسع مدى جولتنا في العراق لتشمل الجنوب حتى البصرة، مع جولة في مشحوف الحزن في الاهوار حيث الارض من ماء، مرورا بالوسط حيث أخصب ارض الله يغطيها ملح الاهمال فيحولها الى »سبخة«، وحيث المقاهي الفقيرة تكتظ بالفلاحين العاطلين عن العمل، فقد أعطاهم »الاصلاح الزراعي« الارض لكن استنباتها يحتاج الى مال لا يملكونه فانصرفوا عنها الى »شماتة« الملاكين القدامى من اهل الاقطاع »المباد«. ولأن »التتن« يفرج الكرب فإن هؤلاء الفلاحين ذوي الأكف المشققة بتعب الزمان، و»العُقل« الغليظة، الأميين بغالبيتهم العظمى، يمضون الساعات الطويلة متربعين فوق المقاعد الخشبية في المقاهي الشعبية يدخنون ويستعيدون »سوالف« الهموم المعتقة، ويتطلعون بعيونهم الذابلة الى الفرات وهو يعبر بهم صامتا مكمد الوجه ويرمقهم معاتبا فلا يريمون!
زرنا العتبات المقدسة في النجف وكربلاء، متجولين بين مأساة الماضي الذي لا ينتهي ومأساة الحاضر الذي لا يبدأ، ووقفنا مشدوهين امام سيل من المفارقات الموجعة التي يستولدها الظلم، والتي تشغل المؤمن عن واقعه وتفتح له »باب النجاة« بالشفاعة وتعذيب الذات بتحميلها المسؤولية عن تقصير لم يكن شريكا فيه، بل ولم يشهده حتى جده الأكبر.
كان الأحياء يتجولون نائحين، بين الأعمدة مقتربين من »السرير« فيمنعون عنه، في حين كان »المطوفون« المولجون بدفن الأموات من الوجهاء الذين أوصوا بدفنهم في دار السلام، يطوفون بالجثث أو ما تبقى منها في »الحضرة« ولا يتعبون من اطلاق الأدعية ليرددها من بعدهم »المؤمنون« الذين جاؤوا من أقاصي الارض »للزيارة« و»التبرك«، فيردد هؤلاء كلاما لا يفهمون معناه بلغة لا يعرفونها، قبل ان يعودوا الى اللغة الموحدة بين الجميع: البكاء، حتى تكاد انفاسهم تتقطع في الشهيق والنحيب والتوسل الى الاولياء بأن يتشفعوا لهم عند الله ليغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر.
القباب والمنائر والمآذن ترتفع في الفضاء، تلمع بوهج الذهب والفضة والفيروز ومكعبات البلور الماسية وعلى الارض جموع من البشر الغارقين في تعاسة الضنك والشح والحاجة الى رغيف الخبز.. اما »وادي السلام« فيباع بالشبر للموسرين الذين يرغبون في »شراء« جيرة الشهداء من الائمة والأولياء الصالحين، لعل »جيرانهم« يتشفعون لهم عند غفّار الذنوب فيغفر لهم ما تقدم وما تأخر…

مشحوف الحزن العراقي يرقص الدبكة مع أكراد الشمال
كان من حظنا، يومذاك، ان الشمال كان يعيش هدنة بين حربين من مسلسل الحروب التي لا تنتهي بين الحكم المركزي في بغداد والاكراد التائهين بين حلم الدولة المستحيلة وبين الأمل بحقوق »قومية« شعارها الحكم الذاتي داخل الوطن الواحد، بينما »القومية الأم« لا تعطي ابناءها المساواة والعدالة والحق في المشاركة في الحكم.
صعدنا في الطرقات الجبلية مبتعدين عن ارض السواد المنبسطة كراحة الكف من حول بغداد وما يجاورها جنوبا وغربا، محمولين على كف التفاهم المبدئي على اتفاق 11 آذار لسنة 1970 الذي أَقر بالحكم الذاتي للأكراد في الشمال الذي يفضلون تسميته »كردستان العراق«.
رقينا السلاسل الجبلية الى »جلالا« حيث التقينا زعيم الكرد (الراحل) الملا مصطفى البرازاني. وجلسنا إليه نتأمل وجهه الذي قدّ من صخر، وعيني النسر الصغيرتين واللتين تخترقان الوجوه والنوايا، ونسمعه يرطن بالكردية التي لا نفهمها، بينما هو يفهم عربيتنا وان عزف عن التحدث بها توكيدا للخصوصية وحقه في الاعتراف بلغته القومية. بعد وليمة الغداء قادنا بعض أركانه في جولة تظللنا خلالها شجر الزاب والسنط والدلب التي تقوم على حراسة ذلك النهر رائق الصفحة الذي يخب في الجبال نزولا ليصب في النهر الاعظم، تحت…
من »جلالا« قصدنا أربيل حيث استضافنا »الكردي التائه« جلال الطالباني، وفي اليوم التالي الى السليمانية حيث دعينا الى عرس ما تزال اجواؤه البهيجة في الذاكرة: الدبكة التي لا تقوم على »خبطة قدمكم ع الارض هدّاره«، بل تتعاقد فيها خناصر الصبايا ذوات الوجوه الصبيحة وخناصر اقرانهن من الشباب المنفوخي الصدور بالزهو… كان مهرجانا للفرح ترقشه ملابس الالف لون ولون، والأغاني التي تكاد رقة ألحانها توصل اليك معنى الكلمات التي لا تعرف لغتها.
وبين العرب والكرد توقفنا في محطة تركمانية في دهوك.. واستضافنا راعي أبرشية نسطورية، على الارجح، ما زال لها شيء من الوجود في اوساط بعض الاشوريين الذين ما زالوا شهودا على عز مضى، يعيشون في قرى انبتتها الجبال لتكون مأوى للهاربين بمعتقداتهم من اضطهاد اخوتهم في الدين الذين غادروا »الاصول« ملتحقين بمن صاروا بعد الحروب الصليبية الاكثرية.
في الشمال ايضا تعرفنا مباشرة الى »اليزيديين« في سنجار، لكن ذلك اللقاء على التخم بين الاسطورة السابقة على الدين وبين الرواية الدينية التي اعادت صياغة العقائد القديمة فجعلتها اقرب الى حكايات الماضي، يستحق حديثا منفصلا، خصوصاً أن موضوعه »إبليس«، في بلد تتعدد عبادات بعض أهله من النار إلى الشيطان، إضافة إلى الإسلام بمذاهبه والمسيحية ببعض نحلها شبه المنقرضة واليهودية التي خرج أتباعها إلى إسرائيل ليقاتلوا من كانوا على امتداد ألف وأربعمئة سنة أهلهم الأقربين.. فلنرجئه، ولنغادر الآن الى حيث كانت كل البدايات قبل ان يحولها غدر الزمان وأهله إلى نهايات: الى البصرة!

يدخل الماء في الماء فيخرج سندباد من البصرة إليها
… حين بلغنا مدينة البصرة صرنا بعض ابيات القصيدة!
سرنا محمولين على اكتاف الشعر، ودليلنا البطل الاسطوري »السندباد« الذي فيها ولد وعاش ومنها انطلق واليها كان يعود دائما بالروايات والحكايات العجاب التي ظل يتناقلها الرواة فيضيفون اليها ويعدلون في »نصها« الاصلي حتى باتت ممتعة كالخرافة، وان كانت في اصلها مدهشة مثيرة اكثر من الخرافة…
هبطنا في المطار المحطة الميناء الفندق، الذي يتميز عن مطارات الدنيا جميعا بكونه نقطة البداية او نقطة النهايات للاسفار كلها على تعدد وسائط السفر: فدونه مباشرة مصب شط العرب في الخليج، حيث »مجمع البحرين«، ومنه ينطلق القطار الى بغداد او يجيء منها بالسياح والتجار العائدين من جولة تبضع، وكذلك بابناء المدن والدساكر والقرى التي اخترقها »الريل« (وهو التعريب العراقي »للسكة الحديد« كما في مصر، و»للتران« كما في سوريا ولبنان) اي القطار… وقد خلّد مظفر النواب هذا »الريل« ببكائية بالعامية العراقية تبلغ جماليتها ذروتها اذا ما سمعتها بصوته الكربلائي العفي.
تجولنا في المدينة التي لا تعلو عماراتها كثيرا فوق غابات اشجار النخيل التي تعد بالملايين والتي تحيطها ببحر من الخضرة الداكنة يرتفع سعفها كأذرعة المؤمنين وقد تهدلت بعدما اتعبهم الابتهال والدعاء.
لم نكن بحاجة الى دليل سياحي وانما كنا نقتفي خطوات بدر شاكر السياب، ابن جيكور التي في أرياضها، وكلما هبت علينا نسمة رمتنا ببعض الشعر فشغلتنا عن شرح الدليل، الى ان انتبه فاذا به يفتح ديوان ذاكرته ليعطي لكل عمارة اسم المعشوقة التي فيها عاشت او اسم المعشوق الذي كان يحمّل النسائم رسائله المندّاة بوجيب قلبه.
لم نكن بحاجة لأن نسأل عن »خمارة البلد«، فالمدينة تحمل قلبها على وجهها، وتكاد الطرقات تحملك الى هدفك، على عادتها في حمل الذين كانوا يتعمدون ان يتوهوا فتمنعهم عند خروجهم منها مثقلين بحسرة انتهاء ليل الشرب و»الونسة« الى بيوتهم حيث لا شيء غير العتاب قبل النوم او بعده، وربما خلاله ايضا.
تجولنا بين زوايا العشق ومطارح المواعيد، وطفنا في السوق نتتبع آثار اطياف الملهمات، وخلف كل اميرة جارية تحمل الرسائل وتعود بأجوبة او يخطفها »السؤال« فيظل الجواب معلقا خلف القصيدة الى »خطرة« اخرى.
اخترقنا غابة الماء نمشي على وجهه فلا نبتل، وتوغلنا داخل غابات النخيل تحف بنا اطياف الذين غربت شموسهم وما غابوا الا قليلا.
ذهبنا الى حيث يدخل الماء في الماء فيولد ذلك المحيط المبهج الذي حمل »السندباد« في رحلاته التي تداخلت فيها »المغامرة« ب »السفارة«، و»التجارة« بالفضول والرغبة العارمة في المعرفة، بالمعاينة المباشرة، ولو مكلفة، مع عدم نسيان المهمة الاصلية: التبليغ، والتبشير بالدين الذي صارت له دولة هي الاعظم في زمانها.
أطلت علينا من المشربيات المهجورة حوريات العين لتعلمنا ان العشق لا يرحل مع غروب الشمس بل هو يصطنع شموسا لتصير الليلة الواحدة الف ليل وليل، ولكل ليل قنديله الذي يطفئه الهمس.
البصرة مغزولة بالشعر.
انها ليست اكبر المدن، وليست اعلاها عمارة، وليست اغناها بالحركة، لكنها ميناء الحب وجزيرة الحكاية تعطر هواءها انفاس الذين جعلوها ديوان شعرهم وراوية مغامراتهم خلف جبل الماء الذي تملأه اشرعة النخيل بظلال الذين غنوها فأغنوها وحفظتهم في قلبها قبل »الخراب« وبعده…
من يكشح بوم الخراب عن بصرة الحزن العراقي الذي منه تنبع جميع المحيطات والبحور والانهار التي يترك أهلها ارضها للملح، والتي تصطنع شطاً للعرب ولا عرب؟!

إبليس .. »شهيد« العمى السياسي!
كل عام يسقط خلال موسم الحج، بضعة عشر حاجاً في »منى« بسبب التدافع بين جمهور المؤمنين الحانقين المغضبين الراغبين في الانتقام من إبليس اللعين برميه »بالجمرات« التي قد تتخذ أحياناً شكل »الأحذية« أو أي شيء تطاله اليد ويمكن أن يقذف به هذا المتسبّب بجميع المصائب العائلية من الطلاق إلى خلافات الأشقاء حول الإرث إلى البطالة إلى كساد السوق… إلى مذابح شارون الفلسطينية وحروب جورج بوش الصليبية ضد الإسلام والمسلمين والعراق والعرب أجمعين.
يخطر بالبال اقتراح ساذج: لماذا لا يرجم الغاضب من أغضبه، حيث هو ومهما كانت قوة سلاحه؟ لماذا لا يرجم المظلوم حاكمه الظالم في ايوان حكمه؟ ومهضوم الحق آكل حقه في أرضه أو في تعبه في بيته أو في مكتبه، بالقانون، فإذا ما تمّ تعطيل القانون فلماذا لا يرجم من عطّله؟
ها هم الفلسطينيون يرجمون الجيشين الإسرائيليين، فلو ساعدهم العرب على رجمهم لكان لنا النصر ولهم الذلة والهزيمة؟
وها هم الأميركيون يحتلون كل أرضنا المقدسة، قبل العراق وبعده، فلماذا لا نرجمهم قبل أن يقتلونا؟
مسكين إبليس. إن من أعماهم الإيمان الغيبي عن عدوهم الحقيقي يكادون يجعلونه »شهيداً«!

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
الحب لا يدرس في الجامعات، ولا يتم تعليمه في معاهد متخصصة في تهذيب اللفظ أو تطويع طرق التعبير عنه.
بعض الحب خشن الطباع قاسي العبارة. لكن القلب نبع حنان متدفق.
بعض الحب تقوله العين واللمسة الحانية ويعجز عن إطلاقه اللسان. تعلّم كيف تقرأ عيني حبيبك.. واحذر الطوفان!

Exit mobile version