طلال سلمان

هوامش

ولادة متعسرة للعام الجديد بين عكا وقصابين

تعسرت ولادة العام الجديد في المنزل الهادئ الذي فتح بابه استثنائيا لجمهور المشاغبين الذين لا يستمتعون بالحياة إلا في قلب الصخب.
بذل الدكتور هشام شرابي أقصى جهده لاستنقاذ العام الوليد: وقف طويلا، رحب بضيوفه جميعا موزعا الابتسامات بسخاء غير مألوف، اهتم بالمعاطف، بالمقاعد، بالشراب، بالإنارة، بالطعام، بالموسيقى، وبدرجة الانسجام بين المتجاورين على غير معرفة سابقة… واستعان في المهمات الصعبة المتصلة بالأمزجة بالخبير الدولي في الشعر العربي والشاعر العربي السابح في قلب الثقافة الغربية، الابن البار ل»قصابين« التي حازت به جائزة التاريخ بعد أن كانت منسية في الجغرافيا: أدونيس.
توزع الضيوف في مدى الوهج الصادر عن الرجلين الراغبين في نسيان الزمن، لأن كلاً منهما ما زال بحاجة الى شيء من الوقت ليكمل قصيدته الأجمل، ولأن الأفكار عسيرة الولادة بعكس »الأخبار«، لا سيما تلك التي لا تسر قائلها ولا تفرح سامعها.
أما السيدات فقد وجدن، كالعادة، ما ينشغلن به عن مرور هذا المتآمر المتربص بهن دائما: الزمن… لا بأس من الطقس، كمقدمة، والطقس يفتح خزائن الثياب، والثياب تشرع باب النقد على مصراعيه، نقد المصممين ودور الأزياء التي تدغدغ بأنوثة المرأة فحولة الرجل فيدفع غالياً أثمان الثياب التي تُظهر ما يتوجب إخفاؤه، وتزوّر حقيقة الأجساد المطوية على أسرارها، فيعيد إبراز ما اندثر من معالمها، ويخفي الأخاديد والتعرجات والكتل المشوهة لخطوط الانسياب طولاً وعرضاً واستدارة… لكن المرأة تظل هي نفسها لرجلها، ولا يرافقها إعجاب الآخرين بثوبها الى البيت إلا من أجل العتاب أو ما هو أدهى.
العيد بسيط كالأطفال، إن أنت حاولت فلسفته خنقته فألغيته.
لم تتعتع المدامة في صحنها، ولم يفرض أدب الشراب على أي من الموجودين أن يخرج من صحوه… فظل الجميع في ذروة وعيهم، وإن كانوا مع تقدم الوقت، وتزايد صدى تفجر المفرقعات والرصاص في الخارج، قد أخذوا ينتبهون الى حركة العقارب في ساعاتهم، حتى إذا انتصف الليل تماما هاجوا وماجوا وانفجروا بفرح الاكتشاف: إن اليوم الجديد الذي يعرف بالغد يبدأ في الدقيقة الأولى بعد انطفاء اليوم الذي سيصير سابقا ويعرف بالأمس.
تبادل الجميع القبلات في قلب هدير الصخب الذي تصلهم أصداؤه من الخارج، وعندما عادوا الى مقاعدهم ران عليهم الصمت للحظة وكأنهم يتساءلون: هل ربحوا لأعمارهم سنة أخرى أم أنهم خسروا منها سنة أخرى.
بعد ساعة كان كل يستذكر مواعيد الغد، لا سيما من كان على سفر.
قال أدونيس إنه سيقصد »قصابين« ليتفقد أشجارها وصخورها وطفولته المعششة في السقوف وعلى الطرقات المتربة وفي ذاكرة من تبقى من العجائز الذين سينكرونه باسمه الكبير.
أما هشام شرابي فكان يجوب متسللاً عبر الليل والخواطر والأفكار، شوارع عكا، مستذكراً أنه الآن ومع بداية السنة الرابعة والخمسين من اقتلاعه منها أكثر انغراساً فيها ممّا كان قبل عام، قبل عامين، قبل عشرة، قبل عشرين، قبل ثلاثين…
»قصابين« بعيدة جدا عن أدونيس وهو فيها.
و»عكا« قريبة جداً، في بؤبؤ العين، وفي العقل والقلب والخاطر والكلمة والأنفاس، وهشام شرابي يستقبل عامه الرابع والخمسين في المنفى بعيداً عنها.
ليس للسنة رأس.
نعطيها رؤوسنا في الليلة الأولى، احتفاء بمقدمها، وأحيانا ننسى أن نستعيدها، أو تنسى طريق عودتها إلينا، في انتظار »سكرة« السنة المقبلة.

40 رحّالة، 40 مدينة أسست للحضارة… يستعيدها محمد احمد السويدي!

عند باب الدارة الانيقة كان يقف بهي الطلعة بثيابه العربية الانيقة ودماثته الملفتة، وبعد الترحيب المختارة كلماته بدقة تشي بمعرفة كاملة بضيوفه، قادنا محمد احمد السويدي الى صدر مجلسه الفسيح الذي سيمتلئ بعد دقائق حتى آخر مقعد فيه.
تقاطر اهل المجلس حتى اكتملت بهم »الهوية العربية« من اليمن السعيد وحتى السودان الشقي، ومن مصر المحروسة الى فلسطين التي تحرس دمها بدمها، من العراق المغلق عليه بالحرب، الى سوريا المسورة بالحصار، ومن الجزائر التائهة عن ذاتها الى المغرب الذي مهما اقصي يظل قريباً الى بؤبؤ العين… ومن ابعدته تونس أعاره الخليج ثيابه ووفر له فرصة ان يقول ما لديه. اما لبنان فكان كثيف الحضور كثافة مشاركته الدائمة في الحياة الثقافية العربية.
بشر! ما جديدك ايها الذي لا تتعب من محاولة تعويض ما فاتنا، وما اكثر ما فاتنا على الصعيد الفكري، حتى بتنا نعيش خارج عصرنا، نأكل مما لم ننتج، ونلبس مما لم ننسج، ونقرأ في ما لم نكتب، ونتعرف الى انفسنا عبر ما يراه الغير فينا…
وبشّر محمد أحمد السويدي: ان الجديد الذي يعمل لانتاجه المجمع الثقافي في أبو ظبي، بالتعاون مع بعض أهم الجامعات وكمبردج في الأساس، وبعض أهم مراكز التوثيق في العالم، هو مشروع جديد عن الرحّالة والمدن المؤسسة للحضارة الإنسانية.
خلاصة المشروع ان محمد أحمد السويدي وبعد بحث وتدقيق طويلين، وبالتعاون مع فريق علمي متميز، قد اختار ان يعيد الى الحياة أربعين من الرحالة عبر التاريخ وأربعين من المدن التي لعبت دورا مميزا في توليد معالم الحضارة الإنسانية وركائزها في العالم اجمع…
انها رحلة جديدة يتداخل فيها التاريخ مع الجغرافيا، وتتداخل فيها المغامرة مع الثقافة.
انها محاولة لاستعادة تلك الشبكة من العلاقات التي أكدت على الدوام وحدة الحضارة الإنسانية التي يؤسس لها الحوار والتواصل والتبادل والنقل والترجمة. لكل شعب دوره واسهامه فيها.
اتبع خطوط الرحلات عبر الطرق التي اجتاز فيها الرحالة المصاعب جميعا، ودفعوا حياتهم أحيانا، وكادوا يموتون ألف مرة في حالات أخرى، ولكنهم انجزوا في المحصلة النهائية المهمة التي انتدبوا اليها أنفسهم، فعرفوا الأمم بعضها بالبعض الآخر، واقاموا خطوط التواصل في ما بينها، وقد لحق بهم التجار معتمدين الطرق التي رسموها، فشقت القوافل الصحارى وتسلقت الجبال وخاضت عبر الأنهار او ركبت البحر حتى تم التواصل بين الشعوب، وبعد التواصل يجيء دور التبادل والتكامل.
المشروع الجديد سيبعث من قلب الموت والنسيان مدنا اندثرت وزالت عن وجه الأرض، وسيحيي دور مدن كانت لها اسهاماتها الخطيرة في دورة الحضارة الإنسانية، بدءا من أول مدينة عرفها العالم (القديم).
أربعون رحالة. أربعون مدينة. أربعون فريقا متخصصا لكل بحث.
لا يقول بتصادم الحضارات إلا من يريد تدمير التاريخ الإنساني ليبقى وكأنه وحده من اصطنع الكون، وبالتالي فهو وحده من يقرر مصيره.
محمد أحمد السويدي يشركنا عبر المجمع الثقافي في أبو ظبي في حوار الحضارات.. عمليا.

الانتقام رقصاً.. والليل جسداً

عندما دخل »الغريب« متهيباً »دار المسرات«، بالكاد انتبه إليه البعض من الحشد الراقص في ما عدا »المعلم«، الذي يدير الموسيقى والفتيات والضيوف وعبيد الخدمة.
رحب به من انتبه إليه بمصافحة متسرعة أو بهزة من رأس مثقلة بأبخرة الشراب، وجاءه من يدعوه الى المشاركة في الرقص فطلب مهلة لاستيعاب »الجو«.
كان ثمة دزينة من »الفتيات« أو ربما أكثر… فكل من في القاعة متحرك، إن لم يكن في حلبة الرقص، ففي الطريق الى زوايا لا تقع تحت النظر.
كانت وجوه »الفتيات« تدل على تعدد جنسياتهن، وإن كن جميعهن »عربيات«: »هنا يتوحد الوطن العربي، كما تنادي دائما«.. هتف له مضيفه، فوجد همسه أشبه بالفحيح، وأحس بنوع من المهانة.
الى جانبه تماما كانت تتربع »خلاسية« تجاوزت الثلاثين من عمرها. لم تكن جميلة، وكان في تصرفاتها شيء من التحفظ. قال »المعلم« هامساً له في أذنه البعيدة عنها: »هي من الأشراف!«. لم يتمالك نفسه فابتسم، بل لعله كاد يقهقه لما افترضه »نكتة«، لكن »المعلم« عاد يؤكد قوله: »إنها حقاً من الأشراف.. لكن مزاجها أقوى من نسبها، لذلك فهي تدهمنا، بين حين وآخر، مع صديقة لها أو اثنتين. سترى، إن رقصها جميل. ستنسى وجهها الداكن. إنها قبيحة متى عبست. وأفهم أنك تهرب من النظر إليها لقتامة منظرها. أصبر تفرح«.
عدل من جلسته فالتفتت إليه. ابتسم ومد يده إليها بسيكارة، فهزت رأسها شاكرة، ثم انصرفت عنه تتابع الحركة الصاخبة في حلبة الرقص.
جاءه من له به سابق معرفة فانشغلا معاً في شيء من الحديث القاتل للصمت، حتى انتبها معاً الى اختلاف في لون الموسيقى، والى خفوت في الضوء: كانت قد نزلت الى الحلبة لترقص وحدها، رافضة الرجال الذين تكوموا من حولها.
رقصت بكل جسدها. رقصت بكل جوارحها. رقصت وكأنها تنتقم. رقصت وكأنها قد انتشت بالانتقام. رقصت وكأنها قد الغت الحاضرين جميعاً. وللحظة احس وكأنها ترقص لتؤكد رفعة »نسبها« واختلافها عن »بناتها« اللواتي كن يتابعنها بشغف. صار الليل بعضاً منها. كأنها كانت تلده على الحلبة فيتمدد منها الى كل الامكنة. وحين سكن الليل، عادت الى مقعدها فاختطفت حقيبتها ومعطفها والشال الازرق وانصرفت في ومضة برق.
قال »المعلم«: هكذا هي، تأتي بلا دعوة، وتنصرف بلا وداع، تختار من يأتي بها، وتختار من يصحبها في العودة، ممن لا يعرف حكايتها…
تنهد »المعلم« بحرقة ثم اضاف: ولانني اعرفها فقد تستدعيني لآتي بها ولكنها ترفض ان اعود بها حين تريد انهاء سهرتها. اعرف الحكاية، لكن لا دور لي فيها غير »الراوية«. لا بد ان تخطئ ذات يوم فتسمح لي بالتعرف الى دواخل »الاشراف«.

حكايات مبتورة

قالت العشيقة الأولى للعشيقة الوافدة حديثا: ألم تجدي غير هذا الرجل الميت نصفه، والذي لا يعوض لسانه عن قلبه، ولا تعوض جيبه عن جسده؟
قالت العشيقة الثانية: ما يهمني أنه أعاد إليّ الثقة بنفسي.
لقد باعك الوهم؟!
أحيانا نحتاج الوهم لتأكيد ما نفترضه حقيقة!
كتبت إلى الشاعر تقول: لقد عرفتني أفضل مما أعرف نفسي..
والتفت الشاعر إلى نفسه فأنكرته، فعجب أن يكون أقدر على معرفة الآخرين منه على معرفة ذاته.
قال معاتبا: لا أستطيع أن أمضي عمري وأنا أردد »أحبك، أحبك، أحبك« حتى تطمئني إلى عاطفتي..
قالت معابثة: سأقولها نيابة عنك، وسأظل أرددها على مدار الساعة حتى تزرعني فيك فلا تنساني لحظة واحدة، ولو كمصدر للازعاج!

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا يركب الحب الطائرة لأنه أسرع منها، ثم إنه أوسع من أن تتسع له. حيثما ذهبت ستظل تسبح في بحره، وتتنفس هواءه يسبقك ويتلقاك في الذهاب ويرافقك داخل أفكارك ثم يستقبلك بالشوق وكأنه قد افترق عنك وما افترق، وان الغياب قد أججه مع أنه لم يغادرك ولم تغادره… فليس للحب باب خروج للنجاة!#

Exit mobile version