رسالة أخيرة إلى جار الله عمر… العربي!
كثير ان يجتمع على امل التغيير، حتى وهو في نحول جار الله عمر، او في يناعة محمد الدرة، كل هذه الجيوش والوحوش: الاساطيل الاميركية، والعنصرية الصهيونية النووية، والدكتاتوريات العربية، والسلفيات الدينية وغيلان التخلف الاجتماعي.
القتلة يملأون الافق والارض والبحار. يقتلونك ليكون لهم الزمان، اما امر المكان فهين.
يتبدى حملة الأمل اقلية.. الا حين يقتلون، فإذا هم »الاكثرية«! لكأنما صارت الجنازات هي المساحة المتاحة لإعلان حقنا في الحياة! تخرج فلسطين كل يوم، لتشيع فتيتها الذين يؤكدون بشهادتهم أنها اقوى من الموت الاسرائيلي.
وها هي اليمن خرجت جميعها لتودع الرجل الذي قتله حبه للملايين من اهله الذين لم يستطيعوا ان يحموا حياته.
مقتول انت مقتول، بالقصد المقصود، او بالخطأ المقصود، طفلا كنت او فتى، كهلا او شيخا، اماً او اختا او فتاة محرومة من الحلم، مفكرا او طالبا يسعى لأن يدخل حرم المعرفة… ما دمت تترنم بالكلمة المقدسة: لا!
محاصر بين الموتين: الاغتيال برصاص التعصب، او القتل الجماعي للأمة بذريعة انها مصدر »الارهاب« في حين انها ضحيته الدائمة، من الداخل والخارج.
الطائرة الاميركية المن دون طيار تغتال اليمني، بإذن من سلطته، بل بدعوة منها لتبرأ من »ارهابه«، والارهابي اليميني يقتل بتعصبه احد رموز شعبه وأحد قادة نضاله من اجل التقدم، فإذا حاول هذا المتعصب التكفير عن جريمته الوطنية اقدم على قتل ممرضات وأطباء اميركيين جاؤوا لإنقاذ حياة الافراد المرضى، بمعزل عن الاهداف الانسانية لصواريخهم المبيدة للشعوب.
ايها الشريد الطريد، المحاور المجادل، الكاتب الخطيب، المستعصي على الغواية بالمنصب او بالمال، جوّاب آفاق العقائد فاتحاً قلبك وعينيك وفكرك لتعرف الصح، الشجاع في الاعتراف بالخطأ والعودة عنه: لقد استوحدوك في غيبة ملايين المشيّعين، فواجهوك بالرصاص وواجهتهم بصدرك وبرأيك وبرقتك وبحبك وبصلابتك وبقلبك الذي يتسع لهم حتى وهم يزرعون فيه الموت.
أحمل إليك، يا جار الله، تحيات ناجي العلي الذي التقيته قبل أيام من غيابك.
كانت »نبوءاته« المتشحة بالسواد تتناثر في فضاء القاعة الانيقة في المجمع الثقافي في ابو ظبي. وقد طاف بها الجمهور الذي جاء مشدوداً بذاكرته إلى »ما تحقق« منها فضاع في غياهبه أمسه، وإلى ما »يبشره« بالأسوأ في غده.
كان »القادة« يرفعون الاصبعين، السبابة والأوسط، مهللين، بينما مقدمات الهزيمة تبدو جلية تماماً… ومع تزايد زعداد القادة المنتصرين كانت الهزائم تتوالى فتدفع بالأمة خارج التاريخ.
كان المعرض أشبه »بمؤتمر قمة« لجميع المتسببين بالهزيمة والمنتفعين بها والتي بفضلها تحولوا من حكام بالمصادفة إلى أصحاب جلالة وعظمة وسمو وسيادة طامحين إلى الخلود بينما شعوبهم إلى اندثار.
وكان الجمهور يدور وسط »النبوءات« مذهولاً، فها هي ملامح مستقبله تطالعه بكل بشاعتها، وقد رآها »زرقاء يمامة« فلسطين قبل عقدين وأكثر، ونبه إليها، وصرخ محذراً فانتبهوا إليه واطفأوا عينيه.
ولقد رأيتها انت ايضاً، فكان حتاماً عليك ان ترحل.. ليشيعك الجمهور بجلال الملايين الهادرة في شوارع تنتهي بها إلى الفراغ.
لكن ماذا يعني احتشاد هذه الوحوش والجيوش من حولنا غير اننا الاقوى، بعد، ان لم يكن اليوم فغداً او بعد غد؟!
عناية جابر: القطة التي تأكل رجالها!
تكتب عناية جابر الشعر كما تدخن. هي تفرط في المتعتين المعبرتين عن بلوغ الذروة التي تشج الصوت غناءً، والتي تنثر الرذاذ على السرة والفضة على السرير.
انها تقطر حبها قصائد، لكأنها تحب لتقول الشعر. وهي تشطّر حبيبها فتجعله ديواناً، ديوانين، ثلاثة. هي الارض ومطره يتنزل فيها فيحيي في قلمها الرغبة قبل ان ينطفئ جسدها. كأنها تذهب إلى الحب لتجيء بالشعر.
من أين لها كل هذا الوقت لتمارس حبها ولتكتبه. لكأنها رهينة جسدها وقلمها، لكأنها تغمس قلمها في جسدها المثنى غالباً، فهي تتلاشى في ظلاله الباهظة، »بلا ذاكرة لكن على إيقاع ما أطرق بردفي على زهوك«.
وهي لا تريد للنساء ان يقرأن أشعارها، فهي للرجال الاشداء الذين يختصرهم ذاك العدواني اللون الذي يرتجف منه الليل، وهو الرجل القابل للغناء، مدبوغ الوجه بالرغبة، الذي يزداد طوله حين تشعل الضوء، والذي خلف ظله تنهض إلى النافذة بفرح تعض سبابته.
من اين تأتي بكل هذا الشعر، هذه الغائمة العينين، التي بالكاد تعرف كيف تعبّر عن رغبتها في الهرب الدائم والمتكرر من المألوف، والتي تبدو قاسية حتى الجرح في غيرتها والتي تغدو ريشتها سكينا في الكتابة عنه وعما لا يعجبها من الفعل والقول، من الناس والأزمنة والأمكنة؟
تتعب عناية جابر من التنكر في ثوب الزوجة والأم، ربة البيت التي تمضي نهاراتها تفتش عن خبز لقلمها، فإذا ما جاء الليل هامت الشاعرة على وجهها تلملم التفاصيل الممتعة لما سيكون قصائد الغد، مع الوعد بأنه سيكون »هناك دائما متسع لجرح اضافي«.
لا بد ان تنسى لكي ترى الهدهد يحط على السجادة الحمراء، ولكي تلمح في عينيه البنفسجيتين فراشتين داستهما عربة خضراء، في الطريق إلى باريس.
هي صادقة تماماً حين تقول: »انها روحي التي تأوي إلى كل مكان ما عدا البيت… العادي يقتل الشعر، أما »الآخر« فيستفزه ويتحداه إلى المبارزة! انها صادقة… هذه القطة التي تأكل رجالها!
وعناية في حالة سفر دائماً، وهي وحدها ترى القطار تحت المطر بارداً وجميلاً، سرياً لم يره أحد. أما النشوة فتحتاج إلى »ايدينا معاً«.
في ديوانها الجديد »ساتان ابيض« تستذكر عناية أباها العنيد و»جدتها الكنبة الكبيرة«… ولكن، ومن دون مقدمات، يهبط عليها وعلينا »وجه صغير واحد/ يصل إلى القمة/ تشي غيفارا/ انك بمفردك تماماً«.
وبالتأكيد فليس لهذا الثائر المقتول مليون مرة علاقة »بمائه« الذي يهبط وافراً، وبالفوز الذي لا يبدو مضموناً، ولكنه فاتن تماماً.
نداء إلى عشاق عناية جابر: احذروا من هذه الساحرة التي ستحولكم إلى اشياء نازلة إلى العتمة لأن الضوء يتيم فوقها.
صور الوله.. في زمن التشرد
خوفاً من ان تنبذه العائلة التي تسكن في قلب الشعر ويثرثر به أطفالها قبل الذهاب إلى المدرسة، انتضى حسن م عبد الله قلمه وقرر ان يؤكد صحة انتسابه إلى الخيام ودردارتها التي يتم فيها تقطير القصائد، فأصدر ديوانه الذي نظم ابياته على امتداد عشرين سنة من التشرد بين الثورة التي انقلبت حرباً أهلية والغربة التي انقلبت ألفة مع الزمان ووحشة مع المكان والحب الذي انتهى صداقة وكان يريده ذروة الاكتمال.
في باريس »جف جسمي ورق/ حتى ظلي/ صار يسألني إلى اين تسير«.
هناك هبطت عليه الفجيعة التي لما تكتمل في بيروت: »مهما حاولت لن تموت بالصدفة/ ولن تغضب ولن تمل ولن تتمنى العودة الى النطفة«.
ففي بيروت الحصار، آب 1982/ وعند خط التماس بين الاخوة الاعداء المقتتلين في ظل الاجتياح الاسرائيلي، استذكر حسن م. عبد الله امه: »لو تأتين يا امي إلى المتحف/ وتحملين معك حصتي من وجبة المنزل/ قليلاً من القهوة/ سلاماً من ابي/ لو تأتين إلي لأني محاصر..«
الاهداء إلى »أبي وأمي وابنتي«، أما التشبع بالشعر فقد جاء مما سمعه من امه وخالته سكينة »الشاعرة الملهمة الشفافة والرقيقة«.. وقد أدى به التشبع بالشعر إلى نسيان مهنته كمراسل صحافي ففصل من العمل، حتى انتصر الصحافي فيه… لكن الشاعر ظل حياً: و»اني لو اكون في قبري/ لأرد همسك طائعاً/ ثم اقوم من الردى/ كأني لم أمت ابدا«.
سنة بعد سنة كان حسن م. عبد الله يجرجر الشاعر خلفه، ولا يعطيه إلا فسحات ضيقة كي يطل منها على عالمه الآخر ويومياته الرديئة مع الارقام التي تذهله فينقلها نقلاً والخوف يتملكه من ان يغرق فيها: ما شأن هذا الآتي صعلوكاً من الخيام الباريسية باقتصاد هذا الدغل الذهبي الذي اسمه دبي؟!
الخلاصة: »خمسة وأربعون عاما/ اعوام عارية وواضحة/ اعوام هاربة/ في عراء المدن والكتب«.
ديوان واحد متحدر من عائلة الشعر والخمر والسمر، هذا قليل يا حسن… انه يكفي لخمسين عاما اخرى!
عندما تركنا البرد وحيداً
تنبثقين من قلب العتمة متلفعة بشبقك حتى الاشتعال، فتتوارى الشمعة في ظلالك حتى لا يفسد الضوء متعة انحطام البعد.
كان القميص الاحمر فائضا لا بد من التخلص منه لكي تتقطر الرغبة ندى يبشر بالمطر الذي سيهطل شلالاً أسود من العطر.
لا مساحة للكلام في لحظة الاحتراق.. فلننتظر ان تهدئ النار ذاتها، ان يُخمد اللهيب اللهيب. من يعرف باب الخروج إلى دغل العاديات، حيث السيارات تترك لمصابيحها ان تكشف النوايا، وحيث اصحاب الدكاكين يبثون الاخبار على موجاتهم السرية، فإذا المدينة بعض قرية، وإذا ذؤابة الشمعة قد صنعت ألف حكاية للذين لم يتبق لهم من سيرة الغيرة لباناً كافياً ليمضغوه في زمن الجفاف الآكل للذكريات.
للشفاه مهمات اكثر نبلاً من الثرثرة،
للعيون إغماضة ما بين النشوتين،
وللشمعة ان تكتب سيرة التلاقي على حافة الليل، عندما تركنا البرد وحيداً فوق شرفة العشق فتذهب به الارجوحة صعوداً ولا ترجع إلى الارتجاف.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
هتف لي حبيبي ليلة رأس السنة بأمنياته المستحيلة: ان يتوقف الزمن لنبقى شباباً، وأن تعم السعادة ليظل لنا نصيبنا منها، وأن يعطى كل انسان من الرزق بقدر طاقته على الحب…
ثم استدرك فقال: الحب… وأما الرزق فعلى الكريم!