طلال سلمان

هوامش

ناجي العلي: لسنا حيث تركتنا، بل حيث تركناك!

»راحل أنت والزمان نزول
ومُضِّر بك البقاءُ الطويلُ«
لكأنما كان يعنيك الشريف الرضي، يا ناجي، وهو يناجي الحسين شهيداً.. فمثله أنت »يضرُّ بك البقاءْ الطويلُ«، لذا اخترت أن تختصر »زمان النزول« وهو مفتوح على مداه، فمضيت وتركتنا نتدحرج من نكسة الى هزيمة، ومن نكبة في المشرق الى كارثة تطل بقرونها في المغرب العربي، ونتجرع وجع الانكسار، وأنت تتأملنا من عليائك مشفقا: قد بلَّغت، اللهم فاشهد!
قد بلَّغت. نحن جميعاً نشهد.
ها نحن ندور بين بعض من الانذارات التي أطلقتها منبِّهاً، محذراً، هادراً، مجلجلاً، لعلنا نفيق من غفلة أو نصحو من وهم أو تهزنا الصدمات المتوالية فتحرجنا وتخرجنا عن طاعة المسببين والمنتفعين بالهزائم، وتجعلنا نتوقف للمراجعة أو للمحاسبة أو للمساءلة عما انتهينا اليه، وقد كنا نحسب أنفسنا في الطريق الى نقيضه.. لكن أمواج الأخطاء والخطايا كانت أعنف من أن نستطيع لها صدا، وهكذا فقد جرفتنا نزولاً، وما تزال وصار الارتطام بالقاع أقصى الأماني.. والقاع يهرب منا فلا ندركه ونظلّ نقصده مع وعينا بأننا قد نتحطم فيه وعليه.
أيها البهي الحضور في غيابك،
بعيداً صرت.. في بؤبؤ العين، مثل فلسطين: تحاول بدمها أن تملأ الفراغ فينا، وتعطينا من روحها قبساً لتستبقي فينا الايمان بالذات، وتقدم أطفالنا ليكونوا، حنظلة خلف حنظلة، حملة الرايات والأدلاء الى الطريق الصح.
ومثلك صارت فلسطين: هي أقوى من أن نتخلص منها، ونحن أضعف من أن نستطيع الوصول اليها، فيحدث الافتراق بالعجز!
مثلها صرت، أو أنك كنت وبقيت وما زلت: شاهداً لا يسهو ولا ينام، تتابعنا بصمتك المدوي، وقد عقدت يديك النحيلتين خلف ظهرك، لا تتوقع ما يفاجئك بالفرح، وإما المصائب والنكبات فستظل خبزنا اليومي حتى نغير ما بأنفسنا.. لهفي على حلم التغيير.
* * *
مستحيل الحديث عن ناجي العلي بصيغة الماضي، لأنه ومنذ البدء قد اخترق ببصيرته حجب الأوهام ونبهنا الى أن واقعنا عاقر لا ينجب مستقبلاً، وها نحن نكاد نبكي ذلك الماضي الذي أمضى ناجي العلي عمره يقاتل ضد أمواج الغلط التي كانت تختطف الصح فيه فتخفيها وتتركنا تائهين عن أنفسنا وعن حقيقة عدونا وعن حركة التاريخ في هذه المرحلة الحافلة بالثورات العلمية والانجازات التقنية القادرة على اصطناع حياة جديدة، بمفاهيم مختلفة وقيم مغايرة لما ألفناه.
استذكر هنا وبسرعة، محطات قصيرة في عمرنا المشترك الذي امتد لأكثر من عشرين عاماً، وما زال مفتوحاً على الغد:
وقعت هزيمة 1967 ونحن معاً في مجلة »الحرية« وكانت آنذاك على وشك الخروج من دورها كلسان حال حركة القوميين العرب، التي كانت تتهاوى نحو الانفراط في تنظيمات قطرية: لكل كيان سياسي مجموعته التي ستبتعد مشدودة بجاذبية السلطة عن القومية لتغرق في الكيانية التي سرعان ما سوف تغدو مقاتلة للعرب.
قال ناجي: هزيمتنا فينا، لماذا نهاجم اسرائيل. أليست هي العدو؟ هل ننتظر من العدو النجدة لانقاذنا، او ان يساعدنا على ذاته لكي ننتصر عليه.
وتحولت ريشته الى سيف يطارد به صناع الهزيمة فينا. كانت الريشة اضعف من الفكرة، في حين كانت الارادة اقوى من الواقع.
بعد حين جاء يودعني. قال: سأذهب الى الكويت مع »الشباب« في »الطليعة«.
ليس مهما اين تكون، المهم ألا تضيع عن هدفك… انها مجرد دورة تدريبية في ساحة أخرى ضد العدو الواحد.
قلت: فلسطين هي دنيانا، مخيمنا حيثما ذهبت فهي خلفك وفوقك وامامك. حيثما توجهنا سنبقى في المخيم، سواء أكان اسمه »الشجرة« او عين الحلوة او بيروت او الكويت او…
في اوائل 1974، وكنا نستعد لاصدار »السفير« هتفت له، ورد مقهقها: كنت في انتظارك، ياخوي… هياني جاي! المخيم واحد!.
بعد سنة، تقريبا كانت اعلام القرار العربي المجيد بحرب العبور، في 6 تشرين الاول 1973، قد طويت، واقيمت خيمة الكيلو 101 للاستسلام بدلا من المخيم الذي كان يستولد الثوار… وانفجرت الحرب الاهلية في لبنان فطمست بدم الضحايا حقيقة الصراع. كان ناجي مصرا على البقاء في عين الحلوة، معرضا نفسه كل يوم لخطر الخطف او القصف او الاغتيال المقصود. عبثا حاولنا اقناعه بأن السكن في بيروت لا يعني الخروج من المخيم بل النوم في زاوية اخرى منه. لكنه ظل على إصراره ان يواجه الخطأ في عينيه، وعلى الضفتين، وان يعبر نهر الدم المهدور عبثا مرتين، صبحا وليلا: »مثل كل الناس يا خوي«، لكأنه كان يعترض، يجهر برفضه هذه الحرب ويحاول ان يوقفها ولو بموته:
كيف يمكن ان ينقلب الفدائي المنذور، بل ناذر نفسه للتحرير، الى طائفي يحترق وتحترق معه القضية في نار الفتنة؟
خلال هذه الحقبة المعتمة والحافلة بالخطايا صار ناجي العلي لبنانيا حتى العظم، يريد ان يمنع سقوط الحدود بين الفلسطيني والاسرائيلي، في عين اللبناني وبين اللبناني والاسرائيلي في عين الفلسطيني.
صار الصليب هو مصدر التوجيه، المذكر بوحدة الانتماء ووحدة الحاضر ووحدة المصير، المنبه الى خطر التقسيم الذي ما كان ليبقى سياسيا، اذا ما تم، بل هو سيشطر كل لبناني وكل فلسطيني، بل وكل عربي الى اي قطر انتمى، الى اثنين، الى اربعة، الى ستة عشر… بل الى ذرات، الى هباء كالذي صرناه اليوم!
وفي الساعة الرابعة والعشرين تقدمت الدبابات الاسرائيلية لتجتاح لبنان، وقد غدا ارضا مفتوحة، والمقاومة الفلسطينية وقد غدت سلطة مرفوضة، بعدما كان النظام العربي قد اغراها ان تنتسب اليه ليخرجها من دائرة الثورة التي تكون قومية او لا تكون إلا حركة انفصالية، مهما رفعت من الرايات المطرزة بالاحمر والاخضر والابيض والاسود.
لم يبتدع ناجي العلي خطوطاً جديدة وأسلوباً في الرسم مختلفاً فحسب، لقد كثف الفكرة البكر بحيث بات خط واحد يكفي لتجسيمها. فلسطين مكثفة، التحرير محدد، الانحراف مفضوح، الغلط بيّن، العدو فينا أساساً، في تخلفنا، في جهلنا، في استسلامنا للدكتاتور، في أغضاء الطرف عن الراشي قبل المرتشي، عن المفسد قبل الفاسد، عن المستسلم قبل العدو الفرح بالاستسلام.
بدل ناجي من وظيفة الكاريكاتور فارتقى به من الاضحاك والسخرية باستغلال المفارقة، الى الرسالة. جعله المحرض والنور الكاشف والهادي الى طريق الصح، المقاتل ضد العدو، فاضح المتخاذل أو المتواطئ، كل ذلك بغير ابتذال وبغير لجوء الى التضخيم والتشويه. هم مشوهون بما يكفي، في أي حال.
الصدق أخطر الأسلحة. والسذاجة فتاكة… وهي أقصر طريق الى الحقيقة.
وربما لأن ناجي العلي كان خلاصة السذاجة فإنه كان يصل الى الناس مباشرة، ويوصل اليهم ما يعجزون عن التعبير عنه، أو ما يتعثرون وقد تتوه بهم الطريق وهم يحاولون.
ولأنه ساذج فقد رأى في فلسطين كل العرب: الرجال والنساء والأطفال. المناضلين والمقموعين. الأرض الضائعة والثروة المضيعة. الأبطال الذين حولناهم الى أصنام والأصنام الذين حولناهم الى أبطال ثم تلك الجموع الغفيرة التي لا حدود لصبرها والتي آن أن تخرج من قوقعة الصبر.
أيها الأصدقاء
لست بحاجة لأخبركم أن الزمان نزول،
لهذا يا ناجي فلسنا حيث تركتنا، بل حيث تركناك.
لقد اختزلت كل ما كنا ننوي قوله، وكل ما نعجز الآن عن الإشارة إليه.
سبقتنا وأعجزتنا، فلغتك مفردة، ولغتنا خرساء، تهمهم ولا تفصح تئن ولا تحدد سبب العلة.

قميص القمر الذي شق من دُبُر…

طال السهر بغير ان تفرد الألفة جناحيها على الملتقين بالمصادفة في دار الفرح التي أقامها »العمدة« على الحد الفاصل بين الأقمار الصناعية والدائرين في فلكها اناء الليل واطراف النهار وبين قمر الصحراء المشرع الأبواب لأبناء السبيل وأيامى الشعر ويتامى النثر وثكالى الغناء المهجور..
زاد عدد الشاربين عن خزين الشراب فصار محتوما ان »يثمل« المسافر خارج وعيه ببضع قطرات تعفيه من المساءلة عن »قول« هو بمثابة الفعل او عن »فعل« يظل الى خانة »القول« أقرب، وان تضمن الوعد بالاكمال ذات »سكرة« أخرى..
لا حرج على السكارى، وداخل حَرَم السكر لا حصانة لصاحٍ، والنكتة مساحة حرة لا بأس ان خالطها الجنس ثم تدرج صعوداً بل نزولاً فطغى عليها، وصار الضحك دعوة صريحة الى تجاوز الحدود…
وأين الحدود والزمان اجازة من الزمان، والمكان خارج الأمكنة، والأقنعة الألقاب تتهاوى مع حركة عقارب الساعة، فمن تمسك بقناعه صار »مفسد اللذات« وانصبت عليه اللعنات حتى يريح ويستريح او يتقوقع داخل صدفة الصمت مكتفياً بأن يقول غدا: والله كانت سهرة تطيل العمر!
صاحت »المرأة« فجأة: ها هو قمركم الذي يعلمكم الشعر! انه باهت شاحب كمن به مرض، أخرس لا يريم، يمر بكم عابراً فلا يخص واحدكم ببسمة او بكلمة او بهمسة،.. مع ذلك فهو يحتل دواوين الشعراء الذين تخصصوا في مواقعه وتحولاته وأطيافه بأكثر مما فعل الفلكيون!.. وأنا هنا ملء السمع والبصر، لا أجد بينكم من يستحق السلام!
ضاقت مساحة السمر فانفض السامرون الا قلة منهم تلكأوا لعل »الثمالة« تحمل بعضهم او حتى واحدا منهم على جناحيها الى تلك المساحة غير المرئية من قمر الصحراء.
عند الباب، رفع رأسه نحو القمر فإذا قميصه قد شق من دبر… فاطمأن الى ان »المرأة« قد وجدت من يستحق منها السلام!

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أكثر ما اشفق على عاشق يفرض عليه الخيار بين ان يحفظ لحبه طهارته او ان تستفزه مصاهرات المصالح فتحول حبه الى لحظات عشق مختلسة يخسر فيها كرامة المحب، او ان يموت اختناقاً بدخان قلبه المحترق، بغير

Exit mobile version