طلال سلمان

هوامش

الفضاء … المساحة الوحيدة للتواصل بين العرب؟!
قبل ثلاثين سنة او يزيد قليلا، أطلق استاذنا محمد حسنين هيكل فكرة رأيناها غريبة حين قال في سياق حوار طويل: لو كان التلفزيون معروفاً أيام لينين لما كان بحاجة الى الحزب الشيوعي، فهذا الجهاز الإعلامي خطير دوره في التوصيل والتعبئة والتحريض، كما في التمييع والتحريف وصرف الأنظار عن الموضوع الأصلي.
طبعاً لا يمكن »تشريف« التلفزيون بأن يُنسب إليه الفضل في إسقاط الشيوعية ومعسكرها الذي غطى بالأعلام الحمراء اكثر من ثلث الكرة الأرضية تحت قيادة الاتحاد السوفياتي، دولة لينين وحزبه الشيوعي، لكن هذه العلبة السحرية الصغيرة قد لعبت لحساب العدو العقائدي، غرب الرأسمالية المتوحشة والليبرالية السياسية دورا أساسيا في تسفيه الشيوعية كعقيدة وفي تشويه سمعة الشيوعيين، حكاماً فرديين ومتعسفين ورثوا المناضلين الطامحين الى بناء عالم افضل للانسان.
وأذكر انني سمعت من مرافق »شيوعي« كان يصحبني كضيف مدعو الى مناسبة احتفالية معينة في موسكو ما مفاده »ان هذه العلبة (ويعني التلفزيون) لا تفيد إلا في تطميننا على صحة الرفيق بريجنيف وفي إمتاعنا بنقلها مباريات كرة القدم، أحياناً«!
لماذا هذا الحديث؟!
لأن التلفزيون، لا سيما بعد قفزة »الفضائيات«، قد بات وسيلة التواصل الأخطر والأعظم نفوذاً بعدما انفتحت أمامه الدنيا فربط بين شرقها وغربها، بين شمالها وجنوبها، مسقطاً الحدود بين الدول والشعوب والقوميات والأديان والطوائف، موسعاً دائرة المعرفة، مسهلاً وصول المعلومات الى أوسع جمهور على مدار الكون، وهو أمر غير مسبوق في التاريخ الانساني كله.
وفي حدود ما قرأنا وتعلمنا فإن انتقال الافكار والكتب والمطبوعات عموماً، ومنها الصحف، كان أمراً دونه الأهوال.
في البداية كان الاستعمار هو المانع، أما في أيامنا فإن السلاطين الذي عادوا الى »رعاية« الاستعمار راضين مرضيين، قد جعلوا همهم الاول منع الافكار من الوصول الى رعاياهم حتى لا تفسدهم، أما الكتب والمطبوعات ومنها الصحف فالخيار أمام ناشريها محدد تماماً: الموت بالسيف أو بالدنيار.
على هذا فأنت تجد في أي مكتبة قائمة في اي عاصمة عربية، عشرات المطبوعات »العربية«، »سياسية« وأدبية وفنية واقتصادية واجتماعية ونسائية ورياضية الخ، ومئات الكتب في الطبخ والدين والتكنولوجيا وحتى في السياسة والاقتصاد والعولمة، بعضها مترجم واكثرها موضوع، لكن هذه المطبوعات بمجموعها لا يمكن أن تشغل من وقتك إلا ساعة او ربما ساعتين..
وإذا ما استثنينا عدداً محدوداً من الكتاب والصحافيين والبحاثة والروائيين والشعراء، فإن معظم تلك المطبوعات ورق مسوَّد، قد ينفع في التسلية او في قتل الضجر او في… قتل الرغبة في القراءة، بل وحتى بالمعرفة!
ثم إن الكثرة الساحقة من هذه المطبوعات لا تعرِّفك لا بنفسك ولا بأخيك، لا بصديقك ولا بعدوك الاسرائيلي الذي أسقطت عنه سمات العدو وجعلوه »أليفاً« و»صاحب حق« وفي بعض الحالات »ضحية« التطرف الفلسطيني (لدوافع وطنية او قومية او اسلامية وكلها خطيرة ومتفجرة).
أما في الزمن القديم، فإن مجلة ضعيفة الامكانات محدودة الكتّاب، سرية التوزيع، كان يتولى توصيلها الى »جمهورها« المغامرون والمهربون، مثل »العروة الوثقى« استطاعت ان تحدث ما يشبه الزلزال في مصر وسائر اقطار المشرق العربي.
وفي ذلك الزمن، أواخر القرن التاسع عشر، الذي أطلق عليه »عصر التنوير« برز نفر من الرواد العرب الذين أتيح لهم ان يدرسوا في فرنسا فكانوا »اوائل المبعوثين« فاكتشفوا الفارق المخيف بين دنيانا ودنيا »الكفار« وعادوا لينشروا الوعي ويبشروا بضرورة التغيير وإسقاط ليل الجهل والتخلف والاستبداد وشطب المرأة ودورها الاساسي في بناء المجتمع، بل وفي صنع التقدم.
ولقد ساندهم وأسهم معهم في حملة التنوير مجموعة من الكتاب والمثقفين »الشوام« ، غالبيتهم من اللبنانيين، استقروا في القاهرة أو في الاسكندرية وأصدروا الصحف والمجلات والكتب ووطدوا الصلة بين المشرق والمغرب مؤكدين مع الاختلاف السياسي وحدة القضية والمصير.
ان العرب اليوم لا يعرفون ما يكفي بعضهم عن بعض، فإن عرفوا قليلاً عن السياسات ظلوا على جهل مطبق بالمجتمعات ومكوناتها، بالاقتصاد والزراعة والصناعة، بالتعليم ومستواه، بالدخل القومي وكيفية توزيعه، بتأثير الدين في الوجدان، بالتركيبة السكانية وأصولها وتشعباتها وإمكان اللعب من الخارج على التمايزات واختلاف الأعراق واللهجات (واللغات احيانا).
وبالطبع فإن الفضائيات يمكن ان تؤدي دوراً خطيراً، بل ورائداً في تعريف العرب بعضهم بالبعض الآخر، كبشر لا كحكام، كهموم ثقيلة قبل الطموحات العظيمة، كواقع معيش مرير يفصل الأخ عن أخيه داخل القطر الواحد، ويصور الأخ الذي خارج الحدود وكأنه منافس أحياناً او غريم او حتى عدو مبين.
لكن هذه المهمة أخطر من ان تترك للفضائيات الرسمية، كما انها أسمى من ان تترك للباحثين عن الربح السريع، تارة بأجساد الراقصات وطوراً بالدعايات السافرة لجيوش الاحتلال الجديد للأرض العربية، ودائماً بالنقل الببغائي للطروحات الإسرائيلية بذريعة الموضوعية، فإن تطرفت قالت إنها إنما تقدمها تحت عنوان: ضرورة ان نعرف العدو وأن نسمع منه حقيقته ليمكننا من بعد، مواجهته.
من يعرّف واحدنا بالآخر؟
من يعرف واحدنا بنفسه، ذلك هو السؤال؟!
من يصنع »الصحوة« الجديدة… من يخفف تدفق النور حتى لا يعمينا الانبهار؟

اسكندر حبش يتعب فيشكو الخريف!
يتعب اسكندر حبش من الكلام، لكنه لا يتعب من القراءة، فإذا تعب منها كتب… وإذا ما زاد تعبه عن الحد قال شعراً! ويبدو أن تعبه، في الفترة الأخيرة، قد اشتد عليه فأصدر ديواناً جديداً، وكتاباً ضم مجموعة مختارة من ترجماته لكتاب ممتازين من مختلف أنحاء العالم وإن كانوا »غير معروفين« بقدر ما يستحقون، خارج »دنياهم«.
الشعر فضاح، يُخرج ما في داخل النفس، ويكشف المخبوء في الاحلام، ولو قارب الوهم… ولغة الشعر بطاقة هوية أصلية تسجل العلامات الفارقة لصاحبها، فتظهر ما يجتهد في إخفائه او ما لا ينتبه إليه من مباذله او تطلعاته او توهماته.
في ديوانه الجديد »اشكو الخريف« تتساقط القصائد وريقات ملونة محروقة بشمس صيف مضى، ويطارد اسكندر الظلال التي تهرب من يده وينحني ليلتقط اسما للأيام الممحوة من كثرة الذكريات… ويحضر النسيان باعتباره »المقهى المفضل« للشاعر الذي قرر منذ زمن بعيد ان يدخل في منافسة يائسة مع عباس بيضون الذي ينسى ان ينسى:
»أعدك/ ان انت اتممت جسدي/ سأعود الى نسيان قديم
»أعدك حين نؤنث الليل/ ستستيقظ الرائحة في تلك السهول
»هل تعبت من الكلام؟! انا أيضا«.
و»السومرية« التي تشغل اسكندر »جاءت قبل الامكنة« وهي »الحياة التي غادرت ذات عتمة« وتركته يحصي خراب الحلم.
تسأله، السومرية على الأرجح: »أكان عليك وأنت الغريب عن هاتين اليدين ان تكتب؟« لكن حقول البريد لا تتعب من انتظار الرسائل »وانت هنا، لا اعلم لماذا تذبل هذه السنين«. الموت حاضر، طبعا، يختال عبر السطور القليلة للقصائد المكثفة المضامين لكي تختصر أعمارا من السعادة مرت في لحظات سريعة: »تجيء من العتمة/ وتذهب في اتجاه الموت«.. »هذا هو الموت/ وهنا على ضفة الرغبة/ يزهر صفصاف كي يعيد الكلام الى بدايته/ تعال/ ثمة حلم لنقضي ما تبقى لنا من فجر«.
مثل اسكندر هو الفجر »مصاب بالنسيان«، ولا حزن لديه يكفي »كي نعيد بقية الليل../ لا تومئ للأشجار/ غريب أنت/ عن يديك«.
»واقف كي يعبروا فيك« ولا تجد يا اسكندر غير ان تشكو الخريف.
»دع القصب يغنّي لنا قصيدة/ ماء/ لم نجد بداً منه/ لا تروِ/ هل تعبت من الكلام؟ أنا أيضا« وما دام اسكندر قد تعب من الكلام فلا بد انه الآن قد دخل الى السومرية ليكتب المزيد من الشعر!

»نساء في امرأة« لا تُذكر إلا وحبيبها معها
نفضت إيمان شمص شقير عن كتفيها »وعثاء الكسل«، فجأة، وغرقت في أكوام من الكتب والدراسات والخطب والبيانات وقصاصات الصحف، لفترة طويلة، قبل ان »تنجب« مولودها »السري« الاول: »نساء في امرأة/ سيرة لور مغيزل«.
على امتداد شهور غرقت إيمان مع سيرة هذه المرأة العلم، والرائدة المتميزة في تاريخ النضال من اجل الديمقراطية ومن ضمنها الحقوق السياسية للمرأة واستطرادا حقوقها القانونية التي تمتد لتسقط ادعاء عدم أهليتها لممارسة التجارة، وتظلمها ظلماً بيّناً في كل ما يتصل بجرائم الشرف، وفي السجل العقاري حيث كانت تنص على وجوب شاهدين من الذكور، وفي الموجبات والعقود بشأن عقد الضمان الموقوف على وفاة امرأة متزوجة.
في سيرة حياة هذه »المرأة الكاملة« محطات عدة، قد تستحق كل منها كتاباً، ولعل »البدايات« التي حكمت مسيرة العمل كانت الأجمل، خصوصا وأنها شهدت اللقاء الذي سيصنع عمر الفرح مع جوزف مغيزل.
كان همّ »عصفوري الحب« ان ينشرا حس العدالة بين الناس، وأن يوطدا القيم الخلقية، وأن يضما جهودهما الى رواد آخرين والى جمهور المتشوقين الى الحرية والديمقراطية والكرامة…
ولقد انتصرت لور ومعها جوزف، او جوزف ومعه لور، في إنجاز الكثير مما سيبقى في الوجدان كما في قوانين لبنان وبعض الدول العربية، شاهداً على الجهد المبارك لهاتين المنارتين اللتين ستبقيان حاضرتين برغم الغياب.
وبالتأكيد فإن إيمان شمص قد بذلت جهداً طيباً في هذا الكتاب الذي يقدم »سيرة« لامرأة لا تنسى، ولا يمكن ان تذكر حتى بعد الغياب إلا وحبيبها معها: لور وجوزف مغيزل.

كتابة على أرجوحة القمر
يتهاوى الصمت المطرز بالشجن ويقتحم الأذن خفق الاجنحة، قبل ان يغط طائر الشوق على الرأس المثقل بالكلام الذي لا يقال وبالأفكار التي تستعصي على الكتابة.
يدير الطائر عينيه في عينيك فإذا زمانك مفتوح على مصراعيه يقرأ فيه ما نسيته، ثم يرف بجناحيه فإذا مستقبلك صفحة بيضاء تقطعها بالطول والعرض خطوط مضيئة تمتد لتتماهى مع احلامك التي تنثرها الريح أوراقاً خريفية، لا يشفع لها مهرجان الألوان فيها بعمر ثان.
تهتف بفرحة الطفل الذي يرفض ان يكبر فيها: هيا إليه… ها قد أطل بموكبه ذي الجلال… لكأنه بنعاسه الآسر آخر الأنوار في دنيا الإظلام المطلق. لكم تشحب أمام ضوئه الخافت المصابيح الكاشفة للنوايا!
يقول بلسان عصبيته: بدر البقاع هو الأبهى. إنه هنا عليل تتعبه المقارنات والمشاغبات والزحام بين القناديل الملونة والكشافات الباهرة لكنه هناك يستطيع ان يتمدد فوق الملاءات الحريرية لأرجوحته المنصوبة بين تخم الصحراء وتخم البحر، باسطاً ضياءه عباءة من وبر الغسق تتسع لكل عشاق الارض.
المدينة التي يحبها الليل وترفض النوم تتطاول بعماراتها في الفضاء الرمادي حتى الشاطئ الذي ضاعت منه حدوده في حين أخرج البحر فضته الآن بينما تتقافز جنياته لتستحم بالنور المعطر.
تقول: ان القمر أعظم الشعراء،
يقول: ان الحب يصطنع ألف قمر في ليلة واحدة.
نهرهما الصمت فسكتا، وسرى الموكب الى دنيا الظامئين الى الحب، خلف الأفق، والذين نصبوا أرجوحة من الحنين لطائر الشوق وأصغوا حتى لا يضيع منهم صدى خفق أجنحته وهو يأخذهم الى الشعر المكتوب بألوان الخريف فوق شرفات العشق المهجورة.

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لا تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب يعيش بمزيد من الحب. الغيرة تتغذى بالحب: تلتهمه فتتضخم حتى تسد مصدر النور، ويتساقط المحبون ضحايا حبهم الذي كان مؤهلاً لأن يجعلهم أنبياء فانتهوا قتلة وانتهى شهيداً

Exit mobile version