طلال سلمان

هوامش

التفاعل بين الثقافات في مواجهة العنصرية والصليبية الجديدة
قبل أيام شهدت طرابلس تظاهرة علمية متميزة اقامتها الجمعية اللبنانية لتاريخ العلوم عبر ندوة اكاديمية عربية اوروبية حول تاريخ العلوم العربية، بالتعاون مع مراكز بحث ودراسات فرنسية وجامعات عربية.
حول الندوة وأهدافها هذه الكلمة:
مفرح هو منظر الحشد من البحاثة والدارسين والمحاورين تحقيقا للتفاعل العلمي بين الثقافات، يتلاقون في عاصمة لبنان الثانية، طرابلس، لكي يتأكد الايمان بوحدة الحضارة الانسانية التي أسهمت في إنجازها مختلف الأمم والشعوب الحية، كل بحسب قدرته على الإنجاز العلمي في هذه المرحلة او تلك من تاريخ التقدم البشري.
وطرابلس، المدينة العريقة بالذات، يمكن اعتبارها الشاهد والشهيد على النتائج المأساوية لنزعات الطغيان والهيمنة حين تطغى في حقب تاريخية معينة على الحوار والتعاون لما فيه خير الإنسان، سواء تسترت بتفوق عنصري او بشعارات دينية لتخفي أغراضا استعمارية.
ففي أنحاء هذه المدينة، بعد، آثار للحروب الصليبية، أبرزها قلعة سان جيل التي تطل على الفيحاء من عل… وهذه القلعة الحربية التي بنيت لحماية المحتل الأجنبي كلفت الكثير من الأرواح والدماء ومعالم العمران التي دمرتها نزعة الاستعمار الاستيطاني التي اجتاحت هذه المنطقة بأقطارها الممتدة بين سوريا ولبنان والعراق ومصر في اتجاه قلبها الفلسطيني، قبل تسعمئة عام تقريبا.
بالمقابل، ففي هذه المدينة بالذات، كما في معظم المدن العربية، آثار طيبة للتفاعل بين الثقافات… لقد كان في هذه المدينة قبل ألف عام 360 مدرسة ومعهدا، وما يزال قائما منها نحو 60 مدرسة أثرية، وكان بينها أشهر كلية للطب في المنطقة العربية هي مستشفى البيمارستان (قرب المسجد البرطاسي) وهي مدارس ومعاهد ومراكز علمية شارك في اقامتها علماء عرب وأتراك ومسلمون من أقطار اخرى، أما في زمننا هذا فإن أفضل مدرسة في طرابلس كانت ايطالية، وكان المستشفى الأبرز في خدمة الانسان إيطالياً، وفي حين ان الاسواق القديمة مملوكية فإن ساحة التل في قلب المدينة تحمل الدمغة العثمانية.
أما في بيروت وأنحاء أخرى من لبنان فكانت مدارس النخبة فرنسية، ثم جاءت البعثات الأميركية فأنشأت المدارس، وبفضل التنافس الحضاري ربح لبنان جامعتين متميزتين منهما تخرجت النخب اللبنانية والعربية على امتداد مئة عام او يزيد… كذلك فقد ربح لبنان مستشفيين ممتازين لعلهما ما زالا الأفضل تجهيزا وبالتالي استعدادا لخدمة الإنسان.
ان الثقافة والعلم والرغبة في اللحاق بركب التقدم الإنساني تتجاوز اختلاف السياسات، كما ان الفكر الإنساني صانع الحضارات أبقى من السلاطين والأطماع الاستعمارية…
إن مثل هذا التعاون يشكل عنوانا واضحا للتفاعل بين الثقافات.
أما الدعوات الصريحة المروجة لحتمية الصراع بين الحضارات فلا تؤدي الا الى الحروب والى تدمير حقوق الشعوب المستضعفة او التي لم تنل نصيبها من التقدم، لأسباب خارجة عن إرادتها.
ان الارض العربية تشهد مرة اخرى حروبا ظالمة جديدة ستعطل امكانات التقدم، بل وتدمر أسباب الحياة، بعضها عنصرية الطابع تلتهم بنيرانها فلسطين، شعبا مقهورا وأرضا تنتزع من اصحابها الشرعيين الذين توحدوا بها منذ آلاف السنين، وبعضها الآخر يكاد يدمغ نفسه بالشعار الصليبي قبل ان يقترب بمخاطر التدمير الشامل من بلد عربي آخر كان له شرف الريادة في الصياغة الاولى لمعالم الحضارة الانسانية، هو العراق، أرض الرافدين او بلاد ما بين النهرين، وقد تعززت هذه الريادة بإسهامات اخرى قدمتها شعوب هذه المنطقة من الفينيقيين في سوريا ولبنان الى المصريين القدماء في وادي النيل.
واللافت أن ابطال الحرب الأميركية على العراق يجاهرون بأنهم يريدون مصادرة العلماء والبحاثة العراقيين او العرب الآخرين المتعاونين مع العراق والذين أسرعوا في العقدين الماضيين في إحداث ما يشبه ثورة علمية انعكست ايجابا على الجامعات ومراكز البحث كما على المجتمع العراقي.
لقد أسهمت هذه الأرض العربية بدور مؤثر في تقدم الحضارة الإنسانية، معتمدة على التعاون المفتوح مع الأمم والشعوب الاخرى، فأخذت منها ونقلت عنها وأضافت الى ما أنجزت، بتواضع من يطلب العلم، وبإخلاص من يعتبر العلم خصوصا والثقافة عموما رصيداً للإنسان في كل ارض، لأي دين او قومية او عرق انتمى.
إن التاريخ الانساني، وبالذات في مجالات العلوم والاكتشافات الجديدة والثورات العلمية المتلاحقة التي عملقت الانسان وصغَّرت العالم، هو حصيلة جهد الأمم والشعوب جميعاً وتعاونها وأخذها بعضها عن بعض وتكامل جهدها من أجل الغد الأفضل.
إن الانسان واحد، لا فرق بين أبيض وأسود، بين غربي وشرقي، بين مؤمن، لأي دين انتمى، وبين عابد للشمس او النهار او لآلهة الحكمة.
وهذه المنطقة نبذت التعصب الديني دائماً، وهي تعتز بأن عناصرها المكونة على اختلاف أديانها ومعتقداتها وأعراقها وقومياتها ما زالت فيها تسهم جميعاً في بناء أسباب التقدم على أرضها.
والعلم مثل نور الشمس حق مطلق للناس جميعاً، لا سيما أنه يقرر مصائر الشعوب والأمم، فمن يمنعه عن غيره ظالم للإنسانية وحضارتها الجديدة الباهرة.
الطفل الذي يكبر بالشعر: جوزف حرب
لم أكن قد قرأت الكثير من شعر جوزف حرب حين سمعته، فاستقر في ذهني الانطباع بأنه شاعر ملحمي باشر منذ يفاعته كتابة تاريخ هذه المرحلة بوجعه الممض دون ان ييأس فينهار، ودون ان يتحقق حلمه بالانتصار فيصير الشعر زغاريد الفلاحين وخبز العشاق وشدو البلابل. وحتى حين غنّت فيروز من شعره »اسوارة العروس« غلبت صورة »السياسي« او »المناضل« المجبول دمه بعبير زهر الليمون في جبل عامل على صورة »الشاعر« فيه، خصوصا ان قصائده (المسموعة) كانت تتراوح بين الحداء التحريضي والمنشور الثوري والمانيفستو المبشر بالتغيير الذي لا بد ان يقع ليعيد خلق الانسان سوياً.
أما حين تواتر صدور دواوينه التي تكاد تشكل سيرة ذاتية للأمة، فقد اضيف الى انطباعي الاول استنتاج منطقي يصوّر جوزف حرب كأنه متفرغ للشعر: يصطنع فيه ومنه بيته وشرفة الورد ومكتبه ومهجع الحلم ويسافر عبره الى الافكار صائغة الاقدار الجديدة.
مع »شيخ الغيم وعكازه الريح«، ديوانه الجديد المكون من مجلدين انيقي الورق والطباعة، اكتشفت في جوزف حرب »الطفل« الذي شاب شعره وظلت روحه مطهرة صافية النقاء والبراءة تخترق الحجب وتقرأ الكتاب السري للأرض والناس والاشياء جميعاً.
»هل أنا الطفل الذي قالوا: فمي تفاحة الوقت/وبيتي الغيم/في الأفق جبيني؟/ويديْ راعٍ يسوق الارض ترعى ورق الشمس وأعشاب السنين؟«.
لكنهم يجبرون »الطفل« على ان يكبر، وتكون الخطوة الأولى إرساله الى مدرسة للراهبات في الدير: »رغم ان اللوح مثل السهل أخضر/ والطباشير أراها دائماً قطعة سكر/ رغم أن لا شيء في الصف خريفيّ وأسود/ كلما قالت: اصعد.. أتصور أنهم قد فتحوا الباب قبل الفجر/ سلمت مدير السجن مكتوباً لأمي/ أقبل الكاهن. صلى فوق رأسي. ألبسوني وأنا أبكي قميصاً أبيضاً للموت/ قادوني، منهاراً كماء/ كنت أمشي«.
باهرة هي ذاكرة الطفل الذي رفض ان يكبر جوزف حرب: لم تسقط منها زهرة برية واحدة، ولم يجف فيها جدول، لم تذبل سنبلة قمح، ولم تغب عنها شجرة او نبتة. الخوخ، الحور، زيتون الحفافي، الصفصاف، التوت، عروس الزرع والنرجس والورد المروى بالندى والاقحوان، والعليق شيخ الزاوية والطيون الذي يقول شعرا والعريشة شاعرة الارض والدردار والنعناع البري والزوفى والجوز واللوز ودوري عتيق لمّ ريشه، وحبات الزبيب السود منها في سلال من سحاب.
امتد »الاعتقال« عشرين عاما، يا راعي الغنم، هات العصا. خذ القلم. سلم على البدو الذين يشعلون الشمس في موقدهم. سلم على تلك القمم.
ما الشعر غير الطفولة؟ الحب المطلق، الحلم المنور كفجر، عشق الارض التي بها ومعها نكبر؟ الحب، الحب، الحب يعني الأم »لكثرة الورد الذي خبأته لأمي/ التي كشمعة الضباب، وفضة الجداول/ لم تتسع ذاكرتي في الصف حتى لاسم الدير او لعنوان كتاب«.
لماذا اضطهاد الطفل، واقتلاعه من مدرسة الارض التي تعلمه الاسماء والالوان وتعطيه بغير منة، ليرسل الى الدير: »لم نكن اكثر فقراً من سوانا..« ولكن: »آه كم أفقر اهلي، وأنا في الدير، قسط المدرسة«.
ابن الدركي لم يعرف أن الدنيا تدور، وأن العمر يمضي بنا بعيداً عمن نحب: »اكثر ما أفرحني في حياتي أنني لم اعد أذهب الى المدرسة، وأكثر ما أحزنني أنني فقدت من أرسلني إليها«..
حين نغادر الشباب ننتبه الى طفولتنا فلا نجد لها غير الرثاء. ونعود الى القراءة في صفوف الارض »حيث شقائق النعمان هاء، والزنابق فوقهن النحل نون، حيث كل الشيح لامات عليها فتحة بيضاء من ريش الحمام وكل سنبلة ألف«.
جوزف حرب الطفل هو الشاعر، وما تبقى كلام في السياسة يوجع العامة ولا ينبت قمحاً في الارض، ويستخدمه السلاطين دليلاً لا يدحض على ان المصائر لا تترك للأطفال!

تهويمات
الشك محترف اغتيالات. انه بين اسلحة الدمار الشامل، وأولى ضحاياه: الحب! اما المضاد الحيوي للشك فهو: الحب والمزيد من الحب.
الحب مثل شجيرة الورد، يحتاج الى رعاية وسقاية وحماية… وأحيانا الى شيء من التشذيب، وإلا غلب شوكه على ورده فصار مؤذيا، يجرح اليد الممتدة اليه بالرغبة في الاحتضان.
قليل من العتاب إنعاش للحب. اما الكثير منه فيلتهم الحب والمحبين ولا يبقي لهم الا طوفانا من الندم، بينما تتوارى تحته بعض الذكريات الحميمة، تنتظر انحسار العاصفة لتعيد وصل ما انقطع.. من حب ما قبل الطوفان.
للحياة وجوه كثيرة، أقلها معتم، لكن معظمها مشرق. وبعض الناس يصرون على سجن انفسهم في غيمة عتم يستولدها ظرف طارئ.
الحياة هي الحب الاعظم، تفتح لنا صدرها وتنتظرنا بالهدايا… ولكنها قد تتعب من مطاردتنا اذا ظللنا محبوسين في عتمة الغيم الطارئ لا نحن نكشحه عن قلبنا ولا نتخطاه بقوة الارادة، وننشغل عن حياتنا غدا ببكائنا على يوم ضاع منا ذات يوم!

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
الحب يجعلك إنساناً، وكل مخلوق لا يحب ناقص الانسانية. والكراهية ليست عقاباً للغير، بل إنها تدمير للذات. الحقد ثقيل وأنا ضعيف، افضل الموت حباً على عيش شقي ليس فيه وردة او همسة او تغريدة بلبل ينادي بها حبيبه ليوافيه بعدما ضمن الامان.

Exit mobile version