»المنامة« تتقدم نحو »صحوها«: ديموقراطية الملك!
»المنامة« في أقصى درجات صحوها. لقد »نامت« أو هي أجبرت على »النوم« طويلاً، وآن لها ان تنهض فتفتح عينيها وعقلها على ما يدور من حولها او ما يدبر لأهلها في مختلف »مرابعهم« وكله جليل وخطير.
ليس الوقت مناسباً لترف التحسر على ما فات، وهو مؤلم وموجع وقد ترك آثاره على الأجساد كما على الروح،.. فلا سنوات النفي الطويل في برد الغربة يمكن ان تُنسى بسهولة، ولا العمر المهدور داخل »سجون الوطن« يمكن تعويضه في زمن مختلف يكاد يُشعر الجميع بأنهم خارجه فيكافحون عبثا لإعادة وصل ما انقطع وغالباً ما يخفقون…
البحرين هي البحرين، لكن لا أحد حيث كان، ولا شيء في مكانه المعتاد أو المألوف: ارتفعت العمارات الجديدة متأنقة بزجاجها الملون، وفتحت الشوارع عريضة لتربط بين »القلب« حيث تنتصب الفنادق والشركات الأجنبية والوكالات التجارية والدواوين وبين الأحياء القريبة التي كانت »أحزمة بؤس« تلتف من حول »مدينة الحكم« فتأخذ عليه ابتعاده عنها ويأخذ عليها »عدائيتها«، ويغلق كل طرف بابه دون الآخر لاعتقاده انه يتربص به، وأن ساعة الصدام آتية لا ريب فيها، ولا بد من الاستعداد لها بما ملكت اليمين!
ولكن… ليس كل ما نشأ أو أقيم أو ابتُني في الثلاثين الأخيرة خاطئا أو سيئاً، وها هو الحكم الجديد يتنصل من بعض اخطاء »السلف الصالح« ويحاول ان يباشر علاقة من نوع مختلف مع المعارضة القديمة، فيفتح الباب وسيعاً أمام عودة المنفيين، ويطلق سراح السجناء والمعتقلين السياسيين معتمداً سياسة »عفا الله عما مضى«، ويدعو إلى استفتاء عام على »ميثاق وطني« سيكون قاعدة لبعث الدستور المعطل، ولو معدلاً، وإلى انتخابات عامة تشترك فيها المرأة، لأول مرة في تاريخ شبه جزيرة العرب التي طالما اشتهرت بأنها بلاد الذهب الأسود والصمت الأبيض.
هذا ليس كافياً؟! بالتأكيد ليس كافياً. ولكن البديل مستحيل. لا الماضي يمكن ان يبعث حياً، ولا قدرة على تبديل ما هو قائم، ثم انه لا مصلحة في اسقاطه والغرق في المجهول، فضلاً عن ان المستقبل لله… وإن كان يبدو واضحاً ان الأميركيين يشاركون، بل وينوبون أحياناً عن »العلي القدير« في تقرير مصائر الأفراد والشعوب والدول!
… وها هي حاملات الطائرات الأميركية (والبريطانية) تزحم الخليج وتتناثر في المحيط القريب في انتظار الساعة الصفر المقررة لتدمير المستقبل العربي، تحت عنوان تحرير العراق من دكتاتوره صدام حسين، تعاونها، من البعيد، الصواريخ عابرة القارات قاتلة المدن، الجاهزة لمحو ما كان من مراكز للحضارة العربية الإسلامية في بغداد وسر من رأى والكوفة والبصرة والنجف والموصل… هذا في حين تتكفل إسرائيل بشطب الحاضر العربي فتمحو فلسطين بكل المقدسات العربية الإسلامية والمسيحية فيها من كنيسة المهد في بيت لحم الى المسجد الأقصى في القدس، ومن جبل النار في نابلس الى مهجع خليل الله ابراهيم في مدينته، ومن جنين التي يستشهد أهلها واقفين ولا يستسلمون الى غزة بني هاشم التي تطلق دمها غزيرا في اتجاه مصر لعلها تنتبه الى ان الحريق سينالها بلا ريب.من يحمل الموت لأهلك، كل اهلك، لا يمكن ان يقال فيه انه يريد الخير للجزيرة الصغيرة التي ما حماها واستبقاها بهويتها الاصلية الا اهلها، قبل ان يحط بهم الدهر فينطفئ النور في عواصمهم الكبرى التي تحولت من »مراكز القرار« الى مدن مفتوحة للقادر على اخذها.
* * *
»المنامة« في أقصى درجات »صحوها« و»اندرسون«، الذي كثيرا ما اعتبر »الجلاد« و»الحاكم الفعلي« ذهب الى التقاعد، مخليا المكان »لحفيده« الاميركي الأغنى والأقوى وإن لم يكن الاذكى والامهر…
أما الحكم فيبدو انه قد فتح عينيه أخيرا على واقعه فانتبه الى انه غير سوي، وهكذا اندفع »الامير« الوارث يحرر نفسه بداية من »وصاية« عائلية يبدو انها كانت ثقيلة عليه، فاستعان بالتاريخ ليعيد الى »دلمون« مملكتها وليصير »ملكاً« على شعب متعدد الطوائف بأكثرية شيعية تليها اكثرية سنية ثم مجموعات اقليات من الاسماعيليين والمسيحيين وبعض اليهود… ثم إن شيعته كسنته تنقسم الى »عرب« و»عجم«، و»العجم« هم اولئك الذين عادوا او استيعدوا من ساحل فارس على الخليج، بعدما اجتيحت عربستان وأنهيت عروبتها بضمها الى املاك امبراطورية الشاه، وصارت تلك خاتمة عروبتها الرسمية.
بالمقابل فإن الشعب الذي يحمل في دمه جرثومة الاعتراض والمعارضة منذ فجر الإسلام، والذي »استضاف« ذات يوم »القرامطة« وشكل منطلقهم لغزو البر العربي، فلقد قاوم دائما وما زال يقاوم ان يكون »رعية«، وهو الآن يتقدم مستفيدا من صحوة الحكم لاستعادة دوره في القرار، بعدما اعلن رسميا انتهاء عصر القمع ومكافحة نور الشمس باعتقال المناضلين أو نفيهم خارج الوطن او خارج الحياة في بعض الحالات.
يقال ان الحكم قد قام بانقلاب على ذاته مستقبلا عصر الديموقراطية الاميركية.
ويقال ان الحكم الجديد هو »انقلاب« ديموقراطي داخل الأسرة، يحد من سلطات »العم الكبير« الذي يراد له ان يحمل مسؤولية عصر الشقاء.
في أي حال فإن العودة الى »الدستور«، ولو بصيغة معدلة نقصا عما كان، تسجل في خانة الايجابيات في زمن الهزيمة الساحقة للشعوب وإرادتها.
ومثلها التسليم بضرورة الانتخاب الشعبي المباشر، مع ان »المجلس« الجديد سيولد مقيدا بسلاسل مجلس الشورى المعين، وبالتالي لن يكون مفردا في حق التشريع، ولن يكون شهادة ناطقة بديموقراطية النظام الملكي الجديد.
وهذه النواقص الخطيرة لا تلغي ضرورة الاعتراف بأن اعطاء المرأة حق الانتخاب يظل خطوة متقدمة، بل ورائدة، في هذه المنطقة التي كان ظلم نسائها أشد وأعتى من ظلم رجالها… بل هي كانت مظلومة مرتين: الاولى من الحكم ظالم الجميع، ثم من الرجال المظلومين!
الفرح للمنافسين
الاخبار المفرحة التي عدنا بها من البحرين، وهي قليلة جدا، تتصل بمهنتنا الجليلة: الصحافة…
فلقد صدرت في هذه الجزيرة التي كان شعبها سباقا الى العلم والثقافة والعمل السياسي، صحيفة جديدة تحمل قدرا من التطور مما دفع الصحيفتين اليوميتين الى الاستعداد لمنافس خطير بمحاولة تجديد الشكل والمضمون.
وهكذا ربحت البحرين مع صدور »الوسط« ثلاث صحف يومية: فلقد جددت كل من »الايام« و»أخبار الخليج« ذاتها استعدادا لمنافسة »الضرة« الجديدة التي تصدر عن شركة قادرة (ماليا) ويتولى الاشراف عليها مثقف وصاحب تجربة سياسية عريضة اخذها عن أبيه القائد السياسي المعروف عبد الامير الجمري.
ويشكل الثنائي الدكتور منصور الجمري مع زميلنا وليد نويهض، الذي كان هجر الكتابة الصحافية اليومية الى الثقافة التراثية ينفض عنها الغبار ويعيد إليها الاعتبار، »رئاسة تحرير« متميزة تخوض تجربة صعبة… في ظروف صعبة، وإن كان بين من يخفف من صعوبتها ان التمويل خارج نطاق الهم اليومي للمسؤولين عن تحريرها.
أما الخبر الطيب الثاني فهو ان الزميلة الكبرى »الاهرام« ستصدر من البحرين، ابتداءً من الاسبوع المقبل، طبعتها العربية الخاصة بمنطقة الجزيرة العربية.
اطرف ما في الخبرين ان الزميل (سابقا) وزير الاعلام حاليا نبيل الحمر الذي كان يرأس تحرير »الايام«، وهي التي ستتولى طبع »الاهرام« في مطابعها الفخمة، صار من موقعه الجديد اكثر تقبلا للمنافسة… اي ان الوزير الشاطر فيه يتبدى اكثر ديموقراطية من الصحافي الشاطر.
صندوق الفرجة
كان في طريقه الى لقاء صديق اختار المطعم الأكثر ازدحاما عملا بنظرية: »اشرب مع المترفين، أما طعامك فليكن مع اهل التعب الذين يقصدون المطاعم لكي يأكلوا فيشبعوا وليس لكي يتباهوا بصورهم فيها«.
اخذه زحام الساهرين والساهرات بعيدا عن مقصده، شده العطر حينا، وأبعدته رائحة »المعسل« احيانا، واصطدم بمتسكعين ومتسكعات، وهرب ممن يملكون فائضا من الوقت للثرثرة، وتجنب اصدقاء جلسوا في دعة ذكرته بلحظات في طفولته تيسر له فيها الاستمتاع بصندوق الدنيا، او صندوق الفرجة.
فجأة انتبه الى ان الليل دنيا كاملة وليس مجرد الوجه الأسود لنهار تحرق الشمس ساعاته وأعصاب المتعجلين النهايات، طلبا لفاصل من الراحة بين نوبتين من التعب في حمل الاوهام او الاحلام او اطنان الكلام العبثي.
صدم اذنه صوت انثوي يعرف نبراته، والتفت فرآها تحتضن صديقا جديدا لم يتبيّن ملامحه. تابع المشي وكأنه لم ينتبه الى وجودها، فجاءه صوتها يقطع عليه الطريق: تفضل معنا!
ضحك وهو يرد: هذا مقعد لاثنين، ولا مجال لثالث.
قالت معابثة: لطالما اتسع من قبل لكثيرين، وسوف يتسع دائما لمن احب… والحب هو البحر المحيط!
هز رأسه مبتسما وأكمل طريقه بين المتعانقين، او المتشابكي الايدي والسيقان، وهو يحاول طرد الشعور بأنه قد شاخ، وبأن عالمه خلفه وليس امامه.
من خلف العمود الأخير في ذلك السوق القديم الذي كان يعرف كل دكان فيه، انبثقت زنبقة الليل تتقدم بعض صديقاتها المتلفعات بحشمة من حرير. تجمد كعمود ملح وقد ادار وجهه الى الخلف كأنه ينتظر رفيق سهر. غمرته دفقة العطر، ثم انهمر عليه شلال التأنيب الودود: انت هنا؟ هل تحمل جواز سفرك في جيبك؟! هيا واصل هربك من الدنيا. عد الى شرنقتك التي يوهمك ضوؤها ان العمر نهار موصول من الشقاء!
أكمل طريقه في قلب الليل الفوار بالفتية من عشاق الحياة. ليس الوقت مناسبا للمواعظ او لدراسة التحولات في المجتمع. البديل ان يجلد ذاته. انه الآن يحس بغربته، بوحشته في عزلته بينما العشق طوفان يكاد يجرف من يعترض او يتوقف للحظة. كان يفترض في نفسه انه يعرف كل شيء عن كل الناس. انه جاهل حقيقي. انه يعيش على الضفة الجرداء لبحر التحولات التي غيّرت الدنيا. انه غريب فعلا في عالم ينكره. واعظ يتحدث لغة منقرضة.
انه لا يعرف كيف يلحق بهذا القطار المندفع، ربما بغير قائد، ربما بغير سكة، ربما بغير هدف. يكفيه، إذن، العشاء. اي عشاء؟! آه صحيح.. ولكن ما اسم صديقه الذي دعاه؟ ثم ما اسم المطعم، وأين موقعه في هذا التيه؟!
انقذه الحظ السعيد: كان صديقه يناديه من خلف الزجاج ثم خرج إليه يسحبه ليدخله فيجعله »فرجة«.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
الحب »يستنسخ« من الحبيب نماذج عدة، بحيث تطغى صورته على كل من تلتقيهم. تفاجئك نفسك بأنها تعطي لكل من يثير اعجابك وجه الحبيب، او هي تقيسه وتقارنه على الفور به…
كيف لا تغدو الدنيا اجمل وقد استعار اهلها بعض ملامح ذلك الذي يجعله الحب ابهى المخلوقات؟!