كلام سياسي حول الطرب والإعلان والأخبار بالحرف الإفرنجي و العامية
لعلها مجرد مصادفة، لعلها حمى المنافسة والتقليد الأعمى، لعله امتهان الذات واحتقار اللغة الأصلية، لعلها الرغبة في »نفاق« الجمهور بادعاء الارتفاع الى مستواه العالي…
مثل أي قرار غير مبرر وغير مفهوم الأسباب ويتنافى مع طبيعة الأشياء، فإن هذه الطفرة الغريبة لتقديم المطربين والمطربات وقد كتبت أسماؤهم بالحرف الإفرنجي تستفز الحجر، خصوصا ان معظمهم بالكاد »يفك الحرف« العربي، هذا من دون أن ننتقص من طلاوة أصواتهم ومن دون أن نتعرض الى مستواهم الفني ومدى ارتفاعه أو انخفاضه، والى حجم جماهيريتهم.
لعله كان استباقا للقمة الفرنكوفونية الموعودين بانعقادها في بيروت، لإنعاش الثقافة طالما تعذر إنعاش الاقتصاد، وعلى قاعدة »فليسعف النطق إن لم يسعف الحال«…
لعلها كانت، في التوقيت، طريقة مبتكرة للترحيب بالسياح العرب الذين توافدوا بعد انقطاع للاصطياف في البلد الذي كان ملاذهم ومنتجعهم ومشفاهم ومنتداهم الثقافي ومطبعتهم والكتاب وجريدة الصباح، والذي افتقدهم حين تاه عن نفسه وعن هويته، وافتقدوه حين ساحوا في بلاد الغرب فلم يلقوا إلا الامتهان والإحساس العميق بالغربة التي لا ينقص أثقالها ارتفاع أرصدتهم وودائعهم في مصارفها.
المهم أن جدران بيروت واللوحات الإعلانية الضخمة والشجر على الطريق بين العاصمة والأرياف (التي جاء منها معظم المطربين والمطربات) قد امتلأت بصور ملونة مكلفة لأهل الطرب، رجالا ونساء، المعروف منهم وغير المعروف، وحتى الناشئين والناشئات، وتحت الصور المجددة والتي تقدمهم بأوضاع حميمة تتجاوز الإغراء الى الغواية، وتقدم »مصدر« الصوت على الأسماء البراقة بالحرف الإفرنجي، بحيث يصعب عليك نسبة الاسم المكتوب الى صاحبه أو نسبة المعني به الى الحرف.
من الصعب الجزم ما إذا كان ذلك الحرف فرنسيا، بدافع الإكرام للصديق العتيق عند الضيق ومغيث الملهوف الرئيس الذي نحبه ويحبنا جاك شيراك، أو بدافع إظهار الامتنان سلفا لباريس 2 التي تجيء استجابة لصلاة »الاستسقاء« التي نبتهل بها الى أهل القدرة والبر والإحسان منذ دهر، والتي ستوفر لنا بعون الله وتوفيقه بضعة مليارات من الدولارات.
قد يكون الحرف، إذا ما أخذنا بالاعتبار اتجاهات رياح الحرب الأميركية على العرب من النيل الى الفرات مع تركيز خاص على فلسطين وقدسها العربية، حرفا انكليزيا مطعّما باللكنة الأميركية، تقربا من إدارة جورج بوش، ونفاقا لأجهزة المخابرات الأميركية، ومحاولة لتبرئة الذات من تهمة الارهاب، ولاستنقاذ رؤوس هؤلاء الذين رأسمالهم في أصواتهم، من حمى الانتقام التي لن توفر عربيا (بغض النظر عن دينه) أو مسلما أو أسمر البشرة شرقي السمات.
هذا يعني أن الطرب اللبناني قد دخل مرحلة العولمة، خصوصا أن المطربين والمطربات، هنا، وفي مصر من قبل، قد نجحوا في اقتحام العالمية عن طريق إقحام مقاطع من أغان غربية معروفة وآلات عزف غربية بالمطلق وألحان جاز شجية، في أغانيهم شبه البدوية أو التي من إنتاج »النوَرْ«.
والحمد لله أن ما نخسره في السياسة والاقتصاد سيعوّضه »نجومنا« الزواهر من مطربات تبدل الواحدة منهن عشرة أزياء وأكثر في الأغنية الواحدة، بينما يستورد المطربون راقصات من الهند أو من بعض الدول الأوروبية التي أفقدها تبديل النظام من الاشتراكية الى الرأسمالية ما كان تبقى فيها من طعام وضمانات اجتماعية تعفي فتياتها من احتراف أعرق مهنة في التاريخ.
ملحوظة: لا يمكن فصل حفلة »فرنجة« المغنين والمغنيات والغناء إجمالا عن تعميم اللهجة العامية في الإعلان، وهو تعميم »سياسي« بمردوده، بمعزل عما إذا كان مقصودا أو عفو الخاطر السريع.
إن هذا التعميم المعبر عن احتقار للغة العربية وأهلها يأتي تتويجا لاعتماد اللهجة العامية في معظم البرامج التلفزيونية بما في ذلك نشرات الأخبار التي تعتمد أساسا على وكالات الأخبار العالمية، وهذه تنتج مادتها وتوزعها بلغة عربية فصيحة مبسطة، فإذا بعباقرة التوجيه السياسي في محطات التلفزيون في لبنان، من دون غيره من دول العرب (والعالم) يترجم الفصحى الى عامية تذهب بالمعنى وتنزل بمستوى المضمون الى مستوى الغرض السياسي »للمترجم« والذي يفترض أن »الشعب« لا يفهم ما يجري في الدنيا إلا إذا سمعها بلهجة تختلط فيها بواقي وفضلات اللهجات المحلية واللغات المهجورة من الحميرية الى الآرامية الى السريانية الى الكلدانية الى لهجات المشاركين في الحملات الصليبية جميعا والمشاركين في صدّها من سلاجقة وأرناؤوط وعثمانيين وعجم وعرب بألسنة شتى.
ليست هذه مسائل شكلية، وليس »اللجوء« الى اللغة الأجنبية أو الى اللهجات المحكية دليل تحضّر وتمدّن ومواكبة للعصر، ولا هو خاصة تعبير عن وطنية صافية وتمسّك »بهاالكم أرزة العاجقين الكون«. إنه انحراف سياسي ثقافي خطير يمحو أول ما يمحو ذاكرة الطرب ويضر بالوجدان الذي لن يقبل الزيف والهجانة واحتقار الذات.
ألقاب، ألقاب، ألقاب… والعاصفة؟!
لا تصنع الألقاب الرجال، ولا هي تضيف قيمة الى من لا قيمة لقراره، ولا هي تعوض النقص في احترام الموقع أو الدور، ثم إنها لا تخيف العدو بالتأكيد، وإلا لكنا ربحنا الحروب ضد إسرائيل وأميركا ومن معهما بغير قتال: أنزلنا ألقاب السلاطين الى الميدان فهزمنا بها أساطيل البحر والجو وجيوش البر ولو كانت بعدد الرمل والحصى.
إن ألقاب بعض السلاطين العرب التي تسبق أسماءهم أو تلحق بها تتضمن بمعزل عن النوايا امتهانا لشعوبهم، بل وتكاد تقع في محظور التجديف على العزة الإلهية.
وبمعزل عن النقاش حول ما إذا كان هذا السلطان أو ذاك يستحق ما يخلع عليه من ألقاب، فإن هذا الركام من الألقاب يظهر السلطان وكأنه من جنس آخر غير جنس شعبه، بل ومن مخلوقات أخرى غير البشر.
أطرف ما في الأمر أن أجداد هؤلاء السلاطين وآباءهم لم يكونوا يطلبون ولا هم ارتضوا أن تطلق عليهم ألقاب معظمة أو مفخمة أو مجللة، بل إنهم في الغالب الأعم عاشوا وماتوا والناس ينادونهم بأسمائهم مجردة اقتداء بالسلف الصالح: فلا الرسول العربي الأكرم، ولا الخلفاء الراشدون عرفوا بغير أسمائهم البسيطة والمجردة، والتي تستمد قيمتها واحترامها من الرسالة أو من الدور ومن الصدق في التعبير عن وجدان الناس.
المفارقة أن الألقاب تتزايد بقدر ما يتصاغر حجم »الدولة«.
… وان الألقاب تزيد كلما نقصت حتى كادت تنعدم العلاقة المباشرة بين السلطان الذي كان إنسانا صالحا وطيبا وتقيا ورعا وبين »رعيته« التي كانت تدخل عليه بغير استئذان وتخاطبه باسمه مجردا، وتطالبه بحق تسليمها بولايته عليها.
ثم إن هذه المفارقة تبلغ ذروتها المفجعة إذا تأملنا كم أن العرب بمجموعهم قد فقدوا الكثير من اعتبارهم وباتوا كماً مهملا، توجه إليهم الإهانات علنا، ويحقّر سلاطينهم وجاهيا، وشفهيا إضافة الى »الحظي«، ويجتاح العدو بلادهم وعواصمهم فيحتل إرادتهم ويصادر مصادر دخولهم فضلا عن ودائعهم بلا استئذان.
أين موقع صاحب الجلالة وحفظه الله والمفدى وصاحب الفخامة وصاحب السيادة وصاحب السمو وصاحب العظمة في عصر المهانة والإذلال والاجتياح والتحقير المتعمد هذا، حيث صار القائل بعروبته كالقابض على الجمر؟!
ها هي العاصفة الأميركية الإسرائيلية تنذر بتدمير البلاد والعباد، ولن تنفع في صدها الألقاب ولا العلاقات المختلة بين الحاكم والمحكوم، بل لعل هذا الخلل قد وفر لها الجو المؤاتي ومكّن لها أن تدمر كل شيء… بما في ذلك العروش التي لا تتمتع، بالضرورة، بعناية الله العلي القدير المشغول بما هو أسمى من حفظها، والتي لن يتقدم الشعب لافتدائها لأنه سيكون مشغولا بحماية بيته وعائلته وحقه في الوجود على أرضه ولو بلا سلاطين.
حكايات مبتورة
حين تجاوزتهما المغنية، للمرة الثانية، الى الطاولة الاخرى، استوقفها ليسألها عن سبب »تجاهلهما«، فردت عبر المذياع الذي تحمله:
انما أغني للآخرين كي يبلغوا ذروة النشوة التي تلفكما… ولكن، هل لي ان اسألك كيف انتبهت الى هذا التفصيل؟!
وبعيدا عن المذياع أضافت تقول: عجيب أمر هؤلاء الشرقيين، تظل كرامتهم الذاتية أهم لديهم من أرق مشاعرهم! أليس الحب أرقى مراتب الكرامة الانسانية؟!
* * *
التفت شلة من المتصابيات من حول المغني حتى أضاع النغم وكاد يضيع صوته ووعيه بما حوله..
فجأة جاءته »النجدة« جذلى تمشي متهادية يتقدمها عطرها وعنفوان الجمال.. وحين قاربته التفتت اليهن وأمرت: أريد حلقة واسعة لأرقص…
استعاد صاحبنا صوته وأضاع وعيه فغنى قليلا، ثم اندفع يرحب بمتصابية جديدة وصلت متأخرة.
تقدمت »النجدة« الى الموسيقي، فطلبت منه ان يرافقها بإيقاعه: أظن أنني أُغني الناس عن صوته، فالعين أقوى نفوذا من الأذن!
* * *
حين أطل المصور انشغلت كل سيدة بزينتها وموقعها وما يحيط بها.
دار المصور بعدسته يأمر هذه، وينقل تلك من مكانها، ويرتب »المجموعات« بتناسق يحفظ لكل منهن موقع الصدارة… فلما انتهى أخذ يسجل الأسماء والعناوين على دفتره الصغير.
وحدها ظلت بعيدة عن »الإطار«… فاقترب المصوّر يسألها معتذرا: هل بدر مني ما أزعجك.. أعتذر، ولكنها مهنتي!
قالت: لكل مهنته، وأنا غريبة، ولا أريد أن أقع تحت تصنيف. أكمل عملك وانساني.
قبيل ختام السهرة، اقترب المصور منها مودعا، وقال: سأتذكرك وحدك… الأصل أهم من الصورة، شكرا لأنك أعدت الاعتبار إلى »الاصل«.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا يحتاج الحب الى خطط وأفخاخ وشراك منصوبة. الحب كالشمس، يشرق في موعده تماما وينشر الدفء ومتعة الحياة والشعر بغير طلب.
افتح قلبك وأقبل على الحياة بدلا من احتراف التذمر. التشكي الدائم مهلكة للحب. وزع من نعمة حبك على الناس فتتعاظم سعادتك ولا تنقص.p