طلال سلمان

هوامش

»المتنبي الثاني« يستحضر »المتنبي الأول« لمحاسبتنا
أفترض أن أدونيس يؤمن بالتقمّص، وأجزم أنه يؤمن بأن »المتنبي« قد »حلّ فيه«، وأنه مُطالب بأن يكمل »رسالته«، وبأن يعيد إليه الاعتبار كداعية إلى الثورة الدائمة وليس كواحد من الشعراء، حتى لو أحلّه الاجماع في منزلة أكبرهم وأعظمهم أثراً.
وكثيراً ما يأخذك النص المدقق، مع الاستدراكات والهوامش المختارة بعناية فائقة وبقصد »سياسي« مقصود، في »الكتاب« الذي أصدر »أدونيس« الجزء الثالث منه، مؤخراً، إلى الخلط بين »المتنبي« الأول »والمتنبي« الثاني الذي كصاحبه ومعلمه و»قائده« يعرفه الناس باسم اختاره لنفسه بديلاً من اسمه الأصلي الذي اختاره له أهله قبل أن يعرفوا ما يختزنه من الرؤى والطموحات والتشوق إلى تغيير الكون… الفارق أن »أبا الطيب« لم يختر لقبه الذي أطلقه عليه الناس فغلب على اسمه الاصلي الذي نادراً ما يتذكره أو يذكره أحد، بينما علي أحمد سعيد هو من اختار فكان له من اسمه المستعار أكثر مما لصاحبه الأصلي منه.
»الكتاب« أخطر من ان نعتبره »سيرة سياسية« لعصر المتنبي،
وبالطبع فإن »الكتاب« أعظم أثراً من ان نرى فيه إعادة تقديم بالشعر لأعظم شاعر عربي، على مرّ العصور.
»الكتاب« بأجزائه الثلاثة التي صدرت حتى اليوم يكاد يشكل إعادة كتابة لتاريخنا المعاصر.. وكلما توغلت في المضامين المختزنة في النصوص المختارة وفي الترجمة المنحوتة ل»النفوس الكبار« التي »تعبت في مرادها الأجسام«، ازداد يقينك بأن »المتنبي« الثاني إنما يتحدث »عنّا«، مستعيراً من »المتنبي« الأول رؤاه وطموحاته ومراراته التي استولدتها الخيبات المتكررة، وتمزقه وهو يقارن بين ذاته وبين أولئك الذين يقصدهم فيقف في بابهم وينشدهم شعره الأبقى منهم، والذي يتصاغر ليكون قريباً من مداركهم ولا يكبرون ليفهموه وليقدروا قائله حق قدره.
المأساة تتجدد عبر التاريخ: المبدع دائماً أكبر من السلطان، لكن السلطان غالباً ما يتحكم بالمبدع فيحاول أن يجعله »موظفاً« ليقزّمه«، فإن رفض أمر بصلبه أو قطع له لسانه أو أجبره على الفرار لينجو بعقله وعلمه… وهكذا يصير المنفى أرحب من الوطن، وتتبدى الغربة واللجوء الى الغير وكأنها شرط لحرية القول والعمل. ولكن ماذا يفيد العمل والقول خارج البيئة الاصلية حيث يفترض أن يقع التغيير لينبلج فجر الغد المحجور عليه في زنازين الطغاة؟!
قد يرى كثيرون في »الكتاب« نعياً للأمة التي على امتداد حقب طويلة من تاريخها تحكّم فيها عدد لا يحصى من السفّاحين والمخبولين أو الدجّالين أو الجهلة، غالباً باسم الشعار الديني، ودائماً بقوة »العسكر«، لا فرق بين ان يكون »عربياً« أو »أجنبياً« جاء على شكل »مرتزقة« لحماية السلطان من أهله، أو بذريعة حماية الدين من المارقين.
»المتنبي« الثاني »قرمطي« الفكر والهوى. وهو في هذا أشجع من »معلمه« الذي قتله النقص في الشجاعة.
ومن موقع »القرمطي« يعيد »أدونيس« كتابة تاريخ عصر »المتنبي« بلغة الحاضر، وهي لغة أغنى بما لا يقاس من مدلولاتها… خصوصا ان من تتحدث عنهم (أو إليهم) مباشرة أو بالإيحاء أو بالرموز (وما أكثفها) أدنى فهماً وأضيق أفقاً من ان يستوعبوا وأن يسترشدوا وأن يتصرفوا في ضوء استنارتهم بما قصد إليه الكاتب المفكر الشاعر الباحث المؤرخ الثائر المستكفي المستغني المهاجر المقيم الثابت العابر المتحول، والباقي دائماً على »قرمطيته« وفيها.
لا ينفع الشعر قناعاً. ان المستتر فيه يبرز بأكثر من ظاهره لمن يعرف القراءة.
لكن الشعراء يفيدون، غالباً، من ان السلاطين لا يقرأون، وأن قراءات العسس تأخذهم الى »الخصوم« المباشرين وتبعدهم عن أثر الأفكار في الأجيال الآتية، ولا بأس من التضحية ببعض منافسي السلطان لحماية الآتين للتغيير الجذري والشامل بحيث يسقط الغلط ولا يستبقى إلا الصح، الذي يليق تاريخاً للإنسان.
»المتنبي« الثاني يكتب لجيل آخر. إنه يعرف باليقين أن هذا الجيل قد ابتلع آماله واغتال طموحاته وقبع في جحور خيبته ينتظر ان يتدخل القدر لخلع السلاطين وهدم السجون وإبادة الجلاوزة والعسس.
والقدر في أيامنا هذه إسرائيلي في حضن الأميركي أو العكس وليس قرمطياً على الإطلاق… والحرية لن تجيء من العنصرية ولا من الصليبية الجديدة. لكن أدواتها سيكونون ضحاياها.
ربما لهذا تفوق خيبة »المتنبي الثاني« في كثافتها المحرّضة خيبة »المتنبي« الأول الذي سقط وهو ينتظر نجدة مستحيلة من الاوهام التي أعطت شعراً خالداً ولكنها تهاوت يأساً عند أبواب السلاطين، فخسر الشاعر وجنيْنا نحن من تتلمذنا عليه ولم نفهمه تماماً موسما عبقرياً عظيماً لم يجد من »يترجمه« عملاً، وإن وجد من يجدد دعوته الى الثورة الدائمة وإسقاط المستحيل في هذا »القرمطي« العبقري الذي سينتظر هو الآخر من يحمل الراية ويتقدم لكسر المستحيل بالسيف!
و»الحل« عند أدونيس ليس عربيا، فالقرامطة بين الأمميين الأول، في التاريخ.
ولعل الأممية الثقافية التي تشغل أدونيس، والتي تجعل من الإنسان موضوعها، أي إنسان وكل إنسان، هي الحل الذي يراه لمواجهة العولمة بمعناها »الامبريالي« القائل بصراع الحضارات وبانتهاء التاريخ، بينما لم يكتب من تاريخ القرامطة إلا الصفحات الأولى فحسب.

الرئيس يسأل التاريخ
للوهلة الأولى ظننت أن في الأمر خطأ ما، في الاسم، أو في مصدر الخبر، أو في طبيعة اللقاء… فنادرا ما سمعنا عن لقاء لرئيس (أو ملك) عربي مع عالم مبرّز، أو مع مؤرّخ محترم احترف مكافحة الأوهام والأساطير والروايات الرسمية الكاذبة، بالمبالغة أو بالاجتزاء أو بطمس الحقائق، حتى لا يأخذنا التيه إلى الغربة وإلى الضياع إما بتعظيم العدو بحيث نجعله قدرا وإما بتقزيم النفس بحيث لا نستحق أن نكون.
لكن أستاذ الجيل الدكتور نقولا زيادة قطع عليّ الشك وهو يقول بصوته الذي لم ينل منه وهن التسعين وذاكرته التي لا تغفل تفصيلا: لقد أعطاني الرئيس الدكتور بشار الأسد وقتا ثمينا، برغم انهماكاته الكثيرة في هذه الظروف الدقيقة التي تلفّنا فيها المخاطر المصيرية. وأسعدني أنه يسأل ويسأل ويسأل، ويدقّق، ويستجلي بعض الملتبس من الوقائع. إنها مبادرة طيبة أحفظها له بكل تقدير.
الجلوس إلى نقولا زيادة ليس إبحارا في التاريخ فحسب، بكل ما يحفل به من دروس وعِبر، بل هو استشراف للمستقبل أيضا… فهذا الدارس الجاد الذي التهم مكتبات هائلة الغنى من المراجع وأمهات الكتب في التاريخ والسياسة والاقتصاد والتحوّلات والتقلّبات التي بدّلت مصائر الأمم، يكاد يكون نموذجا للعربي المصفّى، وتكاد سيرته الذاتية أن تكون تأريخا لما أصاب هذه الأمة في انتصاراتها وانتكاساتها الكثيرة: فهو فلسطيني سوري لبناني مصري يمني مغربي سوداني عراقي، هو »كل« العرب في رجل… عرفهم جميعا، وقرأ تاريخهم جميعا، وحاول أن يصحح وأن يستدرك، وأن يحمي الصورة المشرقة لماضي نضالاتهم حتى لا يذهب به تقاعسهم في الحاضر.
إنه أحد رموز »العروبة« بمعناها الأصفى والأنقى.
ثم إنه أديب يتذوّق الشعر والرواية والقصة، يطربه الصوت الرخيم وتؤنسه الموسيقى ويفتنه الجمال حيثما وجد.
بادرة الرئيس بشار الأسد تستحق التحية.. فليس أفضل، في هذه الفترة العصيبة، من أن نسمع »التاريخ«، وأن نستعين بدروسه على ما تفرض علينا مواجهته من مخاطر الاجتياح والإرهاب الدولي.
نقولا زيادة شاهد على العصر، وهو يقرأ الغد بوضوح لأنه يعرف الماضي والحاضر بدقة.
استذكرت سعد الله ونوس عندما خرج من لقائه (المباغت) الأخير مع الراحل الكبير حافظ الأسد. قال سعد الله: لقد عاتبني لأنني تأخرت عليه، ولامني لأنني لا أقسو في النقد أكثر.
نقولا زيادة في القصر: لقد استقبل بشار الأسد فلسطين ولبنان وسوريا وسائر العرب في رجل.

يمامة لموعد مع الثلج
لعله الثلج على حافة النافذة المزدوجة الزجاج، لعلها تلك اليمامة المفردة التي حاولت أن تستدفئ بالنور في غرفته ممتازة التكييف، لعلها وحدته، لعلها اللياقة…
يمكن أن يمضي في »تبرير« الاتصال فيعدد أسبابا أخرى، لكن واقع الأمر أنه رفع سماعة الهاتف وأخذ يطلب الرقم المسجل بخطها في مفكرته وقد أرفقته بكلمات بالكاد تمكن قراءتها: »لعلك، لعله، لعلنا«… ولقد ضحكت يومذاك وهي تترجم المضمر: »لعلك تتذكرنا، ذات سفر، لعله ينفعك في استذكارنا، لعلنا نلتقي..«.
حان الوقت لتصير »لعل« فعلا..
قالت عبر لهفتها: أعرف الفندق طبعا، أحتاج نصف ساعة لأكون عندك..
انتفخ غروره بفعل ترحيبها الحار، ثم انتبه الى أنها قادمة فتعجّل أن يفرغ من إعداد نفسه لاستقبالها، وقبل أن ينتهي من التأنّق باغته طرق على الباب ففتحه متوقعا أن تكون »مدبّرة الغرف« فإذا هي تقتحم ارتباكه معانقة، بينما هو يقف مصعوقا كتمثال من الثلج..
رشقته بألف سؤال معاً، بينما كان يحاول استجماع شجاعته لكي يعتذر لها عن فوضى الغرفة، ويفتح الباب بيسراه بينما يمناه تخطف معطفه عن المشجب، قبل أن يدعوها إلى النزول لتناول الإفطار…
في المصعد كرّر اعتذاره عن فوضى الغرفة، وعن اتصاله المبكر، وعن الثلج على النافذة، وعن عدم وجوده في استقبالها حين وصلت الى الفندق…
كان يتابع اعتذاراته وقد أغضى ببصره، فلم يلمح ما توالى على صفحة وجهها من علامات الضيق، ولكنه عندما فتح باب المصعد كان مضطرا لأن يسمعها وهي تودعه، بسرعة، معتذرة بأنها تذكرت موعدا كانت قد أعطته، بالأمس، ولكن لهفتها الى لقائه أسقطته من ذاكرتها.
لم يفطر. وعاد الى غرفته فلم يجد اليمامة عند حافة النافذة، واكتشف أن قشرة الثلج قد بدأت بالذوبان، فأغلق الستائر وعاد الى النوم حتى لا تراه اليمامة متى رجعت.

حوار قمري
تهادى قمر الساحل، وقد اكتمل بدراً، وهو يتأمل انعكاس صورته على صفحة البحر بكل تموجات النور الناعس والظلال المنكسرة على حواف الضوء قبل ان يقول برنة اعجاب بالذات: كل ليلة تخرج الجنيات الساحرات ليستحممن بفضتي. إنني هنا، قمران بدلاً من واحد… أغسل الشواطئ والوهاد والهضاب والنفوس، وأمنح الظلال للعشاق، وأبث الأمل بأن الظلام الى انتهاء. قمر للمتعة، وللحب قمر.
رد قمر السهل وقد جعل للأفق مركزاً مشعاً: اما أنا فلي ارجوحة يهدهدني فيها الجن بين الجبلين العاليين… وحين يطل موكبي الماسي على الناس الذين ينظمون عشقهم على مواقيتي، تفرد السعادة جناحيها ويسري الحب مع النسيم مشاعا، ويكتب العشاق حكاياتهم شعراً على صفحتي بماء عيونهم فيكون لي لون الوجد. ان ما تلمحونه من تضاريس وخطوط متعرجة او منكسرة على وجهي ليس إلا آهات عشق لم تجد رسولاً اكثر امانة مني.
ومن بعيد جاء صوت قمر الصحراء خافتاً كمن ملكته النشوة، فقال: لا يتحدثنّ احد عن الحب في حضرتي. أنا مصدر الإلهام، منبع الشعر، مستودع أسرار العشاق، مهذب النفوس والطبيعة الشرسة. تأملوا الفرق بين بدو النهار، بكل قسوة حياتهم وغلظة تصرفاتهم وجفاف خطابهم، وبين بدو الليلة القمرية، كم ترق لغتهم وكم تسمو مشاعرهم. انني اطرد الشياطين جميعا ما عدا شيطان الشعر الذي يدور يجمع قصص العشاق في دواوين الغزل بالعيون التي في طرفها حور، او بالتي ترتدي الليل ليكون وجهها صورتي وتجلسني في أحضانها على شرفة العشق وتجعلني بدراً وقد جللتني ضفيرتاها.

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
يبدّل الحب في طبائعنا وليس فقط في درجة اهتمامنا بأنفسنا. لكأننا نتهيّبه فنستعد له بما يليق. ترقّ أصواتنا، ونهتم بتصرفاتنا، ونختار كلماتنا من قاموس كان مخبوءا في انتظار يوم السعد، ونكتشف منازل القمر بينما كنا لا نميز كثيرا بين الأيام والاسابيع والشهور. الحب ساحر، أنعم علينا يا رب بمرتبة المسحورين.

Exit mobile version