طلال سلمان

هوامش

الذاكرة جحيم… والمسيرة من صبرا وشاتيلا إلى جنين؟!
من اين تبدأ المسيرة، والى اين ستمتد؟ هل بطول نهر الدم الذي تعززه »روافد« الشهداء و»سواقي« الضحايا الذين يصبغون ارضنا بالاحمر القاني كل يوم، ام هي محاولة لاستعادة الصور التي لا تنسى للذين »ابيدوا« في ليلة واحدة قبل عشرين عاماً في مخيم صبرا وشاتيلا ولم يجدوا من يدفنهم؟!
آلاف سقطوا هنا. آلاف سقطوا على الطريق. آلاف سقطوا هناك. آلاف الآلاف سيسقطون بعد. الرحلة طويلة طويلة، والطريق جائعة الى الدم، لا بد من إطعامها باستمرار لتبقى واضحة المعالم فلا يضيع القاصدون الى فلسطين.
الرحلة طويلة طويلة، والجمهور متعب، والزاد قليل…
تجمعنا حيث استدرجنا قرع الطبول. مشينا عبر غابة الاعلام حتى بلغنا نقطة الانطلاق. رايات كثيرة لأحزاب قليلة الجماهير. الكل يعرف الكل. يتصافحون، يتعانقون، مع ان واحدهم لا يغيب كثيرا عن الآخر. فالمناسبات على مدار الساعة، ولكل مناسبة مؤتمر او ندوة او لقاء جماهيري، والحضور هم الحضور. يتبادلون الادوار فحسب: مرة يكون هذا الطرف هو الداعي والاخرون ضيوفا، ومرة ثانية العكس بالعكس، وفي مرات يكون الداعون او المتنادون اكثر من الجمهور، فيعيد كل على مسامع الآخر ما كان سمعه منه، او ما سوف يسمعه منه في الندوة التالية.
لا بأس من ملء الفراغ بالفراغ. الكلمات الفارغة عمل احيانا.
ها هو الفراغ هنا يملأ بقرع الهواء. والفتية الحاملون الطبول فقدوا الشهية الى الهمس، وسيحتاجون إلى فترة تأهيل كي يسمعوا صوت الحب. هم طيبون، لكنهم لا يهتمون كثيرا للتمييز بين مناسبة وأخرى. يقال لهم: »عندنا احتفال غداً فتعالوا…« يأتون الى العمل. يحملون هذه »القرب« الاسكتلندية وينفخون كما كانوا يرون الجيش الاردني في احتفالاته الملكية، فيصدر نغم قريب الى الاهازيج البدوية فإذا غطاه قرع الطبول علا الصوت فصار جلاباً لمن نسي او لمن لا يشغله عمله او لمن تستهويه الفرجة، وبعد ان يندمج في المشهد يسأل عن المناسبة.
المسيرة مواكب، ليكون لكل موكب طليعة تتصدره وأعلام تتقدمه فتميزه و»هتّاف« محترف كفاءته في صوته الجهوري المستقطب، خصوصا اذا ما واكبته الحركة الخفيفة التي تجعله مسيطراً على موكبه، يستثيره فيستجيب وهو يردد خلفه »العجز« الخاص بالشعار الذي يطلق هو »صدره«.
***
كان الجميع في انتظار الاصدقاء الاوروبيين الذين يملكون ذاكرة اقوى من الذاكرة العربية.
بعض الذين جاؤوا كانوا اطفالا عندما وقعت المذبحة في مخيم صبرا وشاتيلا. مع ذلك فإنهم يتذكرون، لأنهم وجدوا من يذكرهم فيخبرهم تفصيلا: المقدمات المتصلة بأساس القضية. لماذا هذا الفلسطيني في بعض ضواحي بيروت؟! لماذا ليس في بلده؟! لماذا جاء إليه الجيش الاسرائيلي مجتاحا »الدولة« التي اسمها لبنان؟! لماذا قتل الآلاف من النساء والاطفال والشيوخ والرجال بغير تمييز، بعدما كان أجبر منظمة التحرير على الرحيل مع كل مقاتليها؟ ولماذا وجد من بين اللبنانيين من أعانه وساعده وقام بدور »المرشد« و»الدليل« وحفار القبور؟!
… أما في المدينة العريقة التي يكاد المخيم يشكل مدخلها فقلة ممن فيها يتذكرون، او يريدون ان يتذكروا. يريد اكثريتهم ان ينسوا عار العجز عن صد الاجتياح، عار التخلي العربي، عار الشيخوخة المبكرة للمقاومة، عار الفساد المستشري في صفوف القيادات الذي تدرج حتى اصاب المقاتلين فقتلهم من قبل ان يقاتلوا.
الضحايا لا يموتون. لكن الشهود قد يفضلون مقبرة الصمت على تعب الذاكرة المطالبة بالحساب.
بين الاصدقاء الذين جاؤوا الى مسيرة السنة العشرين مجموعات من السويد والنروج. وصل الدم الى اقصى شمال اوروبا عابراً إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وسويسرا وبعض ألمانيا. ذكريات المذبحة ساقية حمراء تحفر عميقا في كل ارض حتى تبلغ الضمائر التي لا تعترف بالحدود ولا تتجمد في قلب الهوية الوطنية.
أما العرب فيهربون الى النسيان… الذاكرة مقتلة. الذاكرة جحيم!
***
لا كلام عندنا نقوله غير ولائم الترحيب والاكرام والشكر على تجشم عناء السفر للمجيء الى ما نسيناه فعليا او ما نرغب في نسيانه حقا.
لا كلام عندنا غير الشعارات التي تعبت منا وتعب منها الجمهور ولم نتعب في إنجاز عظيم يستولد لنا غيرها.
… لكننا في المسيرة خجلنا من اصدقائنا الذين جاء بهم موقفهم التضامني من اقصى الارض: كانوا اكثر عدداً منا! وكانوا اكثر إدراكاً منا لدلالات المذبحة. ولعلهم كانوا اكثر صدقاً في التعبير عن هذا الموقف. لقد دفعوا ثمن تذاكرهم وأجور الفنادق من مالهم الخاص ليقولوا: ما حصل جريمة ضد الانسانية!
لم يهتم أحد منهم بأن يكون في المقدمة، وإن اهتموا بأن يعودوا بصور تذكارية لهم في »المقبرة« التي يمنع الغرض السياسي جعلها شاهداً على العصر.
***
في موعده من كل عام، مع بدايات الصيف، يصل »ستيفانو« بوداعته وابتسامته المشعة تفاؤلا ولحيته الشقراء التي يخالطها الشيب. يجلس في قلب الهدوء ويفتح حقيبته الممتلئة حتى حافتها بالاسماء والافكار والاقتراحات الجديدة وعناوين المنظمات وبعض النسخ الجديدة من صحيفة حزبه الشيوعي »المانيفستو«، إعداداً للمسيرة وإحياءً لذكرى المذبحة التي لا يجوز ان تتبخر بمرور الزمن.
يباشر »ستيفانو« بفرنسية مطعمة بالانكليزية وإن بقيت اللكنة تفضح هويته الايطالية عرض »مشروعه« لاحتفال السنة. يستمع الى المقترحات، يناقش، يسجل ما يراه جديداً. يعود الى روما، ومن هناك يمطرنا بالاضافات والتعديلات والاستدراكات.
هذه السنة جاء »ستيفانو« وقد اشتعل حماسة. قال: هي السنة العشرون، والاحتفال يجب ان يكون لائقاً بالذكرى وشهدائها، خصوصا ان المذبحة مستمرة، وما بدأه شارون في صبرا وشاتيلا يتواصل في جنين والخليل ونابلس ورفح وخان يونس ودير البلح وطولكرم ورام الله وقلقيلية وحتى آخر قرية في فلسطين.
فتح حقيبته الممتلئة حتى عينيها. كانت لائحة الوفود اطول من المعتاد. انضم الى الطليان اسبان وسويسريون وسويديون ونروجيون، قبل ان يلتحق بهم وفد فرنسي كبير.
لا هو سأل ولا نحن أجبنا عن السؤال الاخرس الذي دوّى في القاعة: أين العرب؟!
قال ستيفانو: لو اننا سنتبع خط الدم الذي يرسمه شارون بمجازره لتوجب علينا ان ننطلق بالمسيرة من صبرا وشاتيلا حتى جنين.
قال ستيفانو: لكن مجازر شارون يجب ألا تحجب عن اهتمامنا ما يعانيه الفلسطينيون في مخيماتهم بلبنان. هل لنا ان نحدث الرئيس خلال المقابلة عنها؟!
هززت برأسي بموافقة حزينة: حدث ولا حرج… الكلام مباح في لبنان!
***
بعد المقابلة، قال لي »ستيفانو« عبر ابتسامته: لقد استمع إليّ »الرئيس« باهتمام، لكنه لم يرد على ما اثرته حول اوضاع الفلسطينيين المأسوية في مخيماتهم اللبنانية.
بعد المقابلة قلت لستيفانو: الى اللقاء في العام المقبل. المهم ان تبقى لنا ذاكرة، وشكراً لأنكم تجيئون إلينا فتحيون ذاكرتنا التي اثقلتها المجازر السابقة والمجازر التي ستقع لاحقاً فصرنا كما الرئيس ننسى واقعنا الذي يستولد المزيد من المجازر!

مصادفات الجنية الزرقاء
مرة اخرى »سقط« عليه اللقاء عاصفة من العطر.
جاء اللقاء، مرة اخرى، من خارج التوقع، مكاناً وزماناً، واتخذ طابع المصادفة القدرية التي لها بهاء الوعد، حتى مع احتمال ان تكون التماعة برق في سماء صيفية لا غيم فيها يُثقله مطر الخصب.
في المرة الاولى، انشق عنها الليل الصحراوي البهيم، فنوّرت جنباته حتى صار مهرجاناً للفرح في الارض التي يمتنع عنها الفرح بحد السيف. يومها وصل الى طائرته محمولاً على جناح قصيدة بتراء.
أما اليوم، وهنا، حيث الليل هو المدى المفتوح للأنس والصفقة والمتعة والشعر والنغم والعشق والمصادفة التي يصيِّرها الشوق موعداً، فقد انبثقت من قلب النور الذي كان يعشي بصره حتى إنه رآها بقلبه قبل أن تلتقط عيناه ملامحها المشوّشة باستبعاد الاحتمال: ماذا تفعل الجنية الزرقاء في حديقة »القرود« الذين يكرهون الشعر ويرهنون الحب في البورصة ويزايدون على النساء بالمناقصة في رجولتهم؟!
حين أفاق من ارتباكه كانت تلملم لهفتها التي فاضت عن مدارهما حتى اجتذبت الآذان والعيون المتشوقة الى حكاية من خارج النص الرسمي للاحتفال… ومضى يسبح في خجله مبتعداً الى حيث »المنصة« وفي أذنيه صدى الوعد: سنتصل بالتأكيد، وسنلتقي خارج المصادفة!
تعجل الانصراف لكي يخلو له المكان لأن يلوم نفسه. هو رجل الساعة الاولى، فإذا ما نعس الوقت وسرى الخدر مغرياً بالخطوة الحاسمة قام مودعاً لأن رحلته مع الليل طويلة، فأحال الفراشات الى خفافيش وداس على الشعر وحطم النغم قبل ان يصل الى الباب يصفقه وراءه على خيبته المتكررة.
وحين ابتعد بما يكفي لاستعادة وضوح الرؤية ومجريات الحوار الابكم، لام نفسه كثيراً ولامها هي قليلاً، ثم نفض كتفيه كأنما ليلقي ما عليهما من اثقال الخيبة، وتمتم كأنما ليختم الحوار الداخلي بالحكمة: تكون لنا غداً مصادفة أخرى، العمر مصادفات!
وسمع من داخله صوتاً يسأله: وماذا إذا جاءت المصادفة الاخرى؟!
وأطرق يبحث في قلب الليل عن ملامح الجنية الزرقاء، لعله اذا وجدها مصادفة يكمل قصيدته البتراء!.

حكايات مبتورة
كاد ينفجر ضحكاً وهو يراها متشحة بثياب الحداد السوداء.
احس انه امام حفلة تنكرية، خصوصاً حين انتبه الى »ماركة« الثوب التي تركتها تبرز عند طرفه، والى النظارتين اللتين اشتهرت بهما أرملة جون كيندي في الموكب الذي صحبه الى مثواه الاخير.
همس له صديقه: لو رأى الفقيد هذا المشهد لضحك طويلاً وأضحكنا اكثر!
عند باب الخروج سمع من يقول لرفيق عزاء: لا يمكن انتحال الحزن…
أما عند الرصيف فقد سمع »البقال« يقول لجاره بصوت عال: حتى الموت لا يحوّل الشياطين الى ملائكة! له الرحمة!
***
قالت: أراك في كل رجل…
قال: اما أنا فلا أرى من النساء إلاك…
وضحكا معاً حين ضبط كل منهما الآخر يتابع باهتمام بعض الوافدين والوافدات الى المطعم الذي كانا قد اتخذا منه موقعاً ممتازاً لاكتشاف العالم!
***
قال وهو يسمعها تئن: ما لك! أحميك بعيوني!
انتشت طرباً فقالت: بل يكفي أن تحميني من عيونك!
من أقوال نسمة…
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا تعرّض حبيبك للتحدي، ولا تمتحنه في حبه كل يوم. الحب ثقة بالنفس، والحبيب بعض النفس. والشك منبع للغيرة، والغيرة محرقة للحب. أفضل ان أحترق حباً من ان اشعل الدنيا بالغيرة ممن لا أراه أكثر جدارة بالحب مني…

Exit mobile version